اضطرار

2024-02-10 - 1445/07/29

التعريف

أولًا: المعنى اللغوي:

 

الاضطرار: الاحتياج إلى الشيء، يقال: اضطر فلانٌ إلى كذا، من الضرورة، وقد اضطره إليه أمرٌ، ورجلٌ ذو ضارورةٍ وضرورةٍ، أي: ذو حاجةٍ، وقد اضطر فلان إلى الشيء: أي ألجئ إليه، والضرورة اسمٌ لمصدر الاضطرار، تقول: حملتني الضرورة على كذا وكذا (انظر: مقاييس اللغة: (٣-٣٦٠)، لسان العرب: (٤-٤٨٣).

 

إذن فالاضطرار يدور معناه حول دنو الضيق والحاجة.

 

ثانيًا: المعنى الاصطلاحي:

قال الراغب الأصفهاني: "الاضطرار: حمل الإنسان على ما يضره". المفردات: (ص٥٠٤).

 

وقال الجرجاني: “الضرورة: مشتقة من الضرر، وهو النازل مما لا مدفع له” (التعريفات: (ص١٣٨).

 

وهي عند الفقهاء: “بلوغ الإنسان حدًا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس بحيث لو بقي جائعًا أو عريانًا لمات، أو تلف منه عضو، وهذا يبيح تناول المحرم” (الموسوعة الفقهية الكويتية: (٢٨-١٩٨).

 

وخلاصة القول: إن المتدبر في المعنيين اللغوي والاصطلاحي يجد اتصالًا وثيقًا بينهما، حيث إن المعنى الاصطلاحي هو أن الاضطرار يعني وصول الإنسان إلى درجة من الضيق واللجوء إلى مكروه، وهذا مرتبط بمعناه في اللغة الذي هو متمثلٌ في دنو الضيق والحاجة.

 

العناصر

1- مفهوم الاضطرار

 

2- اعتبار الاضطرار في القرآن الكريم

 

3- من صور الاضطرار

 

4- شروط تحقق الاضطرار

 

5- مقاصد الشريعة في اعتبار الاضطرار

الايات

1- قال الله تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:173].

 

2- قولُه تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة:286].

 

3- قولُه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [النِّسَاءِ: 97]. هذه الضرورة لا تحل لك ظلم نفسك بالمعصية وإنما تسلك سبيل الهجرة.

 

4- قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:3].

 

5- قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ) [الأنعام:119].

 

6- قال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام:145].

 

7- قال تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ)[التوبة: 81]. الحر من الضرورة الوهمية والغير مقبولة.

 

8- قال تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)[النَّحْلِ: 106].

 

9- قال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:115].

 

10- قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) [الإسراء:70]. لا يجوز أكل الإنسان من المضطر.

 

11- قال تعالى: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62].

 

الاحاديث

1- عن أبي واقد الليثي قالَ: يا رسولَ اللهِ، إنّا بأرْضِ مَخْمَصةٍ، فما يَحِلُّ لنا مِن الميتةِ؟ قالَ: "إذا لم تَصْطَبِحُوا، ولم تَغْتَبقُوا، ولم تَحْتَفُوا؛ فشَأنُكُم بها". رواه الحاكم في المستدرك: (٧٣٥٢)، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وأخرجه أحمد: (٢١٨٩٨)، والدارمي: (١٩٩٦)، والطبراني: (٣/٢٥١) (٣٣١٥).

 

2- قال ابن مسعود في شأن المسكر: "إنَّ اللهَ لم يجعلْ شفاءَكم فيما حَرَّم عليكم". أخرجه البخاري معلقاً بصيغة الجزم قبل حديث: (٥٦١٤)، وأخرجه موصولاً الطبراني: (٩/٤٠٣) (٩٧١٧)، والحاكم: (٧٥٠٩) موقوفاً، وصححه الألباني في غاية المرام: (٦٧).

