صبر

2022-10-11 - 1444/03/15

التعريف

الصبر لغة:

مصدر صبر يصبر وهو مأخوذ من مادّة (ص ب ر) الّتي تدلّ بحسب وضع اللّغة على معان ثلاثة: الأوّل الحبس، والثّاني: أعالي الشّيء، والثّالث: جنس من الحجارة، وقد اشتقّ الصّبر المراد هنا من المعنى الأوّل وهو الحبس، يقال: صبرت نفسي على ذلك الأمر أي حبستها، والمصبورة المحبوسة على الموت، ومن الباب ما ورد من نهيه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قتل شيء من الدّوابّ صبرا. وقال الرّاغب: الصّبر: الإمساك في ضيق، يقال صبرت الدّابّة بمعنى حبستها بلا علف، ويقال صبر فلان عند المصيبة صبرا وصبّرته أنا حبسته. قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) [الكهف: 28] أي احبس نفسك معهم. وقال عنترة يذكر حربا كان فيها:

فصبرت عارفة لذلك حرّة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلّع

يقول: حبست نفسا صابرة [لسان العرب (4/ 438) ] .

وقيل: أصل الكلمة من الشّدّة والقوّة، ومنه الصّبر للدّواء المعروف بشدّة مرارته وكراهته. قال الأصمعيّ: إذا لقي الرّجل الشّدّة بكمالها قيل لقيها بأصبارها، وقيل مأخوذ من الجمع والضّمّ، فالصّابر يجمع نفسه، ويضمّها عن الهلع. والتّصبّر: تكلّف الصّبر [الصحاح للجوهري (2/ 706، 707)، ولسان العرب، لابن منظور «ص ب ر» (4/ 438)، والمقاييس (3/ 329) ] .

أمّا الصّبر الجميل في قوله تعالى على لسان يعقوب عليه السّلام (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ) [يوسف: 18]، فالمراد به الصّبر الّذي لا جزع فيه ولا شكوى [تفسير القرطبي 9/، 152]، وقال ابن جريج عن مجاهد إنّ المعنى: لا أشكو ذلك لأحد [تفسير القرطبي 9/، 247]. وقال مجاهد أيضا: «الصّبر الجميل: الّذي لا جزع فيه» [تفسير ابن كثير مجلد 2 ص، 489] وقال أبو حيّان: المعنى: أتجمّل لكم في صبري فلا أعاشركم على كآبة الوجه، وعبوس الجبين، بل على ما كنت عليه معكم (من قبل) [تفسير البحر المحيط 5/، 290] وقال ابن تيميّة: الصّبر الجميل هو الّذي لا شكوى فيه ولا معه .

 

الصبر اصطلاحا:

قال الرّاغب: هو حبس النّفس على ما يقتضيه العقل والشّرع أو عمّا يقتضيان حبسها عنه. وقال الجاحظ: الصّبر عن الشّدائد خلق مركّب من الوقار والشّجاعة. وقال المناويّ: الصّبر: قوّة مقاومة الأهوال والآلام الحسّيّة والعقليّة [مفردات الراغب (5273)، والتوقيف على مهمات التعاريف (212) ] .

وقيل: هو حبس النّفس عن الجزع والتّسخّط، وحبس اللّسان عن الشّكوى، وحبس الجوارح عن التّشويش. وقيل: هو ترك الشّكوى من ألم البلوى لغير اللّه إلّا إلى اللّه؛ لأنّ اللّه تعالى أثنى على أيّوب عليه السّلام بالصّبر بقوله (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) [ص: 44] مع دعائه في دفع الضّرّ عنه بقوله: (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [الأنبياء: 83] فعلم أنّ العبد إذا دعا اللّه تعالى في كشف الضّرّ عنه لا يقدح في صبره. وقيل: هو خلق فاضل من أخلاق النّفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوّة من قوى النّفس الّتي بها صلاح شأنها وقوام أمرها. وقيل: هو الثّبات على أحكام الكتاب والسّنّة.

وقيل: هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل: هو الثّبات مع اللّه، وتلقّي بلائه بالرّحب والسّعة. وقيل: هو ثبات القلب عند موارد الاضطراب [مدارج السالكين (1/ 162، 163)، والتوقيف (212) ]، [انظر نضرة النعيم (6/2442) ] .

العناصر

1- فضل الصبر .

 

 

2- الحاجة إلى الصبر .

 

 

3- الدنيا دار ابتلاء .

 

 

4- أهمية الصبر والمصابرة لتحقيق النصر .

 

 

5- أنواع الصبر .

 

 

6- الصبر خلق الأنبياء والصالحين .

 

 

7- ثواب الصابرين .

 

 

8- تقلب المؤمن بين الشكر والصبر .

 

 

9- صبر السلف الصالح وشكرهم لله تعالى .

 

 

10- الاسباب المعينة على الصبر .

 

 

11- ثمرات الصبر على الأقدار المؤلمة .

 

الايات

1- قَالَ الله تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) [آل عمران:200].
2- قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155].
3- قالَ تَعَالَى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب) [الزمر:10].
4- قالَ تَعَالَى: (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [الشورى:43].
5- قالَ تَعَالَى: (اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153].
6- قالَ تَعَالَى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) [محمد:31].

