جوع

2022-10-12 - 1444/03/16

التعريف

الجُوع اسم للمَخْمَصةِ وهو خُلُوُّ الْمَعِدَةِ مِنَ الطَّعَامِ، عَكْسُ الشِّبَعِ (معجم الغني).

 

وفيه " الخمص والخمص والمخمصة الجوع، وهو خلاء البطن من الطعام جوعا، والمخمصة: المجاعة، و" قوله تعالى (في مخمصة) أي مجاعة تورث خمص البطن أي ضموره " (المفردات:159)، و"سغب يسغب سغبا وسغبا ومسغبة وسغوبا: جاع، وهو ساغب وذو سغب (اللسان: سغب) و"السغب: الجوع مع التعب، وقد قيل في العطش مع التعب (المفردات:233)، و"السغب إلا مع تعب"(القاموس: سغب)

 

"الجوع: الألم الذي ينال الحيوان من خلو المعدة من الطعام "(المفردات:103).

 

العناصر

1- أهمية الأمن.

 

 

2- الأمن من أعظم نعم الله .

 

 

3- سبل محافظة الشريعة على الأمن .

 

 

4- ديننا دين الرحمة والتكافل والتعاضد والتناصر .

 

 

5- ثمرات الإحسان إلى الناس .

 

 

6- الحث على الصدقة والإنفاق وتفريج الكربات .

 

 

7- قصص واقعية تدل على أن الجزاء من جنس العمل .

 

 

8- وجوب شكر الله على نعمه بالقلب واللسان والجوارح .

 

الايات

1- قال الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة:155].

 

2- قال تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:3].

 

3- قال تعالى: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)[التوبة:120].

 

4- قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل:112].

 

5- قال تعالى: (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى)[طه:118].

 

6- قال تعالى: (لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ)[الغاشية:7].

 

7- قال تعالى: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)[البلد:11-16].

 

8- قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش:4].

 

 

الاحاديث

1- عن عائشة -رضي الله عنها-، قالت: مَا شَبعَ آلُ مُحَمّد -صلى الله عليه وسلم- مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ وفي رواية: مَا شَبعَ آلُ محَمّد -صلى الله عليه وسلم- مُنْذُ قَدِمَ المَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ البُرِّ ثَلاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حَتَّى قُبِضَ. (أخرجه البخاري:٥٤٢٣-٦٤٥٤، ومسلم:٢٩٧٠).

 

2- عن عروة، عن عائشة -رضي الله عنها-، أنّها كَانَتْ تقول: وَاللهِ، يَا ابْنَ أُخْتِي، إنْ كُنَّا نَنْظُرُ إِلَى الهِلاَلِ، ثُمَّ الهِلالِ: ثَلاَثَةُ أهلَّةٍ في شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَ في أبْيَاتِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نَارٌ. قُلْتُ: يَا خَالَةُ، فَمَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قالت: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالمَاءُ، إِلاَّ أنَّهُ قَدْ كَانَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ، وكَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يُرْسِلُونَ إِلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِنْ ألْبَانِهَا فَيَسْقِينَا. (رواه البخاري:٢٥٦٧، ومسلم:٢٩٧٢).

 

3- عن أَبي سعيد المقبُريِّ، عن أَبي هريرة رضي الله عنه: أَنَّهُ مَرَّ بِقَومٍ بَيْنَ أيدِيهمْ شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ، فَدَعَوْهُ فَأبَى أنْ يأْكُلَ. وقال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعيرِ. (رواه البخاري:٥٤١٤). (مَصْلِيَّةٌ) بفتح الميم: أيْ مَشْوِيَّةٌ.

 

4- عن أنس -رضي الله عنه-، قَالَ: لَمْ يَأكُلِ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أكَلَ خُبْزاً مُرَقَّقاً حَتَّى مَاتَ. وفي رواية لَهُ: وَلاَ رَأى شَاةً سَمِيطاً بعَيْنِهِ قَطُّ.

 (رواه البخاري:٦٤٥٠).

 

5- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ نَبيَّكُمْ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأُ بِهِ بَطْنَهُ. (رواه مسلم:٢٩٧٧). (الدَّقَلُ): تَمْرٌ رَدِيءٌ.

 

 

6- عن سهلِ بن سعد -رضي الله عنه-، قَالَ: مَا رَأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- النَّقِيَّ مِنْ حِين ابْتَعَثَهُ الله تَعَالَى حَتَّى قَبضَهُ الله تَعَالَى. فقِيلَ لَهُ: هَلْ كَانَ لَكُمْ في عَهدِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَنَاخِلُ؟ قَالَ: مَا رَأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مُنْخُلاً مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ تَعَالَى، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَأكُلُونَ الشَّعِيرَ غَيْرَ مَنْخُولٍ؟ قَالَ: كُنَّا نَطحَنُهُ وَنَنْفُخُهُ، فيَطيرُ مَا طَارَ، وَمَا بَقِيَ ثَرَّيْنَاهُ. (رواه البخاري:٥٤١٣). قَوْله: (النَّقِيّ): هُوَ الخُبْزُ الحُوَّارَى، وَهُوَ: الدَّرْمَكُ. قَوْله: (ثَرَّيْنَاهُ)، أيْ: بَللْنَاهُ وَعَجَنَّاهُ.

 

7- عن أَبي هريرة -رضي الله عنه-، قَالَ: خرجَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، فَإذَا هُوَ بأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما، فَقَالَ: "مَا أخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُما هذِهِ السَّاعَةَ؟" قَالا: الجُوعُ يَا رسول الله. قَالَ: "وَأنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأخْرَجَنِي الَّذِي أخْرَجَكُما، قُوما" فقَامَا مَعَهُ، فَأتَى رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ، فَإذَا هُوَ لَيْسَ في بيْتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ المَرْأَةُ، قالت: مَرْحَبَاً وَأهلاً. فقال لَهَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "أيْنَ فُلانُ؟" قالت: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لنَا المَاءَ. إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ للهِ، مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أكْرَمَ أضْيَافاً مِنِّي، فَانْطَلَقَ فَجَاءهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا، وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ، فَقَالَ لَهُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إيْاكَ وَالْحَلُوبَ" فَذَبَحَ لَهُمْ، فَأكَلُوا مِنَ الشَّاةِ وَمِنْ ذَلِكَ العِذْقِ وَشَرِبُوا. فَلَمَّا أنْ شَبِعُوا وَرَوُوا قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأَبي بَكْر وَعُمَرَ رضي الله عنهما: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ القِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أصَابَكُمْ هَذَا النَّعيمُ"(رواه مسلم:٢٠٣٨). قولُهَا: (يَسْتَعْذِبُ) أيْ: يَطْلُبُ المَاءَ العَذْبَ، وَهُوَ الطَّيِّبُ. وَ(العِذْقُ) بكسر العين وإسكان الذال المعجمة: وَهُوَ الكِباسَةُ، وَهِيَ الغُصْنُ. وَ(المُدْيَةُ) بضم الميم وكسرها: هي السِّكِّينُ. وَ(الْحَلُوبُ): ذاتُ اللَّبَن.

 

وَالسُّؤالُ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ سُؤَالُ تَعْدِيد النِّعَم لا سُؤَالُ تَوْبيخٍ وتَعْذِيبٍ، والله أعلَمُ.

 

وَهَذَا الأَنْصَارِيُّ الَّذِي أَتَوْهُ هُوَ، أَبُو الْهَيْثَم بْنُ التَّيِّهَانِ، كَذَا جَاءَ مُبَيَّناً في رواية الترمذي وغيره.