 

3- عن عباد بن شرحبيل رضي الله عنه قال: أصابَنا عامُ مَخمصةٍ فأتيتُ المدينةَ فأتيتُ حائطًا من حيطانِها فأخذتُ سُنبُلًا ففرَكْتُهُ وأَكَلتُهُ وجعلتُهُ في كسائي فجاءَ صاحبُ الحائطِ فَضربَني وأخذَ ثَوبي فأتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُهُ فقالَ للرَّجلِ: "ما أطعَمتَهُ إذ كانَ جائعًا أو ساغبًا ولا علَّمتَهُ إذ كانَ جاهلًا" فأمرَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فردَّ إليهِ ثوبَهُ وأمرَ لَهُ بوَسقٍ من طعامٍ أو نِصفِ وَسقٍ. الراوي: رواه ابن ماجه: (١٨٧٥)، وصححه الألباني.

 

4- عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنهما، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: "إنَّ اللهَ وَضَع عن أُمَّتي الخطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليه". أخرجه ابن ماجه: (١٦٧٧)، وصححه الألباني.

 

5- عن عائشةَ رضي الله عنها، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: "كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ ككَسْرِه حَيًّا". رواه أبو داود: (٣٢٠٧)، وصححه الألباني.

 

6- عن جابر بن سمرة رضيَ اللهُ عنه قال: أنَّ أهلَ بَيتٍ كانوا بِالحَرَّةِ مُحتاجِينَ، قالَ: فماتَتْ عِندَهم ناقةٌ لهم، أو لِغَيرِهم، فرَخَّصَ لهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أكْلِها، قالَ: فعصَمَتْهُم بَقيَّةَ شِتائِهم، أو سَنَتِهم. أخرجه أحمد: (٢٠٨١٥) واللفظ له، والطيالسي: (٨١٣)، وأبو يعلى: (٧٤٤٨)، وقال الشوكاني في نيل الأوطار: (٩-٣٠): "ليس في إسناده مطعن" وقال محقق الطيالسي: "حديث صحيح، وشريك متابع فيه"، وقال شعيب الأرنؤوط في تخريج المسند لشعيب (٢٠٨١٥): "إسناده ضعيف".

 

الاثار

1- قال ابن عباس في قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)[النَّحْلِ: 106]. قال: "نزلت في عمار بن ياسر، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسرًا وأمه سمية وصهيبًا وبلالًا وخبابًا وسالمًا فعذبوهم، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة، وقيل لها: إنك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت وقتل زوجها ياسر، وهما أول قتيلين قتلا في الإسلام. وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهًا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن عمارًا كفر، فقال: "كلا، إن عمارًا ملئ إيمانًا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه"، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي، فجعل رسول الله عليه الصلاة والسلام يمسح عينيه، وقال: "إن عادوا لك فعد لهم بما قلت"، فأنزل الله تعالى هذه الآية. أسباب النزول، الواحدي: (ص ٢٨١).

 

2- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه كان يفتي الحجيج بأنه إذا كان للرجل متاع بمكة يخشى عليه الضيعة إن بات بمنى، فلا بأس أن يبيت عنده بمكة. أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وغيره.

 

3- قال مسروق: "من اضطر إلى أكل الميتة والدم ولحم الخنزير فلم يأكل حتى مات، دخل النار، إلا أن يعفو الله عنه". تفسير القرطبي سورة البقرة- الآية 173.

 

الاشعار

قال أحدهم:

إن ‌الضرورة تخرج الأحرار من *** أوطانها والطير من أوكارها

وإذا الفتى ضاقت عليه جهاته *** طلب التنقل طائعاً أو كارها

صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال؛ للقاضي حسين بن محمد المهدي: (1-271).

الحكم

1- "الْمَسْأَلَة آخر كسب الْمَرْء". يضْرب فِي النَّهْي عَن السُّؤَال إِلَّا عِنْد الِاضْطِرَار. المستقصى من أمثال العرب: (1-346).

 

2- "الحمّى أضرعتني إليك يا قطيفة". أي: ‌الضّرورة قادتني إلى ما عندك. الأمثال؛ لابن رفاعة: (1-96).

 

3- "حُلِبَتْ صُرَامُ". ضرب عند بلوغ الشر آخِرَه. والصُّرَام: آخرُ اللبن بعد التغريز، إذا احتاج إليه صاحبه حَلَبه ‌ضرورة. مجمع الأمثال: (1-215).