الاحاديث

1- عن أبي مالكٍ الحارث بن عاصم الأشعريِّ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمان، والحَمدُ لله تَمْلأُ الميزَانَ، وَسُبْحَانَ الله والحَمدُ لله تَملآن - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَينَ السَّماوات وَالأَرْضِ، والصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدقةُ بُرهَانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والقُرْآنُ حُجةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائعٌ نَفسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُها) رواه مسلم.
2- عن أبي سَعيد سعدِ بن مالكِ بنِ سنانٍ الخدري رضي الله عنهما: أَنَّ نَاساً مِنَ الأَنْصَارِ سَألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَألوهُ فَأعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِندَهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أنْفْقَ كُلَّ شَيءٍ بِيَدِهِ: (مَا يَكُنْ عِنْدي مِنْ خَيْر فَلَنْ أدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْراً وَأوْسَعَ مِنَ الصَّبْر) مُتَّفَقٌ عليه.
3- عن أبي يحيى صهيب بن سنانٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (عَجَباً لأمْرِ المُؤمنِ إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خيرٌ ولَيسَ ذلِكَ لأَحَدٍ إلاَّ للمُؤْمِن: إنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيراً لَهُ، وإنْ أصَابَتْهُ ضرَاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْراً لَهُ) رواه مسلم.
4- عن أنَسٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم جَعلَ يَتَغَشَّاهُ الكَرْبُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رضي الله عنها: وَاكَربَ أَبَتَاهُ. فقَالَ: (لَيْسَ عَلَى أَبيكِ كَرْبٌ بَعْدَ اليَوْمِ) فَلَمَّا مَاتَ، قَالَتْ: يَا أَبَتَاهُ، أَجَابَ رَبّاً دَعَاهُ ! يَا أَبتَاهُ، جَنَّةُ الفِردَوسِ مَأْوَاهُ ! يَا أَبَتَاهُ، إِلَى جبْريلَ نَنْعَاهُ ! فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ رَضي الله عنها: أَطَابَتْ أنْفُسُكُمْ أنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم التُّرَابَ ؟! رواه البخاري.
5- عن أبي زَيدٍ أُسَامَةَ بنِ زيدِ بنِ حارثةَ مَوْلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وحِبِّه وابنِ حبِّه رضي اللهُ عنهما، قَالَ: أرْسَلَتْ بنْتُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إنَّ ابْني قَد احْتُضِرَ فَاشْهَدنَا، فَأَرْسَلَ يُقْرىءُ السَّلامَ، ويقُولُ: (إنَّ لله مَا أخَذَ وَلَهُ مَا أعطَى وَكُلُّ شَيءٍ عِندَهُ بِأجَلٍ مُسَمًّى فَلتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) فَأَرسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيهِ لَيَأتِينَّهَا. فقامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابتٍ، وَرجَالٌ رضي الله عنهم، فَرُفعَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الصَّبيُّ، فَأقْعَدَهُ في حِجْرِهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ، فَفَاضَتْ عَينَاهُ فَقالَ سَعدٌ: يَا رسولَ الله، مَا هَذَا ؟ فَقالَ: (هذِهِ رَحمَةٌ جَعَلَها اللهُ تَعَالَى في قُلُوبِ عِبَادِهِ) وفي رواية: (فِي قُلُوبِ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنَّما يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبادِهِ الرُّحَماءَ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَمَعنَى (تَقَعْقَعُ): تَتَحرَّكُ وتَضْطَربُ.
6- عن صهيب رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (كَانَ مَلِكٌ فيمَنْ كَانَ قَبلَكمْ وَكَانَ لَهُ سَاحِرٌ فَلَمَّا كَبِرَ قَالَ للمَلِكِ: إنِّي قَدْ كَبِرْتُ فَابْعَثْ إلَيَّ غُلاماً أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ؛ فَبَعثَ إِلَيْهِ غُلاماً يُعَلِّمُهُ، وَكانَ في طرِيقِهِ إِذَا سَلَكَ رَاهِبٌ، فَقَعدَ إِلَيْه وسَمِعَ كَلامَهُ فَأعْجَبَهُ، وَكانَ إِذَا أتَى السَّاحِرَ، مَرَّ بالرَّاهبِ وَقَعَدَ إِلَيْه، فَإذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذلِكَ إِلَى الرَّاهِب، فَقَالَ: إِذَا خَشيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وَإذَا خَشِيتَ أهلَكَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ.
فَبَيْنَما هُوَ عَلَى ذلِكَ إِذْ أَتَى عَلَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قَدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقَالَ: اليَوْمَ أعْلَمُ السَّاحرُ أفْضَلُ أم الرَّاهبُ أفْضَلُ ؟ فَأخَذَ حَجَراً، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كَانَ أمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ أمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِهِ الدّابَّةَ حَتَّى يَمضِي النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَها ومَضَى النَّاسُ، فَأتَى الرَّاهبَ فَأَخبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ الرَّاهبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليَومَ أفْضَل منِّي قَدْ بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ مَا أَرَى، وَإنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإن ابْتُلِيتَ فَلاَ تَدُلَّ عَلَيَّ؛ وَكانَ الغُلامُ يُبْرىءُ الأكْمَهَ وَالأَبْرصَ، ويداوي النَّاسَ مِنْ سَائِرِ الأَدْوَاء. فَسَمِعَ جَليسٌ لِلملِكِ كَانَ قَدْ عَمِيَ، فأتاه بَهَدَايا كَثيرَةٍ، فَقَالَ: مَا ها هُنَا لَكَ أَجْمعُ إنْ أنتَ شَفَيتَنِي، فَقَالَ: إنّي لا أشْفِي أحَداً إِنَّمَا يَشفِي اللهُ تَعَالَى، فَإنْ آمَنْتَ بالله تَعَالَى دَعَوتُ اللهَ فَشفَاكَ، فَآمَنَ بالله تَعَالَى فَشفَاهُ اللهُ تَعَالَى، فَأَتَى المَلِكَ فَجَلسَ إِلَيْهِ كَما كَانَ يَجلِسُ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَنْ رَدّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ ؟ قَالَ: رَبِّي، قَالَ: وَلَكَ رَبٌّ غَيري ؟ قَالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الغُلامِ، فَجيء بالغُلاَمِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: أيْ بُنَيَّ، قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ مَا تُبْرىء الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ ! فَقَالَ: إنِّي لا أَشْفي أحَداً، إِنَّمَا يَشفِي الله تَعَالَى. فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حَتَّى دَلَّ عَلَى الرَّاهبِ؛ فَجِيء بالرَّاهبِ فَقيلَ لَهُ: ارجِعْ عَنْ دِينكَ، فَأَبَى، فَدَعَا بِالمِنْشَارِ فَوُضِعَ المِنْشَارُ في مَفْرق رَأسِهِ، فَشَقَّهُ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بِجَليسِ المَلِكِ فقيل لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينِكَ، فَأَبَى، فَوضِعَ المِنْشَارُ في مَفْرِق رَأسِهِ، فَشَقَّهُ بِهِ حَتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بالغُلاَمِ فقيلَ لَهُ: ارْجِعْ عَنْ دِينكَ، فَأَبَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابهِ، فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا فَاصْعَدُوا بِهِ الجَبَل، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذِرْوَتَهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ وَإلاَّ فَاطْرَحُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ فَصَعِدُوا بِهِ الجَبَلَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أكْفنيهمْ بِمَا شِئْتَ، فَرَجَفَ بهِمُ الجَبلُ فَسَقَطُوا، وَجاءَ يَمشي إِلَى المَلِكِ، فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَا فَعَلَ أصْحَابُكَ ؟ فَقَالَ: كَفَانِيهمُ الله تَعَالَى، فَدَفَعَهُ إِلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اذْهَبُوا بِهِ فاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ وتَوَسَّطُوا بِهِ البَحْرَ، فَإنْ رَجعَ عَنْ دِينِهِ وإِلاَّ فَاقْذِفُوهُ. فَذَهَبُوا بِهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ أكْفِنيهمْ بمَا شِئْتَ، فانْكَفَأَتْ بِهمُ السَّفينةُ فَغَرِقُوا، وَجَاء يَمْشي إِلَى المَلِكِ. فَقَالَ لَهُ المَلِكُ: مَا فعلَ أصْحَابُكَ ؟ فَقَالَ: كَفَانيهمُ الله تَعَالَى. فَقَالَ لِلمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بقَاتلي حَتَّى تَفْعَلَ مَا آمُرُكَ بِهِ. قَالَ: مَا هُوَ ؟ قَالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعيدٍ وَاحدٍ وتَصْلُبُني عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْماً مِنْ كِنَانَتي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبدِ القَوْسِ ثُمَّ قُلْ: بسْم الله ربِّ الغُلاَمِ، ثُمَّ ارْمِني، فَإنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذلِكَ قَتَلتَني، فَجَمَعَ النَّاسَ في صَعيد واحدٍ، وَصَلَبَهُ عَلَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْماً مِنْ كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قَالَ: بِسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوقَعَ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ فَمَاتَ، فَقَالَ النَّاسُ: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، فَأُتِيَ المَلِكُ فقيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ مَا كُنْتَ تَحْذَرُ قَدْ والله نَزَلَ بكَ حَذَرُكَ. قَدْ آمَنَ النَّاسُ. فَأَمَرَ بِالأُخْدُودِ بأفْواهِ السِّكَكِ فَخُدَّتْ وأُضْرِمَ فيهَا النِّيرانُ وَقَالَ: مَنْ لَمْ يَرْجعْ عَنْ دِينهِ فَأقْحموهُ فيهَا، أَوْ قيلَ لَهُ: اقتَحِمْ فَفَعَلُوا حَتَّى جَاءت امْرَأةٌ وَمَعَهَا صَبيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أنْ تَقَعَ فيهَا، فَقَالَ لَهَا الغُلامُ: يَا أُمهْ اصْبِري فَإِنَّكِ عَلَى الحَقِّ !) رواه مسلم.
