انتكاسة

2022-10-05 - 1444/03/09

التعريف

نَكَسَهُ يَنْكُسُه نَكْساً: قَلَبَه علَى رَأْسه، فإنْتَكَس، وقال شَمِرٌ: النَّكْسُ: يَرجِعُ إِلى قَلْبِ الشيْءِ ورَدِّه وجَعْلِ أَعْلاه أَسْفَلَه، ومُقَدَّمِه مُؤَخَّرَه. وقالَ الفَرّاءُ في قَوْلَه عزّ وجَلّ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ يقولُ: رَجَعَوا عَمّا عَرَفُوا مِن الحُجِّة لإِبراهِيمَ عليه السّلامُ.

 

ونَكَس رَأْسَه: أَمالَهُ، كنَكَّسَه تَنْكِيساً، والتشديدُ للمُبَالَغةِ، وبه قَرَأَ عاصِمٌ وحمزةُ ومَنْ نُعَمِّرْهُ نَنَكِّسْهُ وقرأَ غيرُهما بفتحِ النُّونِ وضمِّ الكاف، أَي مَن أَطَلْنا عَمُرَه نَكَّسْنَا خَلْقَه فصارَ بعدَ القُوَّة الضَّعْفُ، وبعدَ الشَّبَابِ الهَرَمُ. وفُلانٌ يَقْرَأُ القُرْآنَ مَنْكُوساً، أَي يَبْتَدِئُ من آخِرِه، أَي مِن المُعَوِّذَتَيْن ثُمَّ يرتَفِعُ إِلى البَقَرةِ، ويَخْتِمُ بالفَاتِحَةِ.

 

وقد نَكِسَ في مَرَضه، كعُنِيَ، نَكْساً: عاوَدَتْه العِلَّةُ، فهو مَنْكُوسٌ.

 

والنِّكْسُ: الرَّجُلُ الضَّعِيفُ والجَمْع: أَنْكاسٌ. وقيل: النِّكْسُ: النَّصْلُ يَنْكَسِرُ سِنْخُه فتُجْعَلُ ظُبَتُه سِنْخاً فلا يَرْجِعُ كما كَانَ، ولا يَكُونُ فيه خَيْرٌ.

 

والجَمْع: أَنْكَاسٌ. والمُنَكَّسُ كمُحَدِّث: الفَرَسُ لا يَسْمُو برَأْسه، وقالَ ابنُ فارِسٍ: هو الَّذِي لا يَسْمُو برأْسِه ولا بِهَادِيهِ إِذا جَرَى، ضَعْفاً، فكأَنَّه نُكِسَ ورُدَّ، أَو الَّذي لَم يَلْحَق الخَيْلَ في شَأْوِهِم، عنِ اللَّيْثِ، أَي لضَعْفِه وعَجْزِه، وهو النِّكْسُ أَيضاً.

 

وانْتَكَسَ: وَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ، وهو مُطَاوِعُ نَكَسَه نَكْساً، وفي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنه: تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَار وانْتَكَسَ، أَي انْقَلَب على رَأْسِه، وهو دُعَاءٌ عليه بالخَيْبَةِ، لأَنَّ مَن انْتَكَسَ في أَمْرِه فقَدْ خابَ وخَسِر.

 

وقال ابن شُمَيْلٍ: نَكَسْتُ فُلاناً في ذلِكَ الأَمْرِ، أَي رَدَدْتُه فيه بَعْدَ ما خَرَجَ منه (تاج العروس من جواهر القاموس لمحمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسيني أبو الفيض، الملقّب بمرتضى، الزَّبيدي (16/580).

 

والانتكاس: الانقلاب على الرأس، وفي الأمر. ولأن من انتكس في أمره، فقد خاب وخسر.

 

العناصر

1- أسباب انتكاس القلب.

 

2- خطورة اهتمام الإنسان بالمظهر دون الباطن.

 

3- أهمية تعاهد القلب من الآفات.

 

4- ضرورة الأخذ بوسائل الثبات ودعوة المنتكسين.

 

5- عدم رد كل أسباب الانتكاس إلى الوسط المعايش.

 

6- مظاهر الانتكاس عن طريق الهداية والاستقامة.

 

 7- طرق ووسائل علاج المنتكسين عن طريق الحق.

 

الايات

1- قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الكهف: 28].

 

2- قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)[الرعد:11].

 

3- قوله تعالى: ( ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ)[الأنبياء: 65].