 

4- "أدْرِكْنِي وَلَوْ بِأحَدِ المَغْرُوَّيِنْ" المَغْرُوّ: السهم المَرِيشُ.

قال المفضل: "كان رجلان من أهل هَجَرَ أخوان ركب أحدهما ناقة صعبة، وكانت العرب تُحَمِّقُ أهل هَجَر، وأن الناقة جالت، ومع الذي لم يركب منهما قَوْس، واسمه هُنَين، فناداه الراكب منهما فقال: يا هُنَيْن ويلك أدركني ولو بأحد المغروَّيْنِ، يعني سهمه، فرماه أخوه فصَرَعه، فذهب قوله مثلا". يضرب عند ‌الضرورة ونَفَاد الحيلة. مجمع الأمثال: (1-265).

متفرقات

1- قال القرطبي: "ولا خلاف بين أهل العلم متأخريهم ومتقدميهم في وجوب رد مهجة المسلم عند خوف الذهاب والتلف بالشيء اليسير الذي لا مضرة فيه على صاحبه وفيه البلغة". تفسير القرطبي: (٢-٢٢٦).

 

2- قال ابن قدامة: "أجمع العلماء على تحريم الميتة حال الاختيار وعلى إباحة الأكل منها في الاضطرار وكذلك سائر المحرمات والأصل في هذا قول الله تعالى : (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) ويباح له أكل ما يسد الرمق معه ويأمن الموت بالإجماع ويحرم ما زاد على الشبع بالإجماع". المغني: (11-74).

 

3- قال ابن تيمية: "لو لم يجد ما يشربه إلا في إناء ذهب أو فضة جاز له شربه ولو لم يجد ثوبا يقيه البرد أو يقيه السلاح أو يستر به عورته إلا ثوبا من حرير منسوج بذهب أو فضة جاز له لبسه ; فإن الضرورة تبيح أكل الميتة والدم ولحم الخنزير بنص القرآن والسنة وإجماع الأمة". مجموع الفتاوى: (12-45).

 

4- قال أبو الحسن الطبري: "وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصياً". تفسير القرطبي - تفسير سورة البقرة؛ الآية: 173.

 

قال ابن رجب: "من أتلف شيئا لدفع أذاه له لم يضمنه وإن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه ويتخرج على ذلك مسائل: منها لو صال عليه حيوان آدمي أو بهيمة فدفعه عن نفسه بالقتل لم يضمنه ولو قتل حيوانا لغيره في مخمصة ليحيي به نفسه ضمنه". القواعد: (1-36).

 

قال ابن قدامة: "وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر فيه وجهان:

أحدهما: يجب، وهو قول مسروق، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي.

قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل، فذكر قول مسروق: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد، وذلك لقول الله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ)[البقرة: 195]، وترك الأكل مع إمكانه في هذا الحال إلقاء بيده إلى التهلكة وقال الله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً)[النساء: 29]، ولأنه قادر على إحياء نفسه بما أحله الله فلزمه، كما لو كان معه طعام حلال.

 

والثاني: لا يلزمه، لما روي عن عبد الله بن حذافة السهمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن طاغية الروم حبسه في بيت وجعل معه خمراً ممزوجاً بماء، ولحم خنزير مشوي ثلاثة أيام، فلم يأكل ولم يشرب حتى مال رأسه من الجوع والعطش وخشوا موته، فأخرجوه فقال: قد كان الله أحله لي؛ لأني مضطر، ولكن لم أكن لأشمتك بدين الإسلام. ولأن إباحة الأكل رخصة فلا تجب عليه كسائر الرخص. ولأن له غرضاً في اجتناب النجاسة والأخذ بالعزيمة، وربما لم تطب نفسه بتناول الميتة وفارق الحلال في الأصل من هذه الوجوه. وقد قدمنا أن أظهر القولين دليلاً وجوب تناول ما يمسك الحياة؛ لأن الإنسان لا يجوز له إهلاك نفسه. والعلم عند الله تعالى". المغني: (11-74).