(ذِروَةُ الجَبَلِ): أعْلاهُ، وَهيَ - بكَسْر الذَّال المُعْجَمَة وَضَمِّهَا - و(القُرْقُورُ): بضَمِّ القَافَينِ نَوعٌ مِنَ السُّفُن وَ(الصَّعيدُ) هُنَا: الأَرضُ البَارِزَةُ وَ(الأُخْدُودُ) الشُّقُوقُ في الأَرضِ كَالنَّهْرِ الصَّغير، وَ(أُضْرِمَ): أوْقدَ، وَ(انْكَفَأتْ) أَي: انْقَلَبَتْ، وَ(تَقَاعَسَتْ): تَوَقفت وجبنت.
7- عن أنس رضي الله عنه، قَالَ: مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بامرأةٍ تَبكي عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ: (اتّقِي الله واصْبِري) فَقَالَتْ: إِليْكَ عَنِّي؛ فإِنَّكَ لم تُصَبْ بمُصِيبَتي وَلَمْ تَعرِفْهُ، فَقيلَ لَهَا: إنَّه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَتَتْ بَابَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابينَ، فقالتْ: لَمْ أعْرِفكَ، فَقَالَ: ((إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولى) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية لمسلم: (تبكي عَلَى صَبيٍّ لَهَا).
8- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: مَا لعَبدِي المُؤْمِنِ عِنْدِي جَزَاءٌ إِذَا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ مِنْ أهْلِ الدُّنْيَا ثُمَّ احْتَسَبَهُ إلاَّ الجَنَّةَ) رواه البخاري.
9- عن عائشةَ رضيَ الله عنها: أَنَّهَا سَألَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الطّاعُونِ، فَأَخْبَرَهَا أنَّهُ كَانَ عَذَاباً يَبْعَثُهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَنْ يشَاءُ، فَجَعَلَهُ اللهُ تعالى رَحْمَةً للْمُؤْمِنينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ في الطَّاعُونِ فيمكثُ في بلدِهِ صَابراً مُحْتَسِباً يَعْلَمُ أنَّهُ لا يصيبُهُ إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَهُ إلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ الشّهيدِ. رواه البخاري.
10- عن أنس رضي الله عنه، قَالَ: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنَّ الله عز وجل، قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عبدي بحَبيبتَيه فَصَبرَ عَوَّضتُهُ مِنْهُمَا الجَنَّةَ) يريد عينيه، رواه البخاري.
11- عن عطَاء بن أبي رَباحٍ، قَالَ: قَالَ لي ابنُ عَباسٍ رضي اللهُ عنهما: ألاَ أُريكَ امْرَأةً مِنْ أَهْلِ الجَنَّة ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: هذِهِ المَرْأةُ السَّوداءُ أتتِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إنّي أُصْرَعُ، وإِنِّي أتَكَشَّفُ، فادْعُ الله تَعَالَى لي. قَالَ: (إنْ شئْتِ صَبَرتِ وَلَكِ الجَنَّةُ، وَإنْ شئْتِ دَعَوتُ الله تَعَالَى أنْ يُعَافِيكِ) فَقَالَتْ: أَصْبِرُ، فَقَالَتْ: إنِّي أتَكَشَّفُ فَادعُ الله أنْ لا أَتَكَشَّف، فَدَعَا لَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
12- عن أبي عبد الرحمانِ عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يَحْكِي نَبِيّاً مِنَ الأَنْبِياءِ، صَلَواتُ الله وَسَلامُهُ عَلَيْهمْ، ضَرَبه قَوْمُهُ فَأدْمَوهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَومي، فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمونَ) مُتَّفَقٌ علَيهِ.
13- عن أبي سعيدٍ وأبي هريرةَ رضيَ الله عنهما، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَا يُصيبُ المُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ، وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ، وَلاَ حَزَنٍ، وَلاَ أذَىً، وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوكَةُ يُشَاكُهَا إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بِهَا مِنْ خَطَاياهُ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
و(الوَصَبُ): المرض.
14- عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: دخلتُ عَلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهو يُوعَكُ، فقلت: يَا رسُولَ الله، إنَّكَ تُوْعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، قَالَ: (أجَلْ، إنِّي أوعَكُ كمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُمْ) قلْتُ: ذلِكَ أن لَكَ أجْرينِ ؟ قَالَ: (أَجَلْ، ذلِكَ كَذلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصيبُهُ أذىً، شَوْكَةٌ فَمَا فَوقَهَا إلاَّ كَفَّرَ اللهُ بهَا سَيِّئَاتِهِ، وَحُطَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَ(الوَعْكُ): مَغْثُ الحُمَّى، وَقيلَ: الحُمَّى.
15- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ) رواه البخاري.
وَضَبَطُوا (يُصِبْ) بفَتْح الصَّاد وكَسْرها.
16- عن أنس رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ المَوتَ لضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فاعلاً، فَليَقُلْ: اللَّهُمَّ أحْيني مَا كَانَتِ الحَيَاةُ خَيراً لِي، وَتَوفّنِي إِذَا كَانَتِ الوَفَاةُ خَيراً لي) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
17- عن أبي عبد الله خَبَّاب بنِ الأَرتِّ رضي الله عنه، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظلِّ الكَعْبَةِ، فقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا ألاَ تَدْعُو لَنا ؟ فَقَالَ: (قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ في الأرضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأسِهِ فَيُجْعَلُ نصفَينِ، وَيُمْشَطُ بأمْشَاطِ الحَديدِ مَا دُونَ لَحْمِه وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ الله هَذَا الأَمْر حَتَّى يَسيرَ الرَّاكبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَموتَ لاَ يَخَافُ إلاَّ اللهَ والذِّئْب عَلَى غَنَمِهِ، ولكنكم تَسْتَعجِلُونَ) رواه البخاري.
وفي رواية: (وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَقَدْ لَقِينا مِنَ المُشْرِكِينَ شدَّةً).
18- عن ابن مسعودٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَومُ حُنَينٍ آثَرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نَاساً في القسْمَةِ، فَأعْطَى الأقْرَعَ بْنَ حَابسٍ مئَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَة بْنَ حصن مِثْلَ ذلِكَ، وَأَعطَى نَاساً مِنْ أشْرافِ العَرَبِ وآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ في القسْمَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: واللهِ إنَّ هذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُريدَ فيهَا وَجْهُ اللهِ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَتَيْتُهُ فَأخْبَرتُهُ بمَا قَالَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى كَانَ كالصِّرْفِ. ثُمَّ قَالَ: (فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لم يَعْدِلِ اللهُ وَرسولُهُ ؟) ثُمَّ قَالَ: (يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى قَدْ أُوذِيَ بأكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبر). فَقُلْتُ: لاَ جَرَمَ لاَ أرْفَعُ إِلَيْه بَعدَهَا حَدِيثاً. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وَقَوْلُهُ: (كالصِّرْفِ) هُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ المُهْمَلَةِ: وَهُوَ صِبْغٌ أحْمَر.
19- عن أنسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا أَرَادَ الله بعبدِهِ الخَيرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبدِهِ الشَّرَّ أمْسَكَ عَنْهُ بذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يومَ القِيَامَةِ).
وَقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإنَّ اللهَ تَعَالَى إِذَا أَحَبَّ قَوْماً ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ) رواه الترمذي، وَقالَ: حديث حسن.