 

4- قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[التوبة: 115].

 

5- قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا)[النساء: 66].

 

6- قوله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ)[الأعراف:175- 177].

 

7- قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ)[إبراهيم: 35-36].

 

8- قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً)[النحل: ا9].

 

الاحاديث

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار؛ تعس عبد الدرهم؛ تعس عبد الخميصة؛ تعس عبد الخميلة؛ إن اعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس؛ وإذا شيك فلا انتقش. طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، اشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة، كان في الحراسة، إن كان في الساقة، كان في الساقة، إن إستاذن، لم يؤذن له، وإن شفع، لم يشفع له"(رواه البخاري:2887).

 

2- عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك"(رواه مسلم:6921).

 

3- عن عبد الله بن سرجس: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان إذا سافر قال: «اللهم أني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب والحور بعد الكور ودعوة المظلوم وسوء المنظر في الأهل والمال» (رواه النسائي:5498 وقال الألباني: صحيح).

 

الاثار

1- عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما من أحد إلا في رأسه حكمة فإن تواضع قيل له: انتعش نعشك الله وإن رفع رأسه قيل له: انتكس نكسك الله (الإيمان الأوسط شيخ الإسلام أحمد بن عبدالحليم بن تيمية ص174).

 

2- قيل لعبد الله ابن مسعود: إنَّ فُلانا يَقْرأ القرآن مَنْكُوسا فقال: ذلك مَنْكوسُ القَلْب (النهاية في غريب الحديث والأثر (5/241).

 

3- يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنًا، فليستن بمن مات، أولئك أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -، كانوا خير هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، ونقل دينه، فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم، فهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا على الهدي المستقيم (رواه أبو نعيم في الحلية).

 

4- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.

 

5- يقول الحسن البصري: إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة همته.

 

6- عن الْمُعَلَّى بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: وَاللهِ مَا أَصْبَحَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَلَا أَمْسَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُؤْمِنٌ، إِلَّا وَهُوَ يَتَخَوَّفُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَا أَمِنَ النِّفَاقَ إِلَّا مُنَافِقٌ "، أعاذاني الله وإياكم من النفاق وأهله (أورده البخاري في صحيحه معلقاً).

 

القصص

1- يقول الشيخ سلمان العودة: ولعلي أذكر لكم قصة شهيرة معروفة، وهي قصة رجل كان يقال له عبد الله القصيمي، وكان هذا الرجل يعيش زمناً طويلاًً في بلاد نجد يجالس العلماء ويقرأ عندهم، وربما مشى وصحيح البخاري في إبطه، وربما حضر مجالس العلم والذكر، وكان معروفاً حتى أنه ألف كتباً كثيرة ينصر فيها الحق، ومن هذه الكتب كتاب مشهور مطبوع في مجلدين اسمه: الصراع بين الإسلام والوثنية وهو رد على أحد الشيعة الذين سبوا وذموا دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى، فرد عليه عبد الله القصيمي بهذا الكتاب الصراع بين الإسلام والوثنية وقال بعض طلبة العلم آنذاك: لقد دفع عبد الله القصيمي مهر الجنة بهذا الكتاب، ثم انتكس الرجل وارتد وأعتقد والله أعلم أن ردته وهي ردةً كلية وصلت في فترة من الفترات إلى درجة الإلحاد المطلق، بل والكفر حتى بجملة الرسالة، والكفر بالأمة التي أنزل عليها الإسلام، وهي أمة العرب، فرفض الإسلام ورفض العرب.

 