 

سئل مالك عن الرجل يضطر إلى الميتة، أيأكل منها وهو يجد ثمراً لقوم أو زرعاً أو غنماً بمكانه ذلك؟ قال مالك: "إن ظن أن أهل ذلك الثمر، أو الزرع، أو الغنم يصدقونه بضرورته حتى لا يعد سارقاً فتقطع يده، رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل منه شيئاً، وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة. وإن هو خشي ألا يصدقوه، وأن يعد سارقاً بما أصاب من ذلك. فإن أكل الميتة خير له عندي. وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة، مع أني أخاف أن يعدو عادٍ ممن لم يضطر إلى الميتة يريد استجازة أموال الناس وزروعهم وثمارهم بذلك بدون اضطرار". الموطا؛ (ص: 185).

 

قال ابن حبيب: "إن حضر صاحب المال فحق عليه أن يأذن له في الأكل. فإن منعه فجائز للذي خاف الموت أن يقاتله حتى يصل إلى أكل ما يرد نفسه". قال الباجي: "يريد أنه يدعوه أولاً إلى أن يبيعه بثمن في ذمته، فإن أبى استطعمه، فإن أبى، أعلمه أنه يقاتله عليه". المنتقى شرح موطأ مالك: (4-280).

 

قال ابن رجب: "فهو كقبض المضطر مال غيره لإحياء نفسه لا يسقط عنه الضمان لأن إذن الشرع تعلق بإحياء نفسه وجاء الإذن في الإتلاف من باب اللزوم". القواعد: (1-59).

 

قال الإمام الرازي عند قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:173]. قال: "أما قوله تعالى في آخر الآية: (إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ففيه إشكال وهو أنه لما قال: (فَلا إثْمَ عَلَيْهِ)؛ فكيف يليق أن يقول بعده: (إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم. والجواب: من وجوه أحدها: أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدم، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض، فلما كان تناوله تناولًا لما حصل فيه المقتضي للحرمة عبر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنه رحيم، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك، وثانيها: لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة، فهو سبحانه غفورٌ بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة، رحيمٌ حيث أباح في تناول قدر الحاجة، وثالثها: أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفورًا رحيمًا؛ لأنه غفورٌ للعصاة إذا تابوا، رحيمٌ بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى". التفسير الكبير: (2-40).

 

قال ابن عاشور: "وقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [البقرة:173] تذييل قصد به الامتنان، أي: إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة؛ لأنه رحيم بالناس، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب، ونحوه ... ومعنى الآية: أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة". التحرير والتنوير: 2 -121).

 

قال الشيخ ابن سعدي: "(فَمَنِ اضْطُرَّ) أي: ألجئ إلى المحرم، بجوع وعدم، أو إكراه، (غَيْرَ بَاغٍ) أي: غير طالب للمحرم، مع قدرته على الحلال، أو مع عدم جوعه، (وَلَا عَادٍ) أي: متجاوز الحد في تناول ما أبيح له، اضطرارا، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها، (فَلَا إِثْمَ) أي: جناح عليه، وإذا ارتفع الجناح الإثم رجع الأمر إلى ما كان عليه، والإنسان بهذه الحالة، مأمور بالأكل، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة، وأن يقتل نفسه. فيجب، إذًا عليه الأكل، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات، فيكون قاتلا لنفسه. وهذه الإباحة والتوسعة، من رحمته تعالى بعباده، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين، وكان الإنسان في هذه الحالة، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال، خصوصا وقد غلبته الضرورة، وأذهبت حواسه المشقة. وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة: " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور، اضطر إليه الإنسان، فقد أباحه له، الملك الرحمن. فله الحمد والشكر، أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا".