20- عن أنسٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ ابنٌ لأبي طَلْحَةَ رضي الله عنه يَشتَكِي، فَخَرَجَ أبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي ؟ قَالَتْ أمُّ سُلَيم وَهِيَ أمُّ الصَّبيِّ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إليه العَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ منْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَتْ: وَارُوا الصَّبيَّ فَلَمَّا أَصْبحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبَرَهُ، فَقَالَ: (أعَرَّسْتُمُ اللَّيلَةَ؟) قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا)، فَوَلَدَتْ غُلاماً، فَقَالَ لي أَبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَراتٍ، فَقَالَ: (أَمَعَهُ شَيءٌ؟) قَالَ: نَعَمْ، تَمَراتٌ، فَأخَذَهَا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا في فِيِّ الصَّبيِّ، ثُمَّ حَنَّكَهُ وَسَمَّاهُ عَبدَ الله. مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
وفي رواية للبُخَارِيِّ: قَالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصارِ: فَرَأيْتُ تِسعَةَ أوْلادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا القُرْآنَ، يَعْنِي: مِنْ أوْلادِ عَبدِ الله المَولُودِ.
وَفي رواية لمسلمٍ: مَاتَ ابنٌ لأبي طَلْحَةَ مِنْ أمِّ سُلَيمٍ، فَقَالَتْ لأَهْلِهَا: لاَ تُحَدِّثُوا أَبَا طَلْحَةَ بابْنِهِ حَتَّى أَكُونَ أَنَا أُحَدِّثُهُ، فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْه عَشَاءً فَأَكَلَ وَشَرِبَ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أَحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا. فَلَمَّا أَنْ رَأَتْ أَنَّهُ قَدْ شَبِعَ وأَصَابَ مِنْهَا، قَالَتْ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، أَرَأَيتَ لو أنَّ قَوماً أعارُوا عَارِيَتَهُمْ أَهْلَ بَيتٍ فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُمْ أن يَمْنَعُوهُمْ ؟ قَالَ: لا، فَقَالَتْ: فَاحْتَسِبْ ابْنَكَ، قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: تَرَكْتِني حَتَّى إِذَا تَلطَّخْتُ، ثُمَّ أخْبَرتني بِابْنِي؟! فانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبَرَهُ بِمَا كَانَ فَقَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: (بَارَكَ اللهُ في لَيْلَتِكُمَا)، قَالَ: فَحَمَلَتْ. قَالَ: وَكانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في سَفَرٍ وَهيَ مَعَهُ، وَكَانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى المَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ لاَ يَطْرُقُهَا طُرُوقاً فَدَنَوا مِنَ المَدِينَة، فَضَرَبَهَا المَخَاضُ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْهَا أَبُو طَلْحَةَ، وانْطَلَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قَالَ: يَقُولَ أَبُو طَلْحَةَ: إنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ أَنَّهُ يُعْجِبُنِي أنْ أخْرُجَ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ وَأَدْخُلَ مَعَهُ إِذَا دَخَلَ وَقَدِ احْتَبَسْتُ بِمَا تَرَى، تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أَبَا طَلْحَةَ، مَا أَجِدُ الَّذِي كُنْتُ أجدُ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا وَضَرَبَهَا المَخَاضُ حِينَ قَدِمَا فَوَلدَت غُلامَاً. فَقَالَتْ لِي أمِّي: يَا أنَسُ، لا يُرْضِعْهُ أحَدٌ حَتَّى تَغْدُو بِهِ عَلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا أصْبَحَ احْتَمَلْتُهُ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم..وَذَكَرَ تَمَامَ الحَدِيثِ.
21- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَملكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(وَالصُّرَعَةُ): بضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وأَصْلُهُ عِنْدَ العَرَبِ مَنْ يَصْرَعُ النَّاسَ كَثيراً.
22- عن سُلَيْمَانَ بن صُرَدٍ رضي الله عنه، قَالَ: كُنْتُ جالِساً مَعَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وَرَجُلانِ يَسْتَبَّانِ، وَأَحَدُهُمَا قدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، فَقَالَ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إنِّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذ باللهِ منَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، ذَهَبَ منْهُ مَا يَجِدُ). فَقَالُوا لَهُ: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (تَعَوّذْ باللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
23- عن معاذِ بنِ أَنسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (مَنْ كَظَمَ غَيظاً، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أنْ يُنْفِذَهُ، دَعَاهُ اللهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالى عَلَى رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَومَ القِيامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ العِينِ مَا شَاءَ) رواه أَبو داود والترمذي، وَقالَ: (حديث حسن).
24- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ رَجُلاً قَالَ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصِني. قَالَ: (لا تَغْضَبْ) فَرَدَّدَ مِراراً، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ) رواه البخاري.
25- عن أبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا يَزَالُ البَلاَءُ بالمُؤمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ في نفسِهِ ووَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى الله تَعَالَى وَمَا عَلَيهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي، وَقالَ: حديث حسن صحيح.
26- عن ابْنِ عباسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أخِيهِ الحُرِّ بنِ قَيسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمرُ رضي الله عنه، وَكَانَ القُرَّاءُ أصْحَابَ مَجْلِس عُمَرَ رضي الله عنه وَمُشاوَرَتِهِ كُهُولاً كانُوا أَوْ شُبَّاناً، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لابْنِ أخيهِ: يَا ابْنَ أخِي، لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأمِيرِ فَاسْتَأذِنْ لِي عَلَيهِ، فاسْتَأذَن فَأذِنَ لَهُ عُمَرُ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: هِي يَا ابنَ الخَطَّابِ، فَواللهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلا تَحْكُمُ فِينَا بالعَدْلِ. فَغَضِبَ عُمَرُ رضي الله عنه حَتَّى هَمَّ أنْ يُوقِعَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الحُرُّ: يَا أميرَ المُؤْمِنينَ، إنَّ الله تَعَالَى قَالَ لِنَبيِّهِ صلى الله عليه وسلم: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:198] وَإنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، واللهِ مَا جَاوَزَهاَ عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا، وكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى. رواه البخاري.
27- عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، قَالَ: (إنَّهَا سَتَكونُ بَعْدِي أثَرَةٌ وأُمُورٌ تُنْكِرُونَها !) قَالُوا: يَا رَسُول الله، فَمَّا تَأْمُرُنا ؟ قَالَ: (تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسأَلُونَ الله الَّذِي لَكُمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(وَالأَثَرَةُ): الانْفِرادُ بالشَّيءِ عَمنَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ.
28- عن أبي يحيى أُسَيْد بن حُضَير رضي الله عنه: أنَّ رَجُلاً مِنَ الأنْصارِ، قَالَ: يَا رسولَ الله، ألاَ تَسْتَعْمِلُني كَمَا اسْتَعْمَلْتَ فُلاناً، فَقَالَ: (إنكُمْ سَتَلْقَونَ بَعْدِي أَثَرَةً فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوني عَلَى الحَوْضِ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
(وَأُسَيْدٌ): بضم الهمزة. (وحُضيْرٌ): بحاءٍ مهملة مضمومة وضاد معجمة مفتوحة، والله أعلم.
29- عن أبي إبراهيم عبدِ الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم في بعْضِ أيامِهِ التي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، انْتَظَرَ حَتَّى إِذَا مالَتِ الشَّمْسُ قَامَ فيهمْ، فَقَالَ: (يَا أيُّهَا النَّاسُ، لا تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلُوا الله العَافِيَةَ، فَإِذَا لقيتُمُوهُمْ فَاصْبرُوا، وَاعْلَمُوا أنّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيوفِ).
ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانصُرْنَا عَلَيْهمْ) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ

الاثار

1- قال عمر بن عبد العزيز: ما أنعم الله على عبد نعمةً، فانتزعها منه، فعاضه من ذلك الصبر إلا كان ما عاضه الله أفضل مما انتزع منه، ثم قرأ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [عدة الصابرين] .

 

2- كان سهل يقول: الصبر تصديق الصدق .

 

3- قال أيضاً: لم يمدح الله تعالى أحدا إلا من صبر للبلاء والشدة فبذلك يثني عليه؛ فالصالحون في المؤمنين قليل، والصادقون في الصالحين قليل، والصابرون في الصادقين قليل .

 

4- قال سفيان الثوري: ثلاثة من الصبر: لا تتحدث بمصيبتك، ولا بوجعك، ولا تزك نفسك [إحياء علوم الدين] .

 

5-قال الرازي: من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذى, فأمره بالصبر [مفاتيح الغيب] .

 

6- يقول أبو طالب المكي: معنى الصبر: حبس النفس عن السعي في هواها، وحبسها أيضاً عن مجاهدتها، وحبسها أيضاً عن مجاهدتها لمرضاة مولاها بمثل ما يوجب المجاهدة على قدر ما يبتلي به العبد؛ لأن المجاهدة على قدر البلاء, وأيضاً حبس النفس على دوام الطاعة، وصبرها عن شرَهِ الطبع الذي يظهر سوء الأدب بين يدي الرب سبحانه، وصبرها على حسن الأدب في المعاملة [قوت القلوب لأبي طالب المكي] .

 

7- عن عمر رضي اللّه عنه قال: وجدنا خير عيشنا الصّبر [الدر المنثور (1/ 163) ] .

 

8- قال عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه: الصّبر مطيّة لا تكبو [عدة الصابرين لابن القيم (17) ] .

 

9- عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما: أنّ ثلاثة نفر جاءوه فقالوا: يا أبا محمّد إنّا واللّه! ما نقدر على شيء: لا نفقة ولا دابّة ولا متاع. فقال لهم: ما شئتم، إن شئتم رجعتم إلينا فأعطيناكم ما يسّر اللّه لكم، وإن شئتم ذكرنا أمركم للسّلطان، وإن شئتم صبرتم [مسلم (2979) ] .

 

10- عن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أنّه قال: الصّبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كلّه [الزهد لوكيع بن الجراح (2/ 456) وقال محققه: رجاله ثقات وقد صح وقفه].

 

11- قال سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز عند ما مات ولد سليمان: أيصبر المؤمن حتّى لا يجد لمصيبته ألما؟ قال يا أمير المؤمنين: لا يستوي عندك ما تحبّ وما تكره، ولكنّ الصّبر معوّل المؤمن [الدر المنثور للسيوطي (1/ 378)] .

 

12- قيل لربيعة بن عبد الرّحمن: ما منتهى الصّبر؟ قال: يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه [الدر المنثور للسيوطي (1/ 378) ] .

 

13- وقال أبو عليّ الدّقّاق: فاز الصّابرون بعزّ الدّارين. لأنّهم نالوا من اللّه معيّته فإنّ اللّه مع الصّابرين [مدارج السالكين (2/ 166) ] .