ولم يكن كفره لشبهة بقدر ما كان كفره لشهوة خفية متأصلة في أعماق قلبه، هذا هو ما توصلت إليه بعد طول تأمل في حال هذا الرجل؛ وهذا درس يجب أن نعيه؛ فلم تكن القضية قضية شبهة أو شك أو إلحاد حقيقي، إنما كان هذا الإلحاد ستاراً يتستر به أو مسوغاً يسوغ به الواقع الذي يعيشه، أما الحقيقة -والله تعالى أعلم- الذي يبدوا أن الرجل إنما ارتد بسبب شهوة؛ ما هذه الشهوة؟ إنها شهوة العظمة، حتى إن هذا الرجل كان يقول في شعره: ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق أغنى عن الرسل هذا البيت قرأته في كتاب أحد العلماء الذين ردوا عليه، ثم قلت في قلبي: هل من المعقول أن يقول إنسان مثل هذا الكلام؟! وإذا بي أقف على كتاب مطبوع من كتب القصيمي التي ألفها قبل أن يرتد، ألفها يوم كان يزعم أنه مهتدٍ، وهو كتاب اسمه الفصل الحاسم بين الوهابيين ومخالفيهم فوجدت هذا الرجل يتغزل بنفسه ويعظم ذاته، ويتكلم عن نفسه كلاماً يستغرب الإنسان أن يسمعه بعنوان (أسى) يقول: ولو أنصفوا كنت المقدم في الأمر ولم يطلبوا غيري لدى الحادث النكر ولم يرغبوا إلا إلي إذا ابتغوا رشاداً وحزماً يعزبان عن الفكر ولم يذكروا غيري متى ذكر الذكاء ولم يبصروا غيري لدى غيبة البدر فما أنا إلا الشمس في غير برجها وما أنا إلا الدر في لجج البحر بلغت بقولي ما يرام إلى العلى فما ضرني فقد الصوارم والسمر وما ضرني ألا أروح واغتدي باردان مجدود على سابح يثري ثم يقول: أسفت على علمي المضاع ومنطقي وقد أدركا لو أدركا غاية الفخر أرى كل قوم يحفظون أديبهم ويجزونه بالعز والمال والشكر إذاً الرجل يشكو نفسه وحاله، ويرى أنه مضيع في أمته وقومه وقبيلته: فلا خلى معشري ما عندهم لأديبهم سوى الحسد الممقوت والبغض والهجر إذا قام فيهم ناشئ ذو مخايل تدل على العلياء والحسب الحر أطاحوه غضاً قبل أن يبلغ المدى وقاموا على أعواده الخضر بالكسر إلى آخر القصيدة التي أصبح يتكلم فيها عن واقع الناس كلام الذي يتسخط فيها على قضاء الله وقدره، ويرى أنه كان جديراً وحقيقاً بكل خير، وأن الأقدار ما أنصفته، وهذا هو الذي كان يقوله الأول: كم عالمٍ عالمٍ ضاقت مذاهبه وجاهلٍ جاهلٍ تلقاه مرزوقا إذاً: هذا الرجل الذي تحول من التظاهر بالإيمان إلى التطاول على الله تعالى والسخرية به، وازدراء القيم، والعقائد، والمثل، والأخلاق، إنما يعيش ردة فعلٍ عن المجتمع الذي عاش فيه ولم يلب طموحاته الشخصية، ولم يكن متوافقاً مع متطلباته الذاتية، فكانت النتيجة أن تحطم هذا الرجل، ثم ترك الإيمان والإسلام -والعياذ بالله- وذهب يبحث لنفسه عن شهرةٍ ومجدٍ في الكفر والإلحاد (دروس للشيخ سلمان العودة رقم الدرس:279).

 

الاشعار

1- قال ابن القيم رحمه الله:

واجعل لقلبك مقلتين كلاهما *** بالحق في ذا الخلق ناظرتانِ 

فانظر بعين الحكم وارحمهم بها *** إذ لا ترد مشيئة الديانِ 

وانظر بعين الأمر واحملهم على *** أحكامه فهما إذاً نظرانِ 

واجعل لقلبك مقلتين كلاهما *** من خشية الرحمن باكيتانِ 

لو شاء ربك كنت أيضاَ مثلهم *** فالقلب بين أصابع الرحمنِ

 

متفرقات

1- قال الشيخ محمد صالح المنجد: أن الذنوب إذا تكاثرت طُبِعَ على قلب صاحبها، فكان من الغافلين. كما قال بعض السلف في قوله تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) قال: هو الذنب بعد الذنب. وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير راناً، ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فإذا حصل له ذلك بعد الهدى والبصيرة انتكس فصار أعلاه أسفله، فحينئذٍ يتولاه الشيطان ويسوقه حيث أراد (فتاوى الإسلام سؤال وجواب (2622).