 

قال الإمام ابن عاشور في بيان حقيقة الضرورة وحدها: "هي الحاجة التي يشعر عندها من لم يكن دأبه البغي والعدوان بأنه سيبغي ويعتدي. وهذا تحديدٌ منضبطٌ، فإن الناس متفاوتون في تحمل الجوع ولتفاوت الأمزجة في مقاومته، ومن الفقهاء من يحدد الضرورة بخشية الهلاك ومرادهم الإفضاء إلى الموت والمرض وإلا فإن حالة الإشراف على الموت لا ينفع عندها الأكل، فعلم أن نفي الإثم عن المضطر فيما يتناوله من هذه المحرمات منوطٌ بحالة الاضطرار، فإذا تناول ما أزال به الضرورة فقد عاد التحريم كما كان، فالجائع يأكل من هاته المحرمات إن لم يجد غيرها أكلًا يغنيه عن الجوع، وإذا خاف أن تستمر به الحاجة كمن توسط فلاةً في سفرٍ أن يتزود من بعض هاته الأشياء حتى إن استغنى عنها طرحها؛ لأنه لا يدري هل يتفق له وجدانها مرةً أخرى".

 

قال وهبة الزحيلي: "فإن ترك المضطر تناول المحرم حتى مات، فقد وقع في المعصية؛ لأنه ألقى نفسه إلى الهلاك، وهذا منهيٌ عنه؛ ولأنه كان قادرًا على إحياء نفسه بما أباحه الله تعالى له، فلزمه ذلك، كما لو كانه معه طعامٌ حلال". الفقه الإسلامي وأدلته: (٤-٢٦٠١).

 

قال ابن عطية: "فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه، فهذا كله يتناوله النهي، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفًا على نفسه منه، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه".

 

قال ابن سعدي: "والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين: ترك ما أمر به العبد، إذا كان تركه موجبًا أو مقاربًا لهلاك البدن أو الروح، وفعل ما هو سببٌ موصلٌ إلى تلف النفس أو الروح".

 

قال ابن كثير عند قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ)[النَّحْلِ: 106]. قال: "أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر، وشرح صدره بالكفر واطمأن به: أنه قد غضب عليه، لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه، وأن لهم عذابًا عظيمًا في الدار الآخرة؛ لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق، فطبع على قلوبهم فلا يعقلون بها شيئًا ينفعهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها، ولا أغنت عنهم شيئًا، فهم غافلون عما يراد بهم".

 

قال الدكتور وهبة الزحيلي: "أي أن يحصل في الواقع خوف الهلاك على النفس أو المال بغلبة الظن بحسب التجارب، أو التحقق من خطر التلف، لو لم يأكل، ويكفي في ذلك الظن، كما في الإكراه على أكل الحرام، فلا يشترط فيه التيقن ولا الإشراف على الموت، بل لو انتهى إلى هذه الحالة لم يفد الأكل ولم يحل الأكل كما صرح الشافعية".

 

ذكر الماوردي في تفسيره لقوله تعالى: (غير باغ ولا عاد) ثلاثة أقوال، وهي كما يأتي:

الأول: أي غير باغٍ على الإمام، ولا عادٍ على الأمة بإفساد شملهم.

 

الثاني: غير باغٍ في أكله فوق حاجته، ولا عادٍ يعني متعديًا بأكل المحظور وهو يجد غيره من المباح.

 

الثالث: غير باغٍ في أكل المحظور شهوةً وتلذذًا، ولا عادٍ باستيفاء الأكل إلى حد الشبع. انظر: النكت والعيون؛ للماوردي: (١-٢٢٢).

 

قال الرازي عند قوله تعالى: (): "لما حرم الله تعالى تلك الأشياء، استثنى عنها حال الضرورة، وهذه الضرورة لها سببان: أحدهما: الجوع الشديد، وأن لا يجد مأكولا حلالا يسد به الرمق، فعند ذلك يكون مضطرا. الثاني: إذا أكرهه على تناوله مكره، فيحل له تناوله".

 

قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه: لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه وقال عبد الله بن الحسن العنبري: يأكل منها ما يسد جوعه، وعن مالك: يأكل منها حتى يشبع ويتزود، فإن وجد غنى عنها طرحها، والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا؛ لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة، كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال، فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم، ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري؛ لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضررا بتركه فكذا ههنا، ويدل عليه أيضا أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة، فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة، فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر وجب أن يحرم عليه الأكل بعد ذلك.