القصص

1- حين جاء أبناء يعقوب - عليه السلام - إلى أبيهم عشاء يبكون، وقد زعموا أن الذئب قد أكل يوسف وجاءوا على قميصه بدم كذب خاطبهم بالقول: (فصبر جميل).
2- يروي ابن حجر في الإصابة أن عمران بن حصين- رضى الله عنه- أصابه مرض أقعده ثلاثين سنة، وما اشتكى حتى إلى أهله، فكانت الملائكة تصافحه وقت السحر.
3- روى الإمام أحمد عن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- أنه لما كان يوم أحد أقبلت امرأة تسعى حتى إذا كادت أن تشرف على القتلى فكره النبي صلى الله عليه وسلم أن تراهم، فقال: المرأة المرأة. قال الزبير رضي الله عنه: فتوسّمت أنها أمي صفية. قال: فخرجت أسعى إليها فادركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى. قال: فَـلَدَمَتْ في صدري ! وكانت امرأة جلدة ! قالت: إليك لا أرض لك! قال فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم عليك.
قال: فوقفت، وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة فقد بلغني مقتله فكفنوه فيهما، قال: فجئنا بالثوبين لنكفن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجل من الأنصار قتيل قد فعل به كما فعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضة وحياء أن نكفِّن حمزة في ثوبين والأنصاري لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوب وللأنصاري ثوب. فقدرناهما فكان أحدهما أكبر من الآخر فأقرعنا بينهما فكفّنا كل واحد منهما في الثوب الذي صار له.
4- الرُّبيِّع بنت النضر أخت أنس بن مالك رضي الله عنها وعن أخيها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقالت: يا نبي الله؛ ألا تحدثني عن حارثة؟ -وكان قتل يوم بدر أصابه سهم غرب- فإن كان في الجنة صبرتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدت عليه في البكاء.
قال: يا أم حارثة إنـها جنان في الجنة، وإن ابنك أصاب الفـردوس الأعلى. رواه البخاري.
5- روى ابن جرير الطبري في التاريخ عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بامرأة من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأُحد، فلما نُعوا لها، قالت: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالوا: خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرنيه حتى أنظر إليه، فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جلل.
6- يقول الحافظ أبو نعيم: لما توفي ذر بن عمر الهمداني، جاءه أبوه، فوجده قد مات، فوجد أهل بيته يبكون، فقال: ما بكم؟ قالوا: مات ذر، فقال: الحمد لله، والله ما ظلمنا ولا قهرنا ولا ذهب لنا بحق، وما أريد غيرنا بما حصل لذر، ومالنا على الله من مأثم، ثم غسَّله وكفَّنه، وذهب ليصلي مع المصلين، ثم ذهب به إلي المقبرة، ولما وضعه في القبر قال: رحمك الله يا بني، قد كنت بي بارًا، وكنت لك راحمًا، ومالي إليك من وحشة ولا إلى أحد بعد الله فاقة، والله يا ذر ما ذهبت لنا بعز، وما أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني –والله- الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر –والله- لولا هول يوم المحشر لتمنيت أني صِرْت إلى ما إليه صرت. يا ليت شعري ماذا قيل لك وبماذا أجبت؟ ثم يرفع يديه أخري باكيًا، اللهم إنك قد وعدتني الثواب إن صبرت، اللهم ما وهبته لي من أجر فاجعله لذر صلة مني، وتجاوز عنه، فأنت أرحم به مني، اللهم إني قد وهبت [لذر] إساءته فهب له إساءته فأنت أجود مني وأكرم ثم انصرف ودموعه تقطر على لحيته
انصرف وهو يقول: يا ذر قد انصرفنا وتركناك، ولو أقمنا ما نفعناك، وربنا قد استودعناك، والله يرحمنا وإياك. ما الذي ثبت هذا الرجل إلا الإيمان؟.
7- قال الدكتور خالد بن عبد الله الجبير استشاري وجراح أمراض القلب حفظه الله: أجريت عملية لطفل يبلغ من العمر سنتين ونصف، وبعد يومين وبينما هو جالس بجوار أمه بحالة جيدة إذا به يُصاب بنزيف في القصبة الهوائية، ويتوقف قلبه لمدة خمس وأربعون دقيقة وتتردى حالته، ثم أتيت إلى أمه فقلت لها: إن ابنك هذا أعتقد أنه مات دماغياً.
فقالت: الحمد لله؛ اللهم اشفه إن كان في شفائه خيراً له، وتركتني، ولم تسألني عن حالته.
وبعد عشرة أيام بدأ ابنها يتحرك وبعد اثنا عشر يوماً يُصاب بنزيف آخر كما أصيب من قبل، ويتوقف قلبه كما توقّف في المرة الأولى، وقلت لها ما أصابه. فقالت: الحمد لله، ثم ذهبت بمصحفها تقرأ عليه، ولا تزيد عليه، وتكرر هذا المنظر ستّ مرّات.
وبعد شهرين ونصف، وبعد أن تمّت السيطرة على نزيف القصبة الهوائية
فإذا به يُصاب بخرّاج في رأسه تحت دماغه لم أرَ مثله، وحرارته تكون في الأربعين وواحد وأربعين درجة، فقلت لها: ابنك الظاهر أنه سوف يموت، فقالت: الحمد لله. اللهم إن كان في شفائه خيراً فاشفه يا رب العالمين، وذهبت وانصرفت عنّي بمصحفها.
وبعد أسبوعين أو ثلاثة شفا الله ابنها
ثم بعد ذلك أصيب بفشل كلوي كاد أن يقتله، فقلت لها ما قلت
فقالت: الحمد لله؛ اللهم إن كان في شفائه خيراً له فاشفه.
وبعد ثلاثة أسابيع شفاه الله من مرض الكلى.
وبعد أسبوع إذا به يُصاب بالتهاب شديد في الغشاء البلوري حول القلب، وصديد لم أرَ مثله، فتحت صدره حتى بان وظهر قلبه؛ ليخرج الصديد.
فقلت لها: ابنك الظاهر أنه ليس فيه أمل للحياة.
قالت: الحمد لله.
وبعد ستة أشهر ونصف يخرج ابنها من العناية المركزة، لا يرى، ولا يتكلّم، ولا يسمع، ولا يتحرّك؛ كأنه جثة هامدة، وصدره مفتوح، وقلبه يُرى إذا نُزِع الغيا، فقالت: الحمد لله.
وبعد شهرين ونصف خرج ابنها من المستشفى يسبقها مشياً سليماً معافى، كأنه لم يُصب.
فكان العجب بعد سنة ونصف
أن أتتني هي وزوجها ومعهما ولدان، وصار عمر ابنها المصاب أربع سنوات، وكان زوجها كلما أراد أن يتكلّم ويسألني، قالت: اتركه، وتوكّل على الله.
وقلت لزوجها ممازحاً: ما شاء الله هذا الابن العشر -أي ابنها الصغير-، فضحك، وقال: يا دكتور هذا الثاني! فإننا بقينا سبعة عشر سنة في عقم نبحث عن علاج فرزقنا الله هذا الولد ثم ابتلانا به، فرزقنا ربنا الشفاء فهو المنان الكريم.