 

2- يقول ابن القيم رحمه الله: على الرجل الذي انتكس ويريد العودة: وصاحب هذا المشهد يشهد نفسه كرجلٍ كان في كنف أبيه، يغذيه بأطيب الطعام والشراب، ويلبسه أحسن الثياب، ويربيه أحسن التربية، ويعطيه النفقة، وهو القيم بمصالحه كلها، فبعثه أبوه يوماً في حاجةٍ له فخرج عليه في طريقه عدو فأسره وكتفه وشد وثاقه، ثم ذهب به إلى بلاد الأعداء فسامه سوء العذاب، وعامله بضد ما كان يعامله به أبوه، فهو يتذكر تربية والده وإحسانه إليه الفينة بعد الفينة، فتتهيج من قلبه لواعج الحسرات كلما رأى حاله، ويتذكر ما كان عليه وكل ما كان فيه، فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب، ويريد ذبحه في نهاية المطاف، إذ حانت منه التفاتة نحو ديار أبيه -الآن هذه مرحلة تذكر الشخص المنتكس الماضي ويريد الرجوع- فرأى أباه منه قريباً فسعى إليه وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يديه يستغيث: يا أبتاه! يا أبتاه! يا أبتاه! انظر إلى ولدك وما هو فيه، ودموعه تسيل على خديه، قد اعتنقه والتزمه، وعدوه في طلبه حتى وقف على رأسه -الولد الآن عند أبيه والعدو يسعى يطالب به حتى وقف عند رأسه- وهو ملتزمٌ بوالده ممسكٌ به فهل تقول إن والده يسلمه مع هذه إلى عدوه ويخلي بينه وبينه؟! فما الظن بمن هو أرحم بعبده من الوالدة بولدها، ومن الوالد بولده، إذا فر عبدٌ إليه وهرب من عدوه إليه وألقى بنفسه طريحاً ببابه يمرغ خده في ثرى أعتابه باكياً بين يديه، يقول: يا رب يا رب ارحم من لا راحم له سواك ولا ناصر له سواك ولا مؤوي له سواك ولا مغيث له سواك مسكينك وفقيرك وسائلك ومؤملك ومرجيك لا ملجأ له ولا منجا له منك إلا إليك أنت معاذه وبك ملاذه يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره (مدارج السالكين (1/430).

 

3- يقول الدكتور ناصر العمر عند الكلام عغن قوله تعالى: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى) (القصص: 76): التعبير بكان في هذا السياق يشعر بانبتات وانفصام حدث بعد أن لم يكن.. فقد كان قارون من قوم موسى نسباً وديانة ولساناً وشرفاً فهو من جملة نسل إسرائيل عليه السلام.. وهو من القوم؛ من بني جلدتهم يتحدث بلسانهم وما من مولود إلاّ ويولد على الفطرة فلم يولد قارون طاغية فرعونياً باغياً... بل صح عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره أنه قال: كان قارون ابن عم موسى، وكان يبتغي العلم حتى جمع علماً، فلم يزل في أمره ذلك حتى بغى على موسى... وكونه ابن عم موسى ثابت عن غير واحد من السلف وقال بعضهم ابن أخيه، وذكروا في صفاته التي كان عليها ما فيه عبرة: فذكروا طلبه للعلم، وذكروا أنه كان يدعى المنور من حسن صوته بالتوراة...

 

لكن الثبات عزيز ولزوم الاستقامة كرامة لا يوفق لها إلاّ من رحمه الله: (فبغى عليهم).. وهذه بلية في بعض المتذبذبين المائلين، لا يكتفي أحدهم بالتنازل عن الثوابت والاعتراف بالذنب والتقصير إذاً لكان الأمر أهون وهو عظيم!.. لو كان يقول: انحرفت والله يهديني كما يفعل كثير من الفساق لكان الأمر أيسر بكثير.. لكن بعض المتذبذبين المائلين يبدأ في تشريع ذلك التذبذب ومحاولة إثبات أنه الحق ومقتضى العقل والحكمة، ثم يتدرج به الشيطان إلى حرب من ثبت من إخوته الذين بقوا على العهد الأول، وهذا كثير في من عرف بسابقة وفضل وكانت له مكانة، فالشهوة الخفية تدفعه للذب عن تلك الحظوة والدفاع عن تلك المكانة ولا يكون هذا إلاّ بتسويغ ما هو فيه وربما رمي من بقي على العهد الأول بالباطل! والمقصود الثبات عزيز، ولزوم الاستقامة كرامة يوفق الله من علم من نفسه خيراً وربك أعلم بمواضع رحمته نسأل الله من فضله وكرمه.

 

 

الإحالات

1-  الحور بعد الكور؛ لمحمد بن عبد الله الدويش.

 

2- من أخبار المنتكسين؛ لصالح العصيمي.

 

3- الهدى والضلال؛ لأحمد عز الدين البيانوني ص 71.