 

مَثَّل العلماء على الضرورات تبيح المحظورات – غير أكل الميتة عند المخمصة -: إساغة اللقمة بالخمر والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه، ودفع المعتدي ولو أدى إلى قتله. انظر: الأشباه والنظائر؛ لابن نجيم: (ص 85).

 

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : "ليس هناك ضرورة تبيح المحرم إلا بشرطين:

1- أن نعلم أنه لا تزول ضرورته إلا بهذا. 2- أن نعلم أن ضرورته تزول به". لقاء الباب المفتوح: (3-19).

 

قال محمد الأمين الشنقيطي: "أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة ; لأن قوله عن أصحاب الكهف: إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم، ظاهر في إكراههم على ذلك وعدم طواعيتهم، ومع هذا قال عنهم : ولن تفلحوا إذا أبدا، فدل ذلك على أن ذلك الإكراه ليس بعذر . ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل ; لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذبابا قتلوه.

 

ويشهد له أيضا دليل الخطاب، أي : مفهوم المخالفة في قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ; فإنه يفهم من قوله : " تجاوز لي عن أمتي " أن غير أمته من الأمم لم يتجاوز لهم عن ذلك، وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديما وحديثا بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة، وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في سورة الكهف، في الكلام على قوله: (إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم) الآية، ولذلك اختصرناها هنا، أما هذه الأمة فقد صرح الله تعالى بعذرهم بالإكراه في قوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، والعلم عند الله تعالى" أضواء البيان: (3-251).

 

قال ابن تيمية: "الضرورة: التي يحصل بعدمها حصول موت أو مرض أو العجز عن الواجبات". مجموع الفتاوى: (31-226).

 

فرغم هذا الوعيد الشديد في هذه الآية : (وَمَن يفعل ذلك فليس منّ الله في شيء) ، ورغم الوعيد في آيات أخرى مثل : (وَمَن يَتَوَلَّهُم مُنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الوفيرة، فقد استثنى حالة الضعف التي يتقي فيها المسلم شر أعدائه بإظهار الموالاة". مقال رعاية الضرورات والأعذار في التشريع الإسلامي

 

قال ابن تيمية -رحمه الله: "من استقرأ الشريعة في مواردها ومصادرها وجدها مبنية على قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة المائدة: 3]". الفتاوى الكبرى: (4- 40).

 

قال ابن تيمية: "فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية، وهي ترك واجب، أو فعل محرم، لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد". الفتاوى الكبرى: (4- 40).

 

قال الجويني: "وقد تبيح الضرورة الشيء ولكن لا تثبت حكمًا كليًّا في الجنس، بل يعتبر تحققها في كل شخص، كأكل الميتة وطعام الغير". البرهان: (ص 942).

 

قال السيوطي: "الضروريات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها؛ كما لو أكره على القتل أو الزنا؛ فلا يباح واحد منهما بالإكراه لما فيهما من المفسدة التي تقابل حفظ مهجة المكره". الأشباه والنظائر: (1-84).

 

سئل ابن عثيمين رحمه الله: "أرجو تفسير هذه العبارة الضرورات تبيح المحظورات؟

 

الجواب:

 

الشيخ: "معنى هذه العبارة أن الإنسان إذا اضطر إلى شيء من المحرم على وجه تندفع به الضرورة صار هذا الحرم مباحاً، مثال ذلك: رجل في مخمصة، أي في جوع شديد وليس عنده إلا ميتة، فإذا أكل الميتة سلم من الهلاك وإن لم يأكل هلك، فهنا نقول: يحل له أن يأكل الميتة؛ لأنه في ضرورة، كذلك لو لم يكن عنده إلا لحم خنزير وهو جائع جوعاً شديداً فإن أكل من لحمه بق وإن لم يأكل هلك، فنقول له: هذا جائز؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات. وأما فيما يتعلق بالدواء فإن بعض الناس يظن أن هذه العبارة يدخل فيها الدواء، وأن الإنسان يجوز أن يتداوى بمحرم إذا اضطر إليه كما زعم وهذا غلط؛ لأن الدواء لا تندفع به الضرورة يقيناً؛ ولأنه قد يستغني عنه فيشفى المريض بدون دواء، أما الأول: فكم من إنسان تداوى بدواء نافع ولكنه لم يستفد منه، وأما الثاني: فكم من إنسان ترك الدواء وشفاه الله بدون دواء". فتاوى نور على الدرب: الشريط رقم: (371).