 

8- عن خالد بن عُمَيْر العَدَوِيِّ، قَالَ: خَطَبَنَا عُتْبَةُ بنُ غَزْوَانَ، وَكَانَ أمِيراً عَلَى البَصْرَةِ، فَحَمِدَ الله وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ، وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الإنَاءِ يَتَصَابُّهَا صَاحِبُهَا، وَإِنَّكُمْ مُنْتَقِلُونَ مِنْهَا إِلَى دَارٍ لاَ زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ لَنَا أنَّ الحَجَرَ يُلْقَى مِنْ شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَاماً، لاَ يُدْرِكُ لَهَا قَعْراً، وَاللهِ لَتُمْلأَنَّ أَفَعَجِبْتُمْ؟! وَلَقدْ ذُكِرَ لَنَا أنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنَّةِ مَسيرَةُ أرْبَعِينَ عَاماً، وَليَأتِيَنَّ عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهُوَ كَظِيظٌ مِنَ الزِّحَامِ، وَلَقَدْ رَأيْتُنِي سَابعَ سَبْعَةٍ مَعَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مَا لَنَا طَعَامٌ إِلاَّ وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى قَرِحَتْ أشْدَاقُنَا، فَالتَقَطْتُ بُرْدَةً فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، فاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا، وَاتَّزَرَ سَعْدٌ بِنِصْفِهَا، فَمَا أصْبَحَ اليَوْمَ مِنَّا أحَدٌ إِلاَّ أَصْبَحَ أمِيراً عَلَى مِصرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَإنِّي أعُوذُ بِاللهِ أنْ أكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيماً، وَعِنْدَ اللهِ صَغِيراً. (رواه مسلم:٢٩٦٧).

 

قَوْله: (آذَنَتْ) هُوَ بِمَدّ الألف، أيْ: أعْلَمَتْ. وَقَوْلُه: (بِصُرْم) هُوَ بضم الصاد، أيْ: بِانْقِطَاعِهَا وَفَنَائِهَا. وَقوله: (ووَلَّتْ حَذَّاءَ) هُوَ بحاءٍ مهملة مفتوحة، ثُمَّ ذال معجمة مشدّدة، ثُمَّ ألف ممدودة، أيْ: سريعة. وَ(الصُّبَابَةُ) بضم الصاد المهملة وهي: البَقِيَّةُ اليَسِيرَةُ. وَقَوْلُهُ: (يَتَصَابُّهَا) هُوَ بتشديد الباء قبل الهاء، أيْ: يجمعها. وَ(الْكَظِيظُ): الكثير الممتلىءُ. وَقَوْلُه: (قَرِحَتْ) هُوَ بفتح القاف وكسر الراء، أيْ صارت فِيهَا قُروح.

 

9- عن سعد بن أَبي وقاص -رضي الله عنه-، قَالَ: إنِّي لَأَوَّلُ العَرَبِ رَمى بسَهْمٍ في سَبيلِ اللَّهِ، ورَأَيْتُنا نَغْزُو وما لَنا طَعامٌ إلّا ورَقُ الحُبْلَةِ، وهذا السَّمُرُ، وإنَّ أحَدَنا لَيَضَعُ كما تَضَعُ الشّاةُ، ما له خِلْطٌ، ثُمَّ أصْبَحَتْ بَنُو أسَدٍ تُعَزِّرُنِي على الإسْلامِ، خِبْتُ إذًا وضَلَّ سَعْيِي (رواه البخاري:٦٤٥٣).

 

(الحُبْلَة) بضم الحاء المهملة وإسكان الباءِ الموحدةِ: وَهِيَ وَالسَّمُرُ، نَوْعَانِ مَعْرُوفَانِ مِنْ شَجَرِ الْبَادِيَةِ.

 

10- عن أَبي هريرة -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمّدٍ قُوتاً"(أخرجه البخاري٦٤٦٠، ومسلم١٠٥٥). قَالَ أهْلُ اللُّغَةِ وَالغَرِيبِ: مَعْنَى (قُوتاً) أيْ: مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ.

 

11- عن أَبي هريرة -رضي الله عنه-، قَالَ: وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، إنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الجُوعِ، وَإنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطنِي مِنَ الْجُوعِ. وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوماً عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ، فَمَرَّ بِي النبي -صلى الله عليه وسلم-، فَتَبَسَّمَ حِيْنَ رَآنِي، وَعَرَفَ مَا فِي وَجْهِي وَمَا فِي نَفْسِي، ثُمَّ قَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: "الْحَقْ" وَمَضَى فَاتَّبَعْتُهُ، فَدَخَلَ فَاسْتَأذَنَ، فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْتُ، فَوَجَدَ لَبَنَاً في قَدَحٍ، فَقَالَ: "مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ ؟" قَالُوا: أهْدَاهُ لَكَ فُلانٌ – أَو فُلانَةٌ – قَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قلتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول اللهِ، قَالَ: "الْحَقْ إِلَى أهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي" قَالَ: وَأهْلُ الصُّفَّة أضْيَافُ الإِسْلاَمِ، لاَ يَأوُونَ علَى أهْلٍ وَلاَ مَالٍ وَلاَ عَلَى أحَدٍ، وَكَانَ إِذَا أتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئاً، وَإِذَا أتَتْهُ هَدِيَّةٌ أرْسَلَ إلَيْهِمْ، وَأصَابَ مِنْهَا، وأشْرَكَهُمْ فِيهَا. فَسَاءنِي ذَلِكَ، فَقُلْتُ: وَمَا هَذَا اللَّبَنُ في أهْلِ الصُّفَّةِ! كُنْتُ أحَقُّ أنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أتَقَوَّى بِهَا، فَإذَا جَاءُوا وَأمَرَنِي فَكُنْتُ أنَا أُعْطِيهِمْ؛ وَمَا عَسَى أنْ يَبْلُغَنِي مِنْ هَذَا اللَّبَنِ. وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللهِ وَطَاعَةِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بُدٌّ، فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَأقْبَلُوا وَاسْتَأذَنُوا، فَأَذِنَ لَهُمْ وَأخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ، قَالَ: "يَا أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: "خُذْ فَأعْطِهِمْ" قَالَ: فَأخَذْتُ القَدَحَ، فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُل فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ، فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ، فَأخَذَ الْقَدَحَ فَوضَعَهُ عَلَى يَدِهِ، فَنَظَرَ إليَّ فَتَبَسَّمَ، فَقَالَ: "أَبَا هِرٍّ" قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رسول الله، قَالَ: "بَقيتُ أنَا وَأنْتَ" قُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رسول الله، قَالَ: "اقْعُدْ فَاشْرَبْ" فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ "اشْرَبْ" فَشَرِبْتُ، فَمَا زَالَ يَقُولُ: "اشْرَبْ" حَتَّى قُلْتُ: لا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لاَ أجِدُ لَهُ مَسْلكاً! قَالَ: "فَأرِنِي" فَأعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ، فَحَمِدَ الله تَعَالَى، وَسَمَّى وَشَرِبَ الفَضْلَةَ. (رواه البخاري:٦٤٥٢).

 

12- عن محمد بن سيرين، عن أَبي هريرة -رضي الله عنه-، قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُنِي وَإنِّي لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- إِلَى حُجْرَةِ عائِشَةَ -رضي الله عنها- مَغْشِيّاً عَلَيَّ، فَيَجِيءُ الجَائِي، فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي، وَيَرَى أنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ، مَا بِي إِلاَّ الْجُوعُ (رواه البخاري:٧٣٢٤).

 

13- عن أنسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: رَهَنَ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- دِرْعَهُ بِشَعِيرٍ، وَمَشَيْتُ إِلَى النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بخُبْزِ شَعِيرٍ وَإهَالَة سَنِخَةٍ، وَلَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "مَا أصْبَحَ لآلِ مُحَمّدٍ صَاعٌ وَلاَ أمْسَى" وَإنَّهُمْ لَتِسْعَةُ أبيَات (أخرجه البخاري:٢٥٠٨، ومسلم:١٦٠٣). (الإهالَةُ): الشَّحْمُ الذَّائِبُ. وَ(السَّنِخَةُ): هِيَ المُتَغَيِّرَةُ.

 

14- عن أَبي أُمَامَة -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ أنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ، وأَنْ تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ، ولا تُلامُ على كَفافٍ، وابْدَأْ بمَن تَعُولُ، والْيَدُ العُلْيا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلى"(رواه مسلم:١٠٣٦).