الاشعار

وَقَوْلِي كُلَّمَا جَشَـأَتْ وَجَـاشَتْ *** مَكَانَـكِ تُحْمَـدِي أَوْ تَسْتَرِيحِي
[عمرو بن الإطنابة]

الصَّبْـرُ مِثْلُ اسْمِـهِ مُـرٌّ مَذَاقَتُـهُ *** لَكِـنْ عَوَاقِبَـهُ مَحْمُودَةَ الأَثَـرِ
وَقَلَّ مَـنْ جَـدَّ فِي أَمْـرٍ يُطَالِبُـهُ *** فَاسْتَصْحَبَ الصَّبْرَ إِلا فَازَ بِالظَّفَرِ
[محمد بن بشير]

أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ *** وَمُـدْمِنِ الْقَرْعِ للأَبْوَابِ أَنْ يلِجَا
[محمد بن زنجي البغدادي]

إِنَّ الأُمـورَ إِذَا انْسَـدَّتْ مَسَالِكُهَا *** فَالصَّبْرُ يَفْتَحُ مِنْهَا كُـلَّ مَا ارْتَتَجَا
لا تَيْأَسَـنَّ وَإِنْ طَالَـتْ مُطَالَبَـةٌ *** إِذَا اسْتَعَنْتَ بِصَبْرٍ أَنْ تَرَى فَرَجَـا
[محمد بن بشير]

وَمِنْ خَيْـرِ مَا فِينَا مِنَ الأَمْـرِ أَنَّنَا *** مَتَى مَا نُوَافِي مَوْطِنَ الصَّبْرِ نَصْبِر
[نافع الغنويّ]

إِذَا مَا أَتَاكَ الدَّهْـرُ يَوْمًـا بِنَكْبَـةٍ *** فَأَفْرِغْ لَهَا صَبْراً وَأَوْسِعْ لَهَا صَدْرًا
فَإِنَّ تَصَارِيـفَ الزَّمَـانِ عَجِيبَـةٌ *** فَيَوْمًا تَرَى يُسْرًا ويَوْمًا تَرَى عُسْرَا
[..........]

إِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الصَّبْرِ فَاصْطَبِـرْ *** عَلَى الْحَقِّ ذَاكَ الصَّبْرُ تُحْمَدُ عُقْبَاهُ
[..........]

وَعَاقِبَـةُ الصَّبْـرِ الْجَمِيلِ جَمِيلَـةٌ *** وَأَحْسَـنُ أَخْلاقِ الرِّجَالِ التَّفَضُّلُ
[عليُّ بن الجَهْمِ]

إِنِّـي أُرِي لِلشَّـامِتِيـنَ تَجَلُّـدِي *** وَإِنِّي لَكَالطَّاوِي الْجَنَاحِ عَلَى كَسْرِ
يُرَى وَاقِعًا لَمْ يُدْرَ مَا تَحْتَ رِيشِـهِ *** وَإِنْ نَاءَ لَمْ يَسْتَطِعْ نُهُوضًا إِلَى وَكْرِ
[نُوَيْرَة بْن حُصين]

يُصَـابُ الْفَتَى فِـي أَهْلِـهِ بِرَزِيَّةٍ *** وَمَا بَعْدَهَـا مِنْهَا أَجَـلُّ وَأَعْظَمُ
فَإِنْ يَصْطَبِرْ فِيهَـا فَأَجْـرٌ مُوَفَّـرٌ *** وَإِنْ يَكُ مِجْزَاعًا فَـوِزْرٌ مُقَـدَّمُ
[أبو الفضل الميكاليّ]

خُلِقْنَـا رِجَـالاً لِلتَجَلُّـدِ وَالأَسَى *** وَتِلْكَ الغَـوَانِي للْبُكَـا وَالمَآتِـمِ
[..........]

إِنْ يَأْخُذِ السُّقْمُ مِنْ جِسْمِي مَآخِذَهُ *** وَأَصْبَحَ الْقَوْمُ مِنْ أَمْرِي عَلَى خَطَرِ
[ابن جريّ]

حُشْدٌ عَلَى الْحَقِّ عَنْ قَوْلِ الْخَنَا خُرُسٌ *** وَإِنْ أَلَمَّتْ بِهِـمْ مَكْرُوهَةٌ صَبَرُوا
[الأخطل]

إِلَى كَمْ وَكَـمْ أَشْيَـاءَ مِنْكَ تُرِيبُنِي *** أُغَمِّضُ عَنْهَا لَسْتُ عَنْهَا بِذِي عَمَى
[.........]

تَمَسَّكْ بِحَبْـلِ الصَّبْرِ فِي كُلِّ كُرْبَةٍ *** فَلا عُسْـرَ إِلا سَوْفَ يَعْقُبُهُ يُسْرُ
[جميل صدقي الزهاويّ]

الصَّبْـرُ أَفْضَـلُ شَيءٍ تَسْتَعِينُ بِـهِ *** عَلَى الزَّمَـانِ إِذَا مَا مَسَّكَ الضَّرَرُ
[ابن الصَّلْت]

فَإِنْ تَصْبِرِ النَّفْـسُ تَلْـقَ السُّـرُورَ *** وَإِنْ تَجْزَعِ النَّفْسُ أَشْقَـى لَهَـا
[الخنساء]

الدراسات

متفرقات

1- قال ابن تيمية رحمه الله قوله: أمر الله الرسل, وهم أئمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: بالصبر. وعقّب بقوله: فإذا كانت الأنبياء في حاجة إلى الصبر لأداء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فأنى لغيرهم أن يقدروا عليه بدونه! [مجموع الفتاوى] .

 

2- قال ابن القيم رحمه الله: ولما كان الإيمان نصفين نصف صبر ونصف شكر كان حقيقا على من نصح نفسه وأحب نجاتها وآثر سعادتها أن لا يهمل هذين الأصلين العظيمين ولا يعدل عن هذين الطريقين القاصدين وأن يجعل سيره إلى الله بين هذين الطريقين ليجعله الله يوم لقائه مع خير الفريقين [عدة الصابرين]

 