 

قال د. محمد جبر الألفي: "وضع العلماء ضوابط ينبغي تحققها ليصح العمل بقاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات"، نلخصها بإيجاز فيما يلي:

 

(1) أن يكون الضرر في المحظور الذي يحل الإقدام عليه أنقص من ضرر حالة الضرورة، فإذا جاز أكل الميتة عند المخمصة، فإنه لا يجوز لمن أكره على القتل أو الزنا أن يأتي بهما؛ لما فيهما من مفسدة تقابل حفظ مهجة المكره أو تزيد عليها، فالضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، وإذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما بارتكاب أخفهما، ويتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.

 

(2) أن يكون مقدار ما يباح أو يرخص فيه مقيدًا بالقيد الذي يدفع الضرورة، فالطبيب لا ينظر من العورة إلا بقدر ضرورة العلاج، وعلى هذا جاءت قاعدة أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها.

 

(3) ألا توجد للمضطر وسيلةٌ مشروعة يدفع بها ضرورته، فمن اضطر لإجراء جراحة تتوقف عليها حياته، ولم يكن له مال يكفي لدفع أجورها، جاز له أن يقترض بالربا لإنقاذ حياته، لكنه إذا وجد سبيلاً إلى القرض الحسن لا يحل له الاقتراض الربوي.

 

(4) أن يتقيد زمن الإباحة ببقاء الضرورة، فما جاز لعذر بطل بزواله، وإذا زال المانع عاد الممنوع.

 

(5) أن تكون الضرورة حقيقية حالة، وليست متوهمة أو متوقعة، فما يدعيه كثيرون -في هذه الأيام- من ضرورة التختم بالذهب، أو ضرورة التعامل الربوي، أو الضرورة الاقتصادية التي تسمح ببيع الخمور وفتح الملاهي للسياح... ونحو ذلك، كل هذا لا يعتبر من الضرورات الحقيقية، ولا يباح من أجله الحرام.

 

أما الضروريات: فإنها المصالح التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والمال، والنسل، وهي التي وصفها الشاطبي بقوله: "لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فُقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين". ضوابط الضرورة الشرعية: موقع الألوكة.

 

قال الشيخ وليد السعيدان عند قوله تعالى: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ): "لو لم يجز ارتكاب المحرم مع قيام الضرورة لكن ذلك من الحرج ومن تكليف ما لا يطاق، وهو منفي عن الشريعة السمحة". تلقيح الأفهام العلية بشرح القواعد الفقهية: (1-62).

 

قال التفتازاني: " فلمـا كانـت الهـرة مـن الطـوافين لم يمكـن الاحتـراز عـن سـؤرها إلا بحـرج عظـيم فسقط اعتبار النجاسة دفعا للحرج". شرح التلويح على التوضيح: (2-159).

 

قال د. مرضي بن مشوح العنزي: "الحاجة تنزل منزلة الضرورة في إباحة بعض المحرمات؛ كالمحرم لسد الذريعة "فإن ما حرم سدًا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد"، أو ما كان الحرام فيه قريبًا من الحل، أو ما كان في مرتبة وسطى فتبيحه الحاجة بشروط؛ كالغرر؛ فـ"مفسدة الغرر أقل من الربا"، أما ما كان محرمًا لذاته، أو كان الحرام بعيدًا عن الحل، والنهي في مرتبة عليا؛ كالربا فلا تؤثر فيه الحاجة، ولا تجيز منه لا قليلًا ولا كثيرًا، قال ابن تيمية:" وقد أباح الشارع أنواعًا من الغرر للحاجة ...وأما الربا فلم يبح منه". فإذا كانت هناك حاجة فلا بد للفقيه أن يمعن النظر في قوتها، وقوة الحرام الذي ستبيحه، ويقارن بينهما، ثم ينظر هل تنزل هذه الحاجة منزلة الضرورة في إباحة هذا المحرم، أو لا؟". الإشكال في قاعدة: الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة: المصدر: موقع الألوكة.