 

15- عن عُبيْدِ الله بنِ محْصن الأَنصَارِيِّ الخطميِّ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أصْبَحَ مِنْكُمْ آمِناً في سربِهِ، مُعَافَىً في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا"(رواه الترمذي، وحسنه الألباني). (سِربه): بكسر السين المهملة: أي نَفْسه، وَقِيلَ: قَومه.

 

16- عن عبد الله بن عَمْرو بنِ العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "قَدْ أفْلَحَ مَنْ أسْلَمَ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ"(رواه مسلم:١٠٥٤).

 

17- عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، قَالَ: كَانَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يَبيتُ اللَّيَالِيَ الْمُتَتَابِعَةَ طَاوِياً، وَأهْلُهُ لاَ يَجِدُونَ عَشَاءً، وَكَانَ أكْثَرُ خُبْزِهِمْ خُبزَ الشَّعيرِ (رواه الترمذي:٢٣٦٠، وحسنه الألباني).

 

18- عن فُضَالَةَ بن عبيدٍ -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا صَلَّى بِالنَّاسِ، يَخِرُّ رِجَالٌ مِنْ قَامَتِهِمْ في الصَّلاةِ مِنَ الخَصَاصَةِ -وَهُمْ أصْحَابُ الصُّفَّةِ- حَتَّى يَقُولَ الأعْرَابُ: هؤُلاء مَجَانِينٌ. فَإذَا صلَّى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انْصَرَفَ إلَيْهِمْ، فَقَالَ: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا لَكُمْ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، لأَحْبَبْتُمْ أنْ تَزْدَادُوا فَاقَةً وَحَاجَةً"(رواه الترمذي:٢٣٦٨، وصححه الألباني). (الخَصَاصَةُ): الفَاقَةُ وَالجُوعُ الشَّدِيدُ.

 

19- عن أَبي كريمة المقدام بن معد يكرِبَ -رضي الله عنه-، قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول: "مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاء شَرّاً مِنْ بَطْنٍ، بِحَسْبِ ابنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالةَ فثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسه"(رواه الترمذي:٢٣٨٠، وصححه الألباني). (أكُلاَتٌ) أيْ: لُقَمٌ.

 

20- عن جابر -رضي الله عنه-، قَالَ: إنَّا كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيدَةٌ، فَجَاؤُوا إِلَى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: هذِهِ كُدْيَةٌ عَرَضَتْ في الخَنْدَقِ. فَقَالَ: "أنَا نَازِلٌ" ثُمَّ قَامَ، وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ، وَلَبِثْنَا ثَلاَثَة أيّامٍ لاَ نَذُوقُ ذَوَاقاً فَأخَذَ النبي -صلى الله عليه وسلم- المِعْوَلَ، فَضَرَبَ فَعَادَ كَثيباً أهْيَلَ أَو أهْيَمَ، فقلت: يَا رسول الله، ائْذَنْ لي إِلَى البَيْتِ، فقلتُ لامْرَأتِي: رَأيْتُ بالنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- شَيئاً مَا في ذَلِكَ صَبْرٌ فَعِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فقالت: عِنْدي شَعِيرٌ وَعَنَاقٌ، فَذَبَحْتُ العَنَاقَ وَطَحَنْتُ الشَّعِيرَ حَتَّى جَعَلْنَا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئْتُ النبي -صلى الله عليه وسلم-، وَالعَجِينُ قَدِ انْكَسَرَ، وَالبُرْمَةُ بَيْنَ الأثَافِيِّ قَدْ كَادَتْ تَنْضِجُ، فقلتُ: طُعَيْمٌ لي، فَقُمْ أنْتَ يَا رسول اللهِ وَرَجُلٌ أَوْ رَجُلانِ، قَالَ: "كَمْ هُوَ"؟ فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: "كثيرٌ طَيِّبٌ قُل لَهَا لاَ تَنْزَع البُرْمَةَ، وَلاَ الخبْزَ مِنَ التَّنُّورِحتى آتِي" فَقَالَ: "قُومُوا"، فقام المُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهَا فقلتُ: وَيْحَكِ قَدْ جَاءَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَالمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ ومن مَعَهُمْ! قالت: هَلْ سَألَكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: "ادْخُلُوا وَلاَ تَضَاغَطُوا" فَجَعَلَ يَكْسرُ الخُبْزَ، وَيَجْعَلُ عَلَيْهِ اللَّحْمَ، وَيُخَمِّرُ البُرْمَةَ وَالتَّنُّور إِذَا أخَذَ مِنْهُ، وَيُقَرِّبُ إِلَى أصْحَابِهِ ثُمَّ يَنْزعُ، فَلَمْ يَزَلْ يِكْسِرُ وَيَغْرِفُ حَتَّى شَبِعُوا، وَبَقِيَ مِنْهُ، فَقَالَ: "كُلِي هَذَا وَأهِدي، فَإنَّ النَّاسَ أصَابَتْهُمْ مَجَاعَةٌ"(رواه البخاري:٤١٠١).

 

وفي رواية قَالَ جابر: لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأيْتُ بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- خَمَصاً، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأتِي، فقلت: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإنّي رَأيْتُ برسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَمَصاً شَديداً، فَأخْرَجَتْ إلَيَّ جِرَاباً فِيه صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بَهِيمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنتِ الشَّعِيرَ، فَفَرَغَتْ إِلَى فَرَاغي، وَقَطَعْتُهَا في بُرْمَتها، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت: لاَ تَفْضَحْنِي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَمَنْ مَعَهُ، فَجئتهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رسول الله، ذَبَحْنَا بهيمَة لَنَا، وَطَحَنْتُ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، فَتَعَالَ أنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: (يَا أهلَ الخَنْدَقِ: إنَّ جَابِراً قَدْ صَنَعَ سُؤْراً فَحَيَّهَلا بِكُمْ) فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ وَلاَ تَخْبزنَّ عَجِينَكُمْ حَتَّى أجِيءَ) فَجِئْتُ، وَجَاءَ النبي -صلى الله عليه وسلم- يَقْدُمُ النَّاسَ، حَتَّى جِئْتُ امْرَأتِي، فقالَتْ: بِكَ وَبِكَ! فقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ. فَأخْرَجَتْ عَجِيناً، فَبسَقَ فِيهِ وَبَاركَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنا فَبصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: (ادْعِي خَابزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعَكِ، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ، وَلاَ تُنْزِلُوها) وَهُم ألْفٌ، فَأُقْسِمُ بِالله لأَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطّ كَمَا هِيَ، وَإنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ (أخرجه البخاري:٤١٠٢، ومسلم:٢٠٣٩). قَوْله: (عَرَضَتْ كُدْيَةٌ): وَهِيَ قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ صُلْبَةٌ مِنَ الأرضِ لاَ يَعْمَلُ فِيهَا الفَأسُ، وَ(الكَثيبُ) أصْلُهُ تَلُّ الرَّمْل، وَالمُرَادُ هُنا: صَارَتْ تُراباً نَاعِماً، وَهُوَ مَعْنَى (أهْيَلَ). وَ(الأَثَافِيُّ): الأحجَارُ الَّتي يكُونُ عَلَيْهَا القِدْرُ، وَ(تَضَاغَطُوا): تَزَاحَمُوا. وَ(المَجَاعَةُ): الجُوعُ. وَ(الخَمَصُ): الجُوعُ، وَ(انْكَفَأتُ): انْقَلَبْتُ وَرَجَعْتُ. و(البُهَيْمَةُ)، تصغير بَهْمَة وَهيَ، العَنَاقُ، بفتح العين. وَ(الدَّاجِنُ): هِيَ الَّتي ألِفَتِ البَيْتَ: وَ(السُّؤْرُ) الطَّعَامُ الَّذِي يُدْعَى النَّاسُ إِلَيْهِ؛ وَهُوَ بالفَارِسيَّة. وَ(حَيَّهَلا) أيْ تَعَالُوا. وَقَوْلُهَا: (بك وَبكَ) أيْ خَاصَمَتْهُ وَسَبَّتْهُ، لأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ أنَّ الَّذِي عِنْدَهَا لاَ يَكْفِيهمْ، فَاسْتَحْيَتْ وَخَفِيَ عَلَيْهَا مَا أكْرَمَ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ نَبِيَّهُ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ هذِهِ المُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ وَالآية البَاهِرَةِ. (بَسَقَ) أيْ: بَصَقَ؛ وَيُقَالُ أيْضاً: بَزَقَ، ثَلاث لُغاتٍ. وَ(عَمَدَ)؛ أيْ: قَصَدَ. وَ(اقْدَحي) أيْ: اغْرِفِي؛ وَالمِقْدَحَةُ: المِغْرَفَةُ. وَ(تَغِطُّ) أيْ: لِغَلَيَانِهَا صَوْتٌ، والله أعلم.

 

22- عن أنسٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ أَبو طَلْحَةَ لأُمِّ سُلَيمٍ: قَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضَعيفاً أعْرِفُ فيه الجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَأخْرَجَتْ أقْرَاصاً مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أخَذَتْ خِمَاراً لَهَا، فَلَفَّتِ الخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ ثَوْبِي وَرَدَّتْنِي بِبَعْضِهِ، ثُمَّ أرْسَلَتْني إِلَى رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَذَهَبتُ بِهِ، فَوَجَدْتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، جَالِساً في المَسْجِدِ، وَمَعَهُ النَّاسُ، فَقُمْتُ عَلَيْهمْ، فَقَالَ لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أرْسَلَكَ أَبو طَلْحَةَ؟" فقلت: نَعَمْ، فَقَالَ: "ألِطَعَامٍ؟" فقلت: نَعَمْ، فَقَالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "قُومُوا" فَانْطَلَقُوا وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فَأخْبَرْتُهُ، فَقَالَ أَبو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، قَدْ جَاءَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ؟ فَقَالَتْ: الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ. فَانْطَلَقَ أَبو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، فَأقْبَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَعَهُ حَتَّى دَخَلاَ، فَقَالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "هَلُمِّي مَا عِنْدَكِ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ" فَأتَتْ بِذلِكَ الخُبْزِ، فَأمَرَ بِهِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَفُتَّ، وَعَصَرَتْ عَلَيْهِ أمُّ سُلَيْمٍ عُكّةً فَآدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ فِيهِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مَا شَاءَ اللهُ أنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشْرَةٍ" فأذنَ لَهُمْ فَأكَلُوا حتى شَبِعُوا ثُمَّ خَرَجُوا، ثُمَّ قَالَ: "ائْذَنْ لِعَشْرَةٍ" فأذِنَ لهم حَتَّى أكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالقَوْمُ سَبْعُونَ رَجُلاً أَو ثَمَانُونَ (رواه مسلم:٢). وفي رواية: فَمَا زَالَ يَدْخُلُ عَشرَة، وَيخرجُ عشرةٌ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ، فَأكَلَ حَتَّى شَبعَ، ثُمَّ هَيَّأهَا فَإذَا هِيَ مِثْلُهَا حِيْنَ أكَلُوا مِنْهَا.

 

وفي رواية: فَأَكَلُوا عَشرَةً عَشرةً، حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ بِثَمَانِينَ رَجُلاً، ثُمَّ أكَلَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ ذَلِكَ وَأهْلُ البَيْتِ، وَتَرَكُوا سُؤْراً (رواه مسلم:٢٠٤٠).

 

23- أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ"(البخاري:٢٤٨٦، ومسلم ٢٥٠٠).

 

24- عن صهيب بن سنان الرومي -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كانَ يحرِّكُ بشفتيهِ بشيءٍ يومَ حنينٍ بعدَ صلاةِ الفجرِ فقالوا يا رسولَ اللَّهِ إنَّكَ تحرِّكُ شفتيكَ بشيءٍ قال إنَّ نبيًّا ممَّن كانَ قبلَكم ثمَّ ذَكرَ كلمةً معناها أعجبتْهُ كثرةُ أمَّتِه فقال لن يرومَ أحدٌ هؤلاءِ بشيءٍ فأوحى اللَّهُ إليهِ أنْ خيِّرْ أمَّتَكَ بينَ إحدى ثلاثٍ أن أسلِّطَ عليهم عدوًّا من غيرِهم فيستبيحَهم وإمّا أن أسلِّطَ عليهمُ الجوعَ وإمّا أن أرسلَ الموتَ فقالوا أمّا الجوعُ والعدوُّ فلا طاقةَ لنا بِهما ولَكنَّ الموتَ فأرسلَ الله عليهمُ فماتَ منهم في ليلةٍ سبعونَ ألفًا فأنا أقولُ اللهمَّ بِك أحاولُ وبِكَ أصاوِلُ وبِك أقاتِلُ (الأحكام الصغرى:٥٣٧).

 

 

الاثار

1- قال الفضيل بن عياض: "خصلتان تقسيان القلب: كثرة النوم، وكثرة الأكل"(شعب الإيمان:5-42).

 

2- عن أبي سليمان الداراني قال: "مفتاح الآخرة الجوع، ومفتاح الدنيا الشبع"(حلية الأولياء).

 

3- عن يزيد الرقاشي قال: "إن المتجوعين لله تعالى، في الرعيل الأول يوم القيامة "(حلية الأولياء:41).

 

4- عن أبي سليمان قال: "إذا جاع القلب وعطش، صفا ورق، وإذا شبع وروي، عمي وبار"(حلية الأولياء:203).

 

5- قال الشافعي رحمه الله: "ما أفلح سمين قط إلا أن يكون محمد بن الحسن. قيل: ولم؟ قال: لأن العاقل لا يخلو من إحدى خلتين: إما أن يغتم لآخرته ومعاده، أو لدنياه ومعاشه؛ والشحم مع الغم لا ينعقد؛ فإذا خلا من المعنيين صار في حد البهائم فيعقد الشحم"(حلية الأولياء:113).

 

6- وقال أيضاً: "ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا مرة، فأدخلت يدي فتقيأتها؛ لأن الشبع يثقل البدن، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف عن العبادة"(تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام:5-449).

 

7- قال ابن الجوزي: "هلال الهدى لا يظهر في غيم الشبع، ولكن يبدو في صحو الجوع، وترك الطمع"(مواعظ بن الجوزي المسمى الياقوتة:85).

 

8- قال بعض أهل العلم: "دواء القلب بخمسة أشياء: قراءة القرآن بتدبر، خلاء البطن، قيام الليل، التضرع عند السحر، مجالسة الصالحين"(بستان الحكمة:66).

القصص

1- خرج عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عام الرمادة، يوم أن وقف يوم الجمعة على الناس، فبكى وأبكى، وسُمع قرقرة بطنه، فقال: "قرقر، أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين".

 

2- جاء رجل إلى محمد بن سيرين، فقال له: "علمني العبادة، فقال له ابن سيرين: أخبرني عن نفسك كيف تأكل، قال: آكل حتى أشبع، فقال: ذاك أكل البهائم، قال: كيف تشرب الماء؟ قال أشرب حتى أروى، قال: ذاك شرب الأنعام، اذهب فتعلم الأكل والشرب ثم تعال أعلمك العبادة".

 

3- عن الحسن أن عامراً كان يقول: من أُقرئ؟ فيأتيه ناس، فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلي إلى الظهر، ثم يصلي إلى العصر، ثم يقرئ الناس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشائين، ثم ينصرف إلى منزله، فيأكل رغيفاً، وينام نومة خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر رغيفاً ويخرج (تاريخ الإسلام؛ للذهبي:٥-١٣٩).

 

4- عن الحسن بن أبي الحسن قال: قيل ليوسف -عليه السلام-: تجوع، وخزائن الدنيا بيدك؟! قال: أخاف أن أشبع، فأنس الجياع (حلية الأولياء:6-273)

 

5- كان الرجل إذا خرج من منزله يقول له أهله: إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار (مختصر منهاج القاصدين:84).

 

6- قال الْعَلَّامَةُ الْفَقِيهُ المُؤَرِّخُ مُوَفَّقُ الدِّينِ ابْنُ اللَّبَّادِ الْبَغْدَادِيُّ: "وَدَخَلَتْ سَنَةُ سَبْعٍ مُفْتَرِسَةً أَسْبَابَ الْحَيَاةِ، وَقَدْ يَئِسَ النَّاسُ مِنْ زِيَادَةِ النِّيلِ، وَارْتَفَعَتِ الْأَسْعَارُ، وَأُقْحِطَتِ الْبِلَادُ، وَأَشْعَرَ أَهْلُهَا الْبَلَاءَ، وَهَرَجُوا مِنْ خَوْفِ الْجُوعِ، وَانْضَوَى أَهْلُ السَّوَادِ وَالرِّيفِ إِلَى أُمَّهَاتِ الْبِلَادِ، وَانْجَلَى كَثِيرٌ مِنْهُمْ إِلَى الشَّامِ وَالمَغْرِبِ وَالْحِجَازِ وَالْيَمَنِ، وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ، وَمُزِّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.

 

وَدَخَلَ إِلَى الْقَاهِرَةِ وَمِصْرَ مِنْهُمْ خَلْقٌ عَظِيمٌ، وَاشْتَدَّ بِهِمُ الْجُوعُ، وَوَقَعَ فِيهِمُ المَوْتُ، وَعِنْدَ نُزُولِ الشَّمْسِ الحَمَلَ وَبِئَ الْهَوَاءُ، وَوَقَعَ المَرَضُ وَالمُوتَانُ، وَاشْتَدَّ بِالْفُقَرَاءِ الْجُوعُ حَتَّى أَكَلُوا المِيتَاتِ وَالجِيَفَ وَالْكِلَابَ وَالْبَعْرَ وَالْأَرْوَاثَ..

 

وَأَمَّا مَوْتُ الْفُقَرَاءِ هُزْالًا وَجُوعًا، فَأَمْرٌ لَا يُطِيقُ عِلْمَهُ إِلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ مِنْهُ كَالْأُنْمُوذَجِ يَسْتَدِلُّ بِهِ اللَّبِيبُ عَلَى فَظَاعَةِ الْأَمْرِ: فَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ بِمِصْرَ وَالْقَاهِرَةِ وَمَا تَاخَمَ ذَلِكَ أَنَّ الْمَاشِيَ أَيْنَ كَانَ لَا يَزَالُ يَقَعُ قَدَمُهُ أَوْ بَصَرُهُ عَلَى مَيِّتٍ، وَمَنْ هُوَ فِي السِّيَاقِ، أَوْ عَلَى جَمْعٍ كَثِيرٍ بِهَذَا الْحَالِ، وَكَانَ يُرْفَعُ عَنِ الْقَاهِرَةِ خَاصَّةً إِلَى الْمِيضَأَةِ كُلَّ يَوْمٍ مَا بَيْنَ مِائَةٍ إِلَى خَمْسِمِائَةٍ، وَأَمَّا مِصْرُ فَلَيْسَ لِمَوْتَاهَا عَدَدٌ وَيُرْمَوْنَ وَلَا يُوَارَوْنَ، ثُمَّ بِأخَرَةٍ عُجِزَ عَنْ رَمْيِهِمْ فَبَقُوا فِي الْأَسْوَاقِ بَيْنَ الْبُيُوتِ وَالدَّكَاكِينِ، وَفِيهَا الْمَيِّتُ مِنْهُمْ قَدْ تَقَطَّعَ، وَإِلَى جَانِبِهِ الشَّوَاءُ وَالْخَبَّازُ وَنَحْوُهُ.

 

وَأَمَّا الضَّوَاحِي وَالْقُرَى، فَإِنَّهُ هَلَكَ أَهْلُهَا قَاطِبَةً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، وَبَعْضُهُمُ انْجَلَى عَنْهَا اللَّهُمَّ إِلَّا الْأُمَّهَاتُ وَالْقُرَى الْكِبَارُ... وَإِنَّ الْمُسَافِرَ لَيَمُرُّ بِالْبَلْدَةِ فَلَا يَجِدُ فِيهَا نَافِخَ ضَرَمَةٍ، وَيَجِدُ الْبُيُوتَ مُفَتَّحَةً، وَأَهْلُهَا مَوْتَى مُتَقَابِلِينَ، بَعْضُهُمْ قَدْ رَمَّ، وَبَعْضُهُمْ طَرِيٌّ، وَرُبَّمَا وَجَدَ فِي الْبَيْتِ أَثَاثَهُ، وَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَأْخُذُهُ.

 

حَدَّثَنِي بِذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ كُلٌّ مِنْهُمْ حَكَى مَا يَعْضُّدُ بِهِ قَوْلَ الْآخَرِ، قَالَ أَحَدُهُمْ: دَخَلْنَا مَدِينَةً فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا حَيَوَانًا فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرًا فِي السَّمَاءِ فَتَخَلَّلْنَا الْبُيُوتَ، فَأَلْفَيْنَا أَهْلَهَا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ:15] فَتَجِدُ سَاكِنِي كُلِّ دَارٍ مَوْتَى فِيهَا، الرَّجُلَ وَزَوْجَتَهُ وَأَوْلَادَهُ، قَالَ: ثُمَّ انْتَقَلْنَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ فِيهِ أَرْبَعُمِائَةِ دُكَّانٍ لِلْحِيَاكَةِ فَوَجَدْنَاهَا كَالَّتِي قَبْلَهَا فِي الْخَرَابِ، وَأَنَّ الْحَائِكَ مَيِّتٌ وَأَهْلُهُ مَوْتَى حَوْلَهُ، فَحَضَرَنِي قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ)[يس:29] قَالَ: ثُمَّ انْتَقَلْنَا إِلَى بَلَدٍ آخَرَ فَوَجَدْنَاهُ كَالَّذِي قَبْلَهُ لَيْسَ بِهِ أَنِيسٌ وَهُوَ مَشْجُونٌ بِمَوْتِ أَهْلِهِ...

 

وَمِنْ عَجِيبِ مَا شَاهَدْتُ أَنِّي كُنْتُ يَوْمًا مُشْرِفًا عَلَى النِّيلِ مَعَ جَمَاعَةٍ فَاجْتَازَ عَلَيْنَا فِي نَحْوِ سَاعَةٍ نَحْوُ عَشَرَةِ مَوْتَى كَأَنَّهُمُ الْقِرَبُ الْمَنْفُوخَةُ، هَذَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نَتَصَدَّى لِرُؤْيَتِهِمْ، وَلَا أَحَطْنَا بِعُرْضِ الْبَحْرِ، وَفِي غَدِ ذَلِكَ الْيَوْمِ رَكِبْنَا سَفِينَةً فَرَأَيْنَا أَشْلَاءَ الْمَوْتَى فِي الْخَلِيجِ، وَسَائِرِ الشُّطُوطِ ... وَأَمَّا طَرِيقُ الشَّامِ فَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّهَا صَارَتْ مَزْرَعَةً لِبَنِي آدَمَ ... وَكَثِيرًا مَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمَلَّصُ مِنْ صِبْيَتِهَا فِي الزِّحَامِ فَيَتَضَوَّرُونَ حَتَّى يَمُوتُوا. وَأَمَّا بَيْعُ الْأَحْرَارِ فَشَاعَ وَذَاعَ عِنْدَ مَنْ لَا يُرَاقِبُ اللَّهَ... وَسَأَلَتْنِي امْرَأَةٌ أَنْ أَشْتَرِيَ ابْنَتَهَا وَكَانَتْ جَمِيلَةً دُونَ الْبُلُوغِ، بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَعَرَّفْتُهَا أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، فَقَالَتْ: خُذْهَا هَدِيَّةً...

 

وَأَمَّا خَرَابُ الْبِلَادِ وَالْقُرَى وَخُلُوُّ الْمَسَاكِنِ وَالدَّكَاكِينِ، فَهُوَ مِمَّا يَلْزَمُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ الَّتِي اقْتَصَصْنَاهَا، وَنَاهِيكَ أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَتْ تَشْتَمِلُ عَلَى زُهَاءِ عَشَرَةِ آلَافِ نَسَمَةٍ تَمُرُّ عَلَيْهَا فَتَرَاهَا دِمْنَه، وَرُبَّمَا وُجِدَ فِيهَا نَفَرٌ وَرُبَّمَا لَمْ يُوجَدْ... حَتَّى أَنَّ الرِّبَاعَ وَالْمَسَاكِنَ وَالدَّكَاكِينَ الَّتِي فِي سُرَّةِ الْقَاهِرَةِ وَخِيَارَهَا أَكْثَرُهَا خَالٍ خَرَابٍ، وَإِنَّ رَبْعًا فِي أَعْمَرِ مَوْضِعٍ بِالْقَاهِرَةِ فِيهِ نَيِّفٌ وَخَمْسُونَ بَيْتًا كُلُّهَا خَالِيَةٌ سِوَى أَرْبَعَةِ بُيُوتٍ أُسْكِنَتْ مَنْ يَحْرُسُ الْمَوْضِعَ.

 

وَلَمْ يَبْقَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَقُودٌ فِي تَنَانِيرِهِمْ وَأَفْرَانِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ إِلَّا خَشَبُ السُّقُوفِ وَالْأَبْوَابِ وَالزُّرُوبِ...غَيْرَ أَنَّ الْقُرَى خَالِيَةٌ مِنْ فَلَّاحٍ أَوْ حَرَّاثٍ أَصْلًا فَهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ) [الْأَحْقَافِ: 25]..

 

وَمِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ يُرْجَى الْفَرَجُ وَهُوَ الْمُتِيحُ لِلْخَيْرِ بِمَنِّهِ وَجُودِهِ.

 

ثُمَّ تَكَلَّمَ عَنِ السَنَةِ التِي بَعْدَهَا فَقَالَ: وَدَخَلَتْ هَذِهِ السَّنَةُ وَالْأَحْوَالُ الَّتِي شَرَحْنَاهَا فِي السَّنَةِ الْخَالِيَةِ عَلَى ذَلِكَ النِّظَامِ أَوْ فِي تَزَايُدٍ، إِلَى زُهَاءِ نِصْفِهَا فَتَنَاقَصَ مَوْتُ الْفُقَرَاءِ لِقِلَّتِهِمْ لَا لِارْتِفَاعِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ ..

 

وَقَلَّ خَطْفُ الْأَطْعِمَةِ مِنَ الْأَسْوَاقِ؛ وَذَلِكَ لِفَنَاءِ الصَّعَالِيكِ وَقِلَّتِهِمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَانْحَطَّتِ الْأَسْعَارُ؛ لِقِلَّةِ الْآكِلِينَ لَا لِكَثْرَةِ الْمَأْكُولِ، وَصَفَتِ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا، وَاخْتُصِرَتْ وَاخْتُصِرَ جَمِيعُ مَا فِيهَا عَلَى تِلْكَ النِّسْبَةِ، وَأَلِفَ النَّاسُ الْبَلَاءَ ..

 

وَحُكِيَ لِي أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ تِسْعُمِائَةِ مُنْسِجٍ لِلْحُصُرِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا خَمْسَةَ عَشَرَ مُنْسِجًا، وَقِسْ عَلَى هَذَا سَائِرَ مَا جَرَتِ الْعَادَةُ أَنْ يَكُونَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ بَاعَةٍ وَخَبَّازِينَ وَعَطَّارِينَ وَأَسَاكِفَةٍ وَخَيَّاطِينَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَصْنَافِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ إِلَّا نَحْوُ مَا بَقِيَ مِنَ الْحُصُرِيِّينَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.

 

وَأَمَّا الدَّجَاجُ فَعَدِمَ رَأْسًا لَوْلَا أَنَّهُ جُلِبَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنَ الشَّامِ... وَلَمَّا وَجَدَ الْبَيْضَ بِيعَ بَيْضَةً بِدِرْهَمٍ ...وَأَمَّا الْفَرَارِيجُ فَبِيعَ الْفَرُّوجُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ.

 

وَأَمَّا الْأَفْرَانُ فَإِنَّهَا تُوقَدُ بِأَخْشَابِ الدُّورِ، فَيَشْتَرِي الْفَرَّانُ الدَّارَ بِالثَّمَنِ الْبَخْسِ وَيَقُدُّ زُرُوبَهُ وَأَخْشَابَهُ أَيَّامًا... وَكَثِيرًا مَا تُقْفِرُ الدَّارُ بِمَالِكِهَا وَلَا يَجِدُ لَهَا مُشْتَرِيًا فَيَفْصِلُ أَخْشَابَهَا وَأَبْوَابَهَا وَسَائِرَ آلَاتِهَا فَيَبِيعُهَا ثُمَّ يَطْرَحُهَا مَهْدُومَةً ...ثُمَّ ذَكَرَ عِدَةَ مُدُنٍ خَلَتْ، قَالَ: فَلَمْ يَبْقَ فِيهَا أَنِيسٌ، وَإِنَّمَا تَرَى مَسَاكِنَهُمْ خَاوِيَةً عَلَى عُرُوشِهَا، وَكَثِيرًا مِنْ أَهْلِهَا مَوْتَى فِيهَا ..

 

وَأَمَّا الضَّوَاحِي وَسَائِرُ الْبِلَادِ فَيَبَابٌ رَأْسًا، حَتَّى إِنَّ الْمُسَافِرَ يَسِيرُ فِي كُلِّ جِهَةٍ أَيَّامًا لَا يُصَادِفُ حَيَوَانًا إِلَّا الرِّمَمَ مَا خَلَا الْبِلَادَ الْكِبَارَ .. فَإِنَّ فِيهَا بَقَايَا، وَأَمَّا مَا عَدَا هَذِهِ وَأَمْثَالُهَا فَإِنَّ الْبَلَدَ الَّذِي كَانَ يَحْتَوِي عَلَى أُلُوفٍ خَالٍ أَوْ كَالْخَالِي. وَأَمَّا الْأَمْلَاكُ ذَوَاتُ الْآجِرِ الْمُعْتَبَرَةُ، فَإِنَّ مُعْظَمَهَا خَلَا ..

 

وَالَّذِي دَخَلَ تَحْتَ الْإِحْصَاءِ مِنَ الْمَوْتَى مِمَّنْ كُفِّنَ وَجَرَى لَهُ اسْمٌ فِي الدِّيوَانِ، وَضَمَّتْهُ الْمِيضَاتُ فِي مُدَّةِ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا .. مِائَةُ أَلْفٍ وَإِحْدَى عَشْرَةَ أَلْفًا إِلَّا آحَادًا، وَهَذَا مَعَ كَثْرَتِهِ نَزْرٌ فِي جَنْبِ الَّذِينَ هَلَكُوا فِي دُورِهِمْ، وَفِي أَطْرَافِ الْمَدِينَةِ، وَأُصُولِ الْحِيطَانِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ نَزْرٌ فِي جَنْبِ مَنْ هَلَكَ بِمِصْرَ وَمَا تَاخَمَهَا، ...فَإِنَّهُ لَمْ يَرِدْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ فَسَأَلْتُهُ عَنِ الطُّرُقِ إِلَّا ذَكَرَ أَنَّهَا مَزْرُوعَةٌ بِالْأَشْلَاءِ وَالرِّمَمِ، وَهَكَذَا مَا سَلَكْتُهُ مِنْهَا.

 

ثُمَّ إِنَّهُ وَقَعَ بِالْفَيُّومِ وَالْغَرْبِيَّةِ وَدِمْيَاطَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ مَوَتَانٌ عَظِيمٌ، وَوَبَاءٌ شَدِيدٌ لَا سِيَّمَا عِنْدَ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ، فَلَعَلَّهُ يَمُوتُ عَلَى الْمِحْرَاثِ الْوَاحِدِ عِدَّةُ فَلَّاحِينَ، وَحُكِيَ لَنَا أَنَّ الَّذِينَ بَذَرُوا غَيْرُ الَّذِينَ حَرَثُوا، وَكَذَلِكَ الَّذِينَ حَصَدُوا.

 

وَبَاشَرْنَا زِرَاعَةً لِبَعْضِ الرُّؤَسَاءِ، فَأَرْسَلَ مَنْ يَقُومُ بِأَمْرِ الزِّرَاعَةِ، فَجَاءَ الْخَبَرُ بِمَوْتِهِمْ أَجْمَعِينَ، فَأَرْسَلَ عِوَضَهُمْ فَمَاتَ أَكْثَرُهُمْ، هَكَذَا مَرَّاتٍ فِي عِدَّةِ جِهَاتٍ، وَسَمِعْنَا مِنَ الثِّقَاتِ عَنِ الْإِسْكَنْدَرِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ صَلَّى يَوْمَ الْجُمْعَةِ عَلَى سَبْعِمِائَةِ جِنَازَةٍ، وَأَنَّ تَرِكَةً وَاحِدَةً انْتَقَلَتْ فِي مُدَّةِ شَهْرٍ إِلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ وَارِثًا، ..."(تاريخ الإسلام؛ للذهبي:٤٢-٣٥).

 

 

الاشعار

1-

وما هي إلا جوعةٌ قد سددتها *** وكل طعام بين جنبي واحد

(إبراهيم بن أدهم)

 

2-

يَمُوتُ المُسلِمُونَ وَلا نُبالِي *** وَنهْرِفُ بِالمَكارِمِ وَالخِصالِ

ونَحْيَا العُمْرَ أَوتاراً وَقَصْفاً *** ونَحْيَا العُمْرَ في قِيلٍ وَقَالِ

ونَنسَى إخْوَةً في اللهِ ذَرَّتْ *** بهِمْ كَفُّ الزَّمانِ علَى الرِّمالِ

تُمزِّقُهمْ نُيُوبُ الجُوعِ حتَّى *** يَكادُ الشَّيخُ يَعثُرُ بِالعِيالِ

يَشُدُّونَ البُطُونَ على خَوَاءٍ *** وَيَقتَسِمُونَ أَرْغِفَةَ الخَيالِ

وتَضْرِبُهمْ رِياحُ المَوتِ هُوجاً *** وَفي أَحْداقِهِمْ نَزْفُ اللَّيالِي

ونَامُوا في العَرَاءِ بِلا غِطاءٍ *** وسَارُوا في العَرَاءِ بلا نِعَالِ

كأَنَّ البِيدَ تَلفِظُهمْ، فَتَجْرِي *** بِهِمْ بِيدٌ إلَى بِيدٍ خَوَالِ

يَسِيلُ لُعابُهمْ لَهَفاً، وَتَذْوِي *** عُيونُهُمُ على جَمرِ السُّؤالِ

وَلَيتَ جِراحَهُمْ في الجِسْمِ.. لكِنْ *** جِراحُ النَّفْسِ أَقْتَلُ لِلرِّجالِ

يَمُدُّونَ الحِبالَ، ولَيتَ شِعرِي *** أَنَقْطَعُ؟ أمْ سَنُمسِكُ بِالحِبالِ؟

وقَبْلَ الجُوعِ تَنهَشُهُمْ كِلابٌ *** مِنَ الإفْرِنجِ دَامِيَةُ النِّصالِ

يُؤَدُّونَ الضَّريبَةَ كُلَّ يَومٍ *** بِما مَلَكُوا.. وَدِينُ اللهِ غَالِ

صِلاَبٌ.. إنَّما الأَيَّامُ رُقْطٌ *** (وَيَثنِي الجُوعُ أَعْناقَ الرِّجالِ)

أَتَوا لِلشَّرْقِ عَلَّ الشَّرقَ دَرْءٌ *** إذا بِالشَّرقِ يَنْفِرُ كالثَّعَالِي

لِمَاذا كُلُّ طائِفَةٍ أَغاثَتْ *** بَنِيها غَيرَكُمْ أَهْلَ الهِلالِ؟!

تَرَى الصُّلْبانَ قَد نَفَرَتْ وَهبَّتْ *** يَهُودٌ بالدَّواءِ وَبالغِلالِ

هَبُوهُمْ بَعْضَ سَائمَةِ البَرارِي *** هَبُوهُمْ بَعضَ سَابِلَةِ النِّمَالِ

نَسِيتُمْ وَاتَّقُوا ﴿يَوماً ثَقِيلاً﴾ *** بهِ النِّيرَانُ تَقذِفُ كَالجِبَالِ

تَفُورُ وتَزفِرُ الأَحشَاءُ زَفْراً *** كَأَنَّ شَرَارَها حُمْرُ الجِمالِ

ونَحنُ المُسلِمينَ نَنامُ حتَّى *** يَضِيقَ الدَّهرُ بالنَّومِ الخَبالِ

جَلَستُمْ وَالأرَائكُ فَاخِراتٌ *** وَأَوجَفْتُمْ على الفُرُشِ الغَوَالِي

وَرصَّعْتُمْ قُصُورَكُمُ مَرَايَا *** لِتَنطِقَ بِالبَهاءِ وَبالجَمَالِ

ومَاجَ العِطرُ، وَائْتلَقَتْ جِنَانٌ *** كأَنَّ العُمْرَ لَيسَ إلَى زَوَالِ!

نَنامُ علَى "الرِّيالِ"، وَإِنْ صَحَونَا *** فَإنَّ الفَجْرَ فَاتحَةُ الرِّيَالِ

(أ. محمود مفلح)

 

3-

يمشي الفقير وكل شيء ضده *** والناس تغلق دونه أبوابها

وتراه مبغوضا وليس بمذنب *** ويرى العداوة لا يرى أسبابها

حتى الكلاب إذا رأت ذا ثروة *** خضعت لديه وحركت أذنابها

وإذا رأت يوما فقيرا عابرا *** نبحت عليه وكشرت أنيابها

(ابن الأحنف)

 

4-

تُمزِّقُهمْ نُيُوبُ الجُوعِ حتَّى*** يَكادُ الشَّيخُ يَعثُرُ بِالعِيالِ

يَشُدُّونَ البُطُونَ على خَوَاءٍ *** وَيَقتَسِمُونَ أَرْغِفَةَ الخَيالِ

وتَضْرِبُهمْ رِياحُ المَوتِ هُوجاً *** وَفي أَحْداقِهِمْ نَزْفُ اللَّيالِي

ونَامُوا في العَرَاءِ بِلا غِطاءٍ *** وسَارُوا في العَرَاءِ بلا نِعَالِ

كأَنَّ البِيدَ تَلفِظُهمْ، فَتَجْرِي *** بِهِمْ بِيدٌ إلَى بِيدٍ خَوَالِ

يَسِيلُ لُعابُهمْ لَهَفاً، وَتَذْوِي *** عُيونُهُمُ على جَمرِ السُّؤالِ

متفرقات

1- قال السعدي رحمه الله: "أخبر في هذه الآية أنه سيبتلي عباده (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ) من الأعداء (وَالْجُوعِ)؛ أي: بشيء يسير منهما؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك"(تيسير الكريم الرحمن).

 

2- قال السعدي رحمه الله: "هذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد، وتحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم، والنعرة العربية فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها وكذلك الرزق الواسع.

كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر، ولكن يسر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان، فجاءهم رسول منهم يعرفون أمانته وصدقه، يدعوهم إلى أكمل الأمور، وينهاهم عن الأمور السيئة، فكذبوه وكفروا بنعمة الله عليهم، فأذاقهم الله ضد ما كانوا فيه، وألبسهم لباس الجوع الذي هو ضد الرغد، والخوف الذي هو ضد الأمن، وذلك بسبب صنيعهم وكفرهم وعدم شكرهم (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون)"(تيسير الكريم الرحمن).