3- قال ابن تيميّة رحمه اللّه تعالى: قد ذكر اللّه الصّبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعا. وقرنه بالصّلاة في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) [البقرة: 45]، وجعل الإمامة في الدّين موروثة عن الصّبر واليقين بقوله: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24]. فإنّ الدّين كلّه علم بالحقّ وعمل به، والعمل به لا بدّ فيه من الصّبر. بل وطلب علمه يحتاج إلى الصّبر. كما قال معاذ بن جبل رضي اللّه عنه: عليكم بالعلم فإن طلبه للّه عبادة، ومعرفته خشية، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، ومذاكرته تسبيح، به يعرف اللّه ويعبد، وبه يمجّد اللّه ويوحّد، يرفع اللّه بالعلم أقواما يجعلهم للنّاس قادة وأئمّة يهتدون بهم وينتمون إلى رأيهم. فجعل البحث عن العلم من الجهاد، ولا بدّ في الجهاد من الصّبر، ولهذا قال تعالى: (وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) [سورة العصر]، وقال تعالى: (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) [ص: 45] . فالعلم النّافع هو أصل الهدى، والعمل بالحقّ هو الرّشاد، وضدّ الأوّل الضّلال، وضدّ الثّاني الغيّ. فالضّلال العمل بغير علم، والغيّ اتّباع الهوى، قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى * ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى) [النجم: 1- 2] فلا ينال الهدى إلّا بالعلم ولا ينال الرّشاد إلّا بالصّبر. ولهذا قال عليّ: «ألا إنّ الصّبر من الإيمان بمنزلة الرّأس من الجسد، فإذا انقطع الرّأس بان الجسد، ثمّ رفع صوته فقال ألا لا إيمان لمن لا صبر له [البصائر (3/ 376) ] .

 

4- قال ابن تيمية: ذكر اللّه تعالى في كتابه: الصّبر الجميل، والصّفح الجميل، والهجر الجميل. الصّبر الجميل: هو الّذي لا شكوى فيه ولا معه، والصّفح الجميل: هو الّذي لا عتاب معه، والهجر الجميل: هو الّذي لا أذى معه [مدارج السالكين (2/ 167) ] .

 

5- قال الفيروز اباديّ: قيل: الصّبر: الوقوف مع البلاء بحسن الأدب، وقيل: هو الفناء في البلوى، بلا ظهور شكوى، وقيل: إلزام النّفس الهجوم على المكاره، وقيل: المقام مع البلاء بحسن الصّحبة، كالمقام مع العافية [بصائر ذوي التمييز (3/ 377) ] .

التحليلات

الإحالات

1- الآداب - البيهقي تحقيق عبد القدوس نذير ص 400 مكتبة الرياض الطبعة الأولى 1407 .

2- الآداب الشرعية - ابن مفلح الحنبلي 2/185 مؤسسة قرطبة .

3- الأخلاق الإسلامية - عبد الرحمن الميداني 2/293 دار القلم الطبعة الأولى 1399 .

4- أدب الدنيا والدين - الماوردي تحقيق مصطفى السقا ص 276 دار الكتب العلمية .

5- الاستقامة - ابن تيمية تحقيق محمد رشاد سالم 2/271 جامعة محمد بن سعود الطبعة الأولى 1403 .

6- أهمية الجهاد فى نشر الدعوة الإسلامية - علي العلياني ص 102 دار طيبة الطبعة الأولى 1405 .

7- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف المنذري تحقيق مصطفى عمارة 4/274 دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1406 .

8- تكاليف القلب السليم محمد العلي ص 263 مكتبة الصحابة الإسلامية الطبعة الأولى 1405 .

9- تهذيب مدارج السالكين - عبد المنعم العزي ص 351 وزارة العدل والشئون الإسلامية بالإمارات .

10- جامع الأصول - ابن الأثير 6/429 الرئاسة العامة 1389 .

11- الخطب الطوالع والحكم الجوامع - إبراهيم الناصر 1/254 , 2/158 الطبعة الثانية 1403 .

12- خلق المسلم - محمد الغزالي ص 128 دار القلم الطبعة الثانية 1400 .

13- دليل الفالحين - ابن علان 1/163 دار الكتاب العربى .

14- ذم الهوى - ابن الجوزي ص 52 دار الكتب الحديثة الطبعة الأولى 1381 .

15- الروح - ابن القيم تحقيق عبد الفتاح محمود عمر ص 325 دار الفكر – عمان 1985 .

16- الرياض الناضرة - عبد الرحمن السعدي ص 79 مكتبة المعارف الرياض الطبعة الثالثة 1400 .

17- زاد المريض والمبتلى - زهير الزميلي ص 23 دار الفرقان الطبعة الأولى 1409 .

18- الصبر الجميل - سليم الهلالي دار ابن الجوزى . 19- الصبر فى القرآن - يوسف القرضاوى .

20- صيد الخاطر - ابن الجوزي ص 156 .

21- الضياء اللامع من الخطب الجوامع - ابن عثيمين ص 110 الرئاسة العامة الطبعة الثانية 1400 .

22- طريق الدعوة فى ظلال القرآن - أحمد فائز 1/198 مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1379 .

23- طريق الهجرتين - ابن القيم ص 264 , 341 المكتبة العلمية الطبعة الأولى 1402 .

24- طريق الهجرتين - ابن القيم تحقيق عمر بن محمود أبو عمر ص 437 دار ابن القيم الدمام الطبعة الأولى 1409 .

25- عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين - ابن القيم الجوزية تحقيق نعيم زرزور دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1403 .

26- غذاء الألباب لشرح منظومة الآداب - السفاريني 2/522 مؤسسة قرطبة .

27- فتح الباري - ابن حجر 3/118 , 10/511 , 11/302 دار الفكر .

28- كتاب الزهد - وكيع بن الجراح تحقيق عبد الرحمن الفريوائي 2/449 مكتبة الدار الطبعة الأولى 1404 .

29- مجموع الفتاوى - ابن تيمية 36/184 الطبعة الأولى 1398 .

30- المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ عبد الرحمن السعدي الفقة المجلد الأول 4/177 , ثقافة 5/142 , 424 مركز صالح بن صالح الثقافى 1411 .

31- مختصر شعب الإيمان أبو المعالي القزويني تحقيق عبد القادر الأرناؤوط ص 131 دار ابن كثير الطبعة الثانية 1405 .

32- مختصر منهاج القاصدين - ابن قدامه المقدسي التحقيق على عبد الحميد ص 342 دار الفيحاء- دار عمار الطبعة الأولى 1406 .

33- مدارج السالكين - ابن القيم تحقيق محمد حامد الفقي 2/152 دار الكتاب العربى 1392 .

34- المنهج المسلوك فى سياسة الملوك عبد الرحمن الشيزري ص 309 مكتبة المنار الطبعة الأولى 1407 .

35- موارد الظمآن لدروس الزمان - عبد العزيز السلمان 2/43 الطبعة الثامنة 1408 .

36- موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين – القاسمي ص 414 دار النفائس الطبعة الرابعة 1405 .

37- الوصايا - المحاسبي ص 269 دار الكتب العلمية الطبعة الأولى 1406 .

38- نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم المؤلف : عدد من المختصين بإشراف الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد إمام وخطيب الحرم المكي الناشر : دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة الطبعة : الرابعة (6/2441) .