 

قال د. محمد بكر إسماعيل: "وفي هذا العصر صور كثيرة من الضرورات الوهمية التي لا مبرر لها في الشرع الحكيم من قريب ولا من بعيد، ولا يقرها من له عقل واعٍ وقلب سليم؛ منها: أ- تناول بعض الأشياء المحرمة بدعوى الاضطرار إليها كالدخان والتداوي بما فيه مسكر أو مخدر مع وجود البديل. ب- الذهاب إلى أماكن اللهو والمجون بحجة الترويح عن النفس وتنشيط الجسم. جـ- العمل في الفنادق التي تقوم ببيع الخمور والخنزير وإقامة حفلات الرقص والغناء بحجة أنه لم يجد عملاً سواه. د- تحديد النسل بحجة كثرة العيال وضيق المسكن ، ونحو ذلك من العلل التي يجد المرء لها مخرجاً إن فكر ودبر. وقد شرط الفقهاء لمنع الحمل شروطاً نصوا عليها في كتبهم، كمرض الأم وضعفها الشديد وعدم قدرتها على الولادة ونحو ذلك من الضرورات المتيقنة أو المبنية على الظن القوي". القواعد الفقهية بين الاصالة و التوجيه (ص: 77).

 

قال الشيخ العودة: "ومن التيسير عدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء؛ فإن الفتوى أحياناً تُلزم الحاج بدم كلما ترك واجباً، بناء على أثر ابن عباس "من نسي من نسكه شيئاً أو تركه، فليهرق دماً" رواه مالك والبيهقي، وهو أثر صحيح، ولكنه فتوى واجتهاد، وقد كان كثير من السلف لا يُلزمون به، ولكنهم يراعون حال السائل من الغنى والفقر وغير ذلك، وقد أسقط الشارع بعض الواجبات، كطواف الوداع عن الحائض، والمبيت بمنى عن الرعاة ومن في حكمهم إلى غير بدل، ولم يلزمهم بشيء، وهذا ثابت معروف في السنة، بينما في فعل المحظور ورد حديث كعب بن عجرة في الإذن بحلق الرأس مع الفدية، ولم يثبت في السنة المرفوعة خبر في إيجاب الدم لترك الواجب، ويمكن أن تراعى في هذا أحوال الناس". مقال: افعل ولا حرج (2-2)؛ الشيخ سلمان العودة. المصدر: صحيفة الجزيرة.

 

قال محمد صـبحي حلاق: "فالإنسان وإن خضع لداعي الضرورة لا ينبغي أن يستسلم لها، ويلقي إليها بزمام نفسه، بل يجب أن يظل مشدودا إلى الأصل الحلال باحثا عنه، حتى لا يستمرئ الحرام أو يستسهله بدافع الضرورة". مدخل إلى إرشاد الأمة في فقه الكتاب والسنة: (ص: 285).

 

قال الدكتور السدلان: "وإذا كان مضطرًا فإنه يأكل بشرط الضمان، عند جمهور العلماء، وهذا ما نصت عليه القاعدة الآتية: الاضطرار لا يبطل حق الغير، فهي بمثابة قيد لقاعدة

 

 


 

الإحالات

1- قاعدة الضرورات تبيح المحظورات: دراسة تأصيلية تطبيقية؛ طالب عمر حيدرة الكثيري.

 

2- نظرية الضرورة الشرعية؛ لوهبة الزحيلي.

 

3- مقــال رعايــة الضــرورات والأعــذار في التشــريع الإســلامي؛ ليوسف القرضاوي.

 

4- مقـال ضـوابط قاعــدة الضــرورات تبـيح المحظـورات؛ ليوسف الجزائري.

 

5- مفهوم مصطلح الضرورة بني الشرع والطب؛ بحث مقدم لندوة تطبيق القواعد الفقهية على المسائل الطبية.