 

3- قال السعدي رحمه الله: "وأما طعامهم فـ (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وذلك أن المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه، وإما أن يسمن بدنه من الهزال، وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين الأمرين، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة نسأل الله العافية"(تيسير الكريم الرحمن).

 

4- قال ابن عاشور: " وجُمْلَةُ (إنَّ لَكَ أنْ لا تَجُوعَ فِيها ولا تَعْرى) تَعْلِيلٌ لِلشَّقاءِ المُتَرَتِّبِ عَلى الخُرُوجِ مِنَ الجَنَّةِ المَنهِيِّ عَنْهُ؛ لِأنَّهُ لَمّا كانَ مُمَتَّعًا في الجَنَّةِ بِرَفاهِيَةِ العَيْشِ مِن مَأْكَلٍ ومَلْبَسٍ ومَشْرَبٍ واعْتِدالِ جَوٍّ مُناسِبٍ لِلْمِزاجِ كانَ الخُرُوجُ مِنها مُقْتَضِيًا فِقْدانَ ذَلِكَ.

 

وتَضْحى مُضارِعُ ضَحِيَ - كَرَضِيَ - إذا أصابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ في وقْتِ الضُّحى. ومَصْدَرُهُ الضَّحْوُ، وحَرُّ الشَّمْسِ في ذَلِكَ الوَقْتِ هو مَبْدَأُ شِدَّتِهِ. والمَعْنى: لا يُصِيبُكَ ما يُنافِرُ مِزاجَكَ، فالِاقْتِصارَ عَلى انْتِفاءِ الضَّحْوِ هُنا اكْتِفاءٌ، أيْ ولا تَصْرَدَ. وآدَمُ لَمْ يَعْرَفِ الجُوعَ والعُرْيَ والظَّمَأ والضَّحْوَ بِالوِجْدانِ، وإنَّما عَرَفَها بِحَقائِقِها ضِمْنَ تَعْلِيمِهِ الأسْماءَ كُلَّها كَما تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ، وجُمِعَ لَهُ في هَذا الخَبَرِ أصُولُ كَفافِ الإنْسانِ في مَعِيشَتِهِ إيماءً إلى أنَّ الِاسْتِكْفاءَ مِنها سَيَكُونُ غايَةَ سَعْيِ الإنْسانِ في حَياتِهِ المُسْتَقْبَلِيَّةِ؛ لِأنَّ الأحْوالَ الَّتِي تُصاحِبُ التَّكْوِينَ تَكُونُ إشْعارًا بِخَصائِصِ المُكَوِّنِ في مُقَوِّماتِهِ "(التحرير والتنوير).

 

5- قال ابن عاشور في سورة القريش:: "لِتَعْبُدْ قُرَيْشٌ رَبَّ هَذا البَيْتِ الَّذِي أطْعَمَهم مِن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ لِإيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ، فَلَمّا اقْتَضى قَصْدُ الِاهْتِمامِ بِالمَعْمُولِ تَقْدِيمَهُ عَلى عامِلِهِ، تَوَلَّدَ مِن تَقْدِيمِهِ مَعْنًى جَعَلَهُ شَرْطًا لِعامِلِهِ، فاقْتَرَنَ عامِلُهُ بِالفاءِ الَّتِي هي مِن شَأْنِ جَوابِ الشَّرْطِ، فالفاءُ الدّاخِلَةُ في قَوْلِهِ (فَلْيَعْبُدُوا) مُؤْذِنَةٌ بِأنَّ ما قَبْلَها مِن قُوَّةِ الشَّرْطِ، أيْ: مُؤْذِنَةٌ بِأنَّ تَقْدِيمَ المَعْمُولِ مَقْصُودٌ بِهِ اهْتِمامٌ خاصٌّ وعِنايَةٌ قَوِيَّةٌ هي عِنايَةُ المُشْتَرِطِ بِشَرْطِهِ، وتَعْلِيقُ بَقِيَّةِ كَلامِهِ عَلَيْهِ لِما يَنْتَظِرُهُ مِن جَوابِهِ، وهَذا أُسْلُوبٌ مِنَ الإيجازِ بَدِيعٌ"(التحرير والتنوير).

 

6-  قال محمد الخضر: "وشرع الصيام لتصفية مرآة العقل، ورياضة النفس بحبسها عن شهواتها، وإمساكها عن خسيس عاداتها، وليذوق الموسرون لباس الجوع فيعرفون قدر نعمة الله عليهم، وتهيج عواطفهم إلى مواساة الفقراء"(الصيام للعلامة الشيخ محمد الخضر حسين).

 

7- يقول الأستاذ الدكتور نعمت عبد اللطيف عاشور: "إن الإسلام ينهى عن شتى صور الإسراف الذى هو خروج عن الوسط والاعتدال بالزيادة في كل التصرفات الإنسانية - وإن كانت حلالا - ذلك أنه يترتب على الإسراف الاقتصادي خاصة: إهدار الوقت والجهد والموارد، وقصورها - على وفرتها - عن تلبية الحاجات الإنسانية، وتوفير السلع والخدمات اللازمة لإشباعها، مما يجعل الإسراف أحد الأسباب الرئيسية لما يعانيه العالم من مشاكل اقتصادية تتمثل في عدم كفاية الموارد لتحقيق حاجات البشر، وهو ما تؤكده الإحصائيات الدولية من إصابة البعض بأمراض التخمة والسمنة، بينما يقضى الجوع على أعداد متزايدة من البشر"(موسوعة المفاهيم الإسلامية العامة:21).

 

 

 

الإحالات

1- لسان العرب المؤلف : محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري الناشر : دار صادر – بيروت الطبعة الأولى (8/61) .

2- شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة المؤلف : هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي أبو القاسم الناشر : دار طيبة - الرياض ، 1402 تحقيق : د. أحمد سعد حمدان (4/805) .

3- الأسماء والصفات المؤلف : البيهقي أحمد بن الحسين أبو بكر 458 هجرية المحقق : عبد الله بن محمد الحاشدي الناشر : مكتبة السوادي – جدة الطبعة : الأولى (1/494) .

4- الشريعة المؤلف : أبو بكر محمد بن الحسين الآجري شهرته : الآجري المحقق : عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي دار النشر : دار الوطن البلد : الرياض (4/1562) .

5- كتاب أصول الإيمان في ضوء الكتاب والسنة المؤلف : نخبة من العلماء الطبعة : الأولى الناشر : وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية تاريخ النشر : 1421هـ (1/60) .

6- الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة أبو القاسم اسماعيل ابن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني سنة الولادة 457هـ/ سنة الوفاة 535هـ تحقيق محمد بن ربيع بن هادي عمير المدخلي الناشر دار الراية سنة النشر 1419هـ - 1999م مكان النشر السعودية / الرياض (2/187) .

7- معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول المؤلف : حافظ بن أحمد حكمي الناشر : دار ابن القيم – الدمام الطبعة الأولى ، 1410 – 1990 تحقيق : عمر بن محمود أبو عمر (3/1103) .

8- السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات محمد عبد السلام خضر الشقيري سنة الولادة -/ سنة الوفاة - تحقيق: محمد خليل هراس الناشر دار الفكر (1/152) .

9- المفصل في شرح آية لا إكراه في الدين جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود (1/88) .

10- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن المؤلف : محمد الأمين بن محمد المختار بن عبد القادر الجكني الشنقيطي (المتوفى : 1393هـ) الناشر : دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع بيروت – لبنان عام النشر : 1415 هـ - 1995 مـ (1/61، ) .

11- كلمات مضيئة في الدعوة إلي الله المؤلف: محمد علي محمد إمام تقديم: الشيخ علي سعد أبو الخير الناشر: مطبعة السلام، ميت غمر – مصر الطبعة: الأولي، 2005 م (1/450) .