استقامة

2022-10-12 - 1444/03/16

التعريف

تعريف الاستقامة:

قال الراغب: استقامة الإنسان لزومه للمنهج المستقيم نحو: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت:30]، [انظر: المفردات للراغب مادة (قوم) ].

ولأئمة الدين في تعريف الاستقامة وحدها ألفاظ وأقوال مختلفة، ذات دلالة واحدة، والأقوال هي: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن الاستقامة، فقال: أن لا تشرك بالله شيئاً.

وقال عمر رضي الله عنه: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب.

وقال عثمان رضي الله عنه: إخلاص العمل لله.

وعرفها علي رضي الله عنه: بأنها أداء الفرائض.

وقال الحسن البصري رحمه الله: استقاموا على أمر الله، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته.

وقال مجاهد رحمه الله: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله.

وقال ابن زيد وقتادة رحمهما الله: الاستقامة على طاعة الله.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: العمل على وفاق القول.

وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: الإعراض عما سوى الله.

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: الزهد في الفانية، والرغبة في الباقية.

وقال ابن تيمية رحمه الله: الاستقامة على محبة الله وعبوديته، وعدم الالتفات عنه يمنة أويسرى.

وقال شيخ الإسلام الهروي رحمه الله: الاجتهاد في اقتصاد [انظر فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب أبو رحمة / محمد نصر الدين محمد عويضة (1/51) ] .

وقال ابن القيّم: الاستقامة ضد الطّغيان، وهو مجاوزة الحدود في كل شيء [انظر: مدارج السالكين (2/104)] .

وقال القرطبي: الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة من غير أخذ في جهة اليمين والشّمال [انظر: تفسير القرطبي (9/107)] .

وقال ابن القيم: قال عمر - رضي الله عنه - الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنّهي، ولا تَرُوغُ رَوَغَانَ الثّعالب [انظر: مدارج السالكين (2/104)، وتفسير الطبري (24/115) ] .

وقال ابن القيم - أيضًا -: فأمر بالاستقامة وهي السّداد، والإصابة في النِّيَّات والأقوال والأعمال. ثم قال: فالاستقامة: كلمة جامعة، آخذة بمجامع الدّين، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصّدق، والوفاء بالعهد [انظر: مدارج السالكين (2/105)] .

وقال ابن رجب الحنبلي: هي سلوك الصراط المستقيم وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها كذلك فصارت هذه الوصية جامعه لخصال الدين كلها [جامع العلوم والحكم] .

وقال أيضاً: فأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد فمتى استقام القلب على معرفة الله وعلى خشيته وإجلاله ومهابته ومحبته وإرادته ورجائه ودعائه والتوكل عليه والإعراض عما سواه استقامت الجوارح كلها على طاعته ،فإن القلب هو ملك الأعضاء وهى جنوده ، فإذا استقام الملك استقامت جنوده ، وأعظم ما يراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسان فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه ، وفى مستند الإمام أحمد عن انس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».

ويقول ابن القيم الجوزية: فالاستقامة كلمة جامعة ، أخذه بمجامع الدين . وهى القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والوفاء ، والاستقامة تتعلق بالأقوال والأفعال والأحوال والنيات [موسوعة البحوث والمقالات العلمية جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة حوالي خمسة آلاف وتسعمائة مقال وبحث علي بن نايف الشحود –استقامة الداعية، الوسطية في القرآن ] .

العناصر

1- تعريف الاستقامة .

2- حكم الاستقامة .

3- حاجتنا إلى الاستقامة .

4- واقع الاستقامة في حياة الناس .

5- ذكر بعض المظاهر المعاصرة المخالفة لطريق أهل الاستقامة فى السلوك والمعاملات .

6- فضل الاستقامة .

7- حقيقة الاستقامة .

8- الاسباب المؤدية إلى لزوم الاستقامة، والثبات على دين الله عزوجل .

9- ما تتحقق به الإستقامة .

10- القوادح في الإستقامة .

11- ثمار الاستقامة ونتائجها .

الايات

1- قَالَ الله تَعَالَى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) [هود: 112].
2- قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت:30- 32].
3- قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 13-14].

الاحاديث

1- عن أبي عمرو، وقيل: أبي عَمرة سفيان بن عبد الله رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُول الله، قُلْ لي في الإسْلامِ قَولاً لاَ أسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً غَيْرَكَ. قَالَ: "قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثُمَّ استَقِمْ " [صحيح مسلم رقم (168)].

 

2- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "قَارِبُوا وَسَدِّدُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَنْجُوَ أَحَدٌ مِنْكُمْ بعَمَلِهِ" قالُوا: وَلا أَنْتَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: "وَلاَ أنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَني الله برَحمَةٍ مِنهُ وَفَضْلٍ" [صحيح مسلم رقم (7295)].

الاثار

1- قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة: أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تَرُوغُ رَوَغانَ الثعالب [مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين - محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله الناشر: دار الكتاب العربي - بيروت الطبعة الثانية ، 1393 – 1973تحقيق: محمد حامد الفقي (2/104)].

 

2- قال الحارث المحاسبي: أصل الاستقامة في ثلاثة: اتباع الكتاب والسنة، ولزوم الجماعة [رسالة المسترشدين أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي البصري تحقيق عبد الفتاح أبو غدة الناشر مكتب المطبوعات الإسلامية سنة النشر 391 – 1971مكان النشر حلب – سوريا (1/129)].

القصص

قصة ذكرها الشيخ خالد الراشد في شريط من حال إلى حال: كان هناك ثلاثة من الشبان يتعاونون على الإثم والمعاصي...فكتب الله الهداية لأحد هؤلاء الثلاثة فقرر أن يدعو زميليه ويعظهم لعل هدايتهم تكون على يديه وفعلا استطاع ان يؤثر عليهم والحمد لله أصبحوا شباباً صالحين..

واتفقوا على ان يقوموا بدعوة الشباب الغارقين في بحر المعاصي ليكفروا عن ماضيهم ومرة من المرات اتفقوا على ان يجتمعوا في المكان الفلاني قبل الفجر بساعة للذهاب الى المسجد بغية التهجد والعبادة...فتأخر واحد منهم فانتظروه..فلما جاء اليهم..كان لم يبق على آذان الفجر الا نصف ساعة..

وبينما هم في طريقهم الى المسجد إذ بسيارة تكاد تنفجر من صوت الغناء والموسيقى الصاخبة..فاتفقوا على ان يقوموا بدعوة ذلك الشاب لعل الله يجعل هدايته على ايديهم فأخذوا يؤشرون له بأيديهم لكي يقف..

فظن ذلك الشاب انهم يريدون مسابقته فاسرع بسيارته..لكي يسبقهم فأشاروا اليه مرةً أخرى.. فظن ذلك الشاب انهم يريدون المقاتلة!! فأوقف سيارته ونزل منها فإذ بجثة ضخمة ومنكبين عريضين وفوة وضخامة في العضلات!!..

وقال لهم بصوت غضب:من يريد منكم المقاتلة؟؟ فقالوا: السلام عليك فقال الشاب في نفسه(الذي يريد المقاتلة لا يمكن أن يبدأ بالسلام فأعاد عليهم السؤال:من منكم يريد المقاتلة؟؟ فأعادوا: السلام عليك فقال: وعليكم السلام..ماذا تريدون؟؟ فقالوا له: ألا تعلم في أي ساعةٍ أنت؟..

انها ساعة النزول الإلهي نزولاً يليق به تعالى الى السماء الدنيا فيقول هل من تائب فأغفر له؟..هل من سائل فأعطيه؟؟..ياأخينا اتق الله...ألا تخاف من الله؟! ألا تخاف من عقابه؟! ألا تخاف من سوء الخاتمة؟! فقال لهم: ألا تدرون من أنا؟؟

قالوا: من أنت؟ قال: أنا حسان الذي لم تخلق النار إلا له فقالوا: استغفر الله..كيف تيأس وتقنط من روح الله؟؟ ألا تعرف انه يغفر الذنوب جميعا؟...ألم يقل ربك (ان الله لايغفر ان يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء) وأخذوا يذكرونه بالله وبواسع رحمته..وبالجنه والثواب العظيم فبكى حسان بكاءً شديداً..

وقال:ولكن أنا لم أترك معصية من المعاصي الا وفعلتها..وأنا الآن سكران!!!!...فهل يقبل الله توبتي؟؟ فقالوا: نعم بل ويبدلك بها حسنات..فما رأيك ان نأخذك معنا الى المسجد لنصلي الفجر؟ فوافق حسان وبالفعل أخذوه معهم وفي أثناء الصلاة شاء الله أن يتلوا الإمام قوله تعالى: (فل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله,إن الله يغفر الذنوب جميعاً) فانفجر حسان بالبكاء..

ولما انتهت الصلاة قال: لم أشعر بلذة الصلاة منذ سنين وأخذ كل من في المسجد يهنئونه بتوبته ولما خرج الأربعة من المسجد قالوا له: أين أبوك؟ قال حسان: إن أبي يصلي في المسجد الفلاني.وهو عادةً يجلس في المسجد الى شروق الشمس لذكر الله وقراءة القرآن فلما ذهبوا الى ذلك المسجد وكانت الشمس قد أشرقت..

أشار حسان إلى والده..وقد كان شيخاأ كبيراً ضعيفاً محتاج إلى قوة حسان وشبابه فذهبوا هؤلاء الشباب اليه وقالوا ياشيخ إن معنا ابنك حسان فقال الشيخ: حسان!!!..آآآه الله يحرق وجهك بالنار ياحسان فقالوا له: معاذ الله ياشيخ لماذا تقول هذا؟؟

إن ابنك قد تاب وأناب الى ربه. وارتمى حسان على قدم والده وأخذ يقبلها..فبكى والد حسان وضمه الى صدره وذهب حسان إلى أمه وقبل يدها وقدمها وقال لها سامحيني ياأمي..سامحيني فبكت العجوز فرحاً بعودة حسان وفي يوم من الأيام قال حسان في نفسه(لايكفر ذنوبي إلا أن أجعل كل قطرة دم من دمي في سبيل الله)

وقرر الذهاب الى الجهاد مع زملاؤه الصالحين فذهب الى والده وقال ياأبي أريد ان أذهب الى الجهاد فقال أبوه: ياحسان نحن فرحنا بعودتك..وأنت تريد أن تحرمنا منك مرة أخرى؟ فقال حسان: أرجوك ياأبي لاتحرمني شرف الجهاد والشهادة فوافق أبوه على ذلك وذهب الى أمه وقبل قدمها: وقال ياأماه..أريد ان اذهب الى ساحات القتال قالت ياحسان فرحنا بعودتك وانت تريد ان تذهب الى الجهاد؟

قال ياأمي ان كنتم تحبونني فدعوني أجاهد في سبيل الله فقالت أنا موافقة ولكن بشرط أن تشفع لنا يوم القيامة وبالفعل تدرب حسان على الجهاد واستعمال السلاح وأتقن في شهور معدودة أساليب القتال! ولما جاءت اللحظة الحاسمة..

ونزل حسان الى ساحات القتال ومعه زملاؤه الصالحين وكان حسان في كهف من الكهوف..وإذ بقذيفة من طائرات العدو تسقط على قمة الجبل وتصيب حسان فسقط حسان من أعلى الجبل...

ووقع صريعا على الأرض وقد تكسرت عظامه وهو يسبح في بركه من الدماء.. فاقترب منه أصحابه..وقالوا: حسان.. ياحسان فإذ بحسان يقول: اسكتوا..فوالله إني لأسمع صوت الحور العين ينادينني من وراء الجبل...

ثم لفظ الشهادتين ومات هذا حسان الذي كان يقول ان النار لم تخلق إلا له...وها هن الحور العين يرقصن فرحا وشوقا للقاء حسان سبحان الله...

متفرقات

1- قال النووي رحمه الله: قال العلماء: معنى الاستقامة: لزوم طاعة الله تعالى، قالوا: وهي من جوامع الكلم، وهي نظام الأمور [رياض الصالحين– النووي المحقق: د. ماهر ياسين الفحل (1/85)].

 

2- قال ابن تيمية رحمه الله: أعظم الكرامة لزوم الاستقامة [مدارج السالكين (2/176 )، (11/191)].

 

3- قال ابن تيمية رحمه الله: "وكل ما نهى عنه فهو زيغ وانحراف عن الاستقامة ، ووضع للشيء في غير موضعه" [مجموع الفتاوى المؤلف: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني. المحقق: أنور الباز - عامر الجزار الناشر: دار الوفاء الطبعة: الثالثة ، 1426 هـ / 2005 م (1/86)].

 

4- قال ابن القيم: "فكما أن البدن إذا خلا عن الروح فهو ميت فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد وكما أن حياة الأحوال بها فزيادة أعمال الزاهدين أيضا وربوها وزكاؤها بها فلا زكاء للعمل ولا صحة للحال بدونها مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين - محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله الناشر: دار الكتاب العربي – بيروت الطبعة الثانية ، 1393 - 1973 تحقيق: محمد حامد الفقي (2/106)].

 

5- قال الإمام الشافعي رحمه الله: أبين ما في الإنسان ضعفه؛ فمن شهد الضعف من نفسه نال الاستقامة مع الله تعالى [تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي دار النشر دار الفكر مدينة النشر بيروت سنة النشر 1996 الطبعة الأولى (1/76)].

 

6- يقول محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري: فعلى من أراد الاستقامة أن يدخلوا في السلم كافة وأن يتركوا أمرهم لله ورسوله ويستسلموا لقدر الله وتدبيره ويتلقوا عنه ولا يقترحوا عليه ويشكروا ربهم على نعمة الإيمان الذي هداهم إليه وحرك قلوبهم لحبه وكشف لهم عن جماله وفضله وعلق أرواحهم به وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان وهذا كله من رحمة الله وفيضه. فهو الذي أراد بهم هذا الخير وخلص قلوبهم من ذلك الشر وهو الذي جعلهم بهذا راشدين فضلاً منه ونعمة. وليطمئنوا إلى قضاء الله وتدبيره، فالله يختار لهم الخير، ورسول الله يأخذ بأيديهم إلى هذا الخير: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الحجرات: 7، 8]. والاستقامة هي الاعتدال والمضي على النهج دون انحراف، وذلك في حاجة إلى اليقظة الدائمة، والتدبر الدائم، والتحري الدائم لحدود الطريق، وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه قليلاً أو كثيراً، ومن ثم فهي شغل دائم في كل حركة من حركات الحياة، ليكون على منهج الله وفق أمر الله، وهذا ما أمر الله به رسوله ومن تاب معه بقوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [هود: 112].

ثم أعقب الأمر بالاستقامة بالنهي عن القصور والتقصير، بل بالنهي عن الطغيان والمجاوزة. وذلك أن الأمر بالاستقامة وما يتبعه من يقظة القلب قد ينتهي إلى الغلو والمبالغة التي تحول هذا الدين من يسر إلى عسر، والله يريد دينه كما أنزله، ويريد الاستقامة على ما أمر دون إفراط ولا غلو، فالإفراط والغلو يخرجان هذا الدين عن طبيعته، والله مطلع على القلوب والأعمال. ولا يجوز لأهل الإيمان والاستقامة أن يركنوا إلى الذين ظلموا من الجبارين، والطغاة المفسدين، الذين يقهرون العباد بقوتهم، ويعبدونهم لغير الله من العبيد: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ) [هود: 113]. فركون المؤمنين إليهم يعني إقرارهم على هذا المنكر الأكبر الذي يزاولونه، ومشاركتهم إثم ذلك المنكر الأكبر، وجزاء هذا الانحراف أن تمسهم النار، وليس لهم من الله والٍ ولا ناصر [موسوعة فقه القلوب المؤلف: محمد بن إبراهيم بن عبد الله التويجري الناشر: بيت الأفكار الدولية (2/1841)].

 

7- وقال أيضاً: والاستقامة على الطريق في فترات الشدة وتكالب الأعداء أمر شاق عسير يحتاج إلى زاد يعين. والله يرشد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين إلى زاد الطريق بقوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].

وهذا الزاد هو الذي يبقى حين يفنى كل زاد، والذي يقيم البنية الروحية، ويمسك القلوب على الحق الشاق التكاليف. ذلك أنه يصل القلوب المؤمنة بربها الرحيم الودود، القريب المجيب، وينسم عليها نسمة الأنس في وحشتها وعزلتها في تلك الجاهلية. والاستقامة في حاجة إلى الصبر، كما أن انتظار الأجل لتحقيق سنة الله في المكذبين يحتاج إلى الصبر. فالاستقامة إحسان وإقامة الصلاة في أوقاتها إحسان والصبر على كيد المكذبين إحسان والله لا يضيع أجر المحسنين (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) [هود: 115]، [موسوعة فقه القلوب (2/1842)].

 

8- وقال أيضاً: وأهل الاستقامة هم الذين استقاموا على أن الله ربهم وحده.. واستقاموا على طاعته وأداء فرائضه.. واستقاموا على إخلاص الدين والعمل إلى الموت.. واستقاموا في أقوالهم وأفعالهم.. واستقاموا في سرهم وجهرهم كما قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ) [فصلت: 30-32]. وأصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، فمتى استقام القلب على التوحيد ومعرفة الله وخشيته وإجلاله ومهابته استقامت الجوارح كلها على طاعته [موسوعة فقه القلوب (2/1843)].

 

9- قال مصطفى بن حسني السباعي رحمه الله: لا يستقيم الحكم إلا بثلاث: تشجيع الأخيار، ومعاقبة الأشرار، والسهر على مصالح الناس [هكذا علمتني الحياة المؤلف: مصطفى بن حسني السباعي (المتوفى: 1384هـ) الناشر: المكتب الإسلامي الطبعة: الرابعة، 1418 هـ - 1997 م (1/319)].

 

10- قال شحاتة محمد صقر: أصل الاستقامة استقامة القلب على التوحيد، كما فسر أبو بكر الصديق وغيره قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [الأحقاف:13] بأنهم لم يلتفتوا إلى غيره، فمتى استقام القلب على معرفة الله، وعلى خشيته، وإجلاله، ومهابته، ومحبته، وإرادته، ورجائه، ودعائه، والتوكل عليه، والإعراض عما سواه، استقامت الجوارح كلها على طاعته، فإن القلب هو ملك الأعضاء، وهي جنوده، فإذا استقام الملك، استقامت جنوده ورعاياه [دليل الواعظ إلى أدلة المواعظ (موضوعات للخطب بأدلتها من القرآن الكريم والسنة الصحيحة) مع ما تيسر من الآثار والقصص والأشعار- شحاتة محمد صقر الناشر:جـ1 / دَارُ الفُرْقَان للتُرَاث – البحيرة جـ 2/ دار الخلفاء الراشدين - دار الفتح الإسلامي (الإسكندرية) (1/403)] ,

 

11- قال الدكتور سعيد بن علي بن وهف القحطاني: الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ) [فصلت: 30]. وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف، الآيتان: 13 - 14] ، وقال تعالى للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود الآية: 112] , وعن سفيان بن عبد اللَّه - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول اللَّه، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال: "قل: آمنت باللَّه، ثم استقم" [مسلم، في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام، برقم (38)].

والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى اللَّه الاستقامة، وهي السداد؛ فإن لم يقدر فالمقاربة، فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "سدِّدوا وقارِبوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله"، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: "ولا أنا، إلاّ أن يتغمدنيَ اللَّه برحمةٍ منه وفضل" [مسلم، في كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل الجنة أحد بعمله بل برحمة الله، برقم (2816)].

فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: السداد والإصابة في النيات، والأقوال، والأعمال، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم - صلى الله عليه وسلم - أن الاستقامة والمقاربة لا تُنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحدٌ على عمله، ولا يُعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة اللَّه، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي اللَّه على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات.

والداعية إلى اللَّه يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا - بإذن اللَّه تعالى - لا يُخيِّب اللَّه سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان [مدارج السالكين لابن القيم (2/ 105) والجامع لأحكام القرآن للقرطبي (15/ 357)]. وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يُقبل قول الداعية، ويُقتدَى بأفعاله، فيُعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند اللَّه - عز وجل -، ويحصل على أحسن قولٍ وعملٍ على الإطلاق، كما قال - عز وجل -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت: 33].

إنّ كلمة الدعوة حينئذٍ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل للَّه وحده، والاعتزاز بالإسلام [الخُلق الحسن في ضوء الكتاب والسنة - د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني الناشر: مطبعة سفير، الرياض توزيع: مؤسسة الجريسي للتوزيع والإعلان، الرياض (1/81)].

الإحالات

1- موسوعة البحوث والمقالات العلمية جمع وإعداد الباحث في القرآن والسنة حوالي خمسة آلاف وتسعمائة مقال وبحث علي بن نايف الشحود – استقامة الداعية .

2- فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب أبو رحمة / محمد نصر الدين محمد عويضة المدرس بالجامعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة فرع مدركة ورهاط وهدى الشام 22/10/1418 هجرية (1/51) .

3- فاستقم كما أمرت لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل .

4- تفسير ابن كثير عند الآية (208، 209) من سورة البقرة و الآية (115) من سورة النساء و الآية 153 من سورة الأنعام .

5- في ظلال القرآن 1/ 206، 211 طبعة دار الشروق .

6- الإعتصام للإمام الشاطبي تحقيق: سليم الهلالي (1/ 78، 79 ) .

7- موسوعة الدين النصيحة 1-5 قام بجمعها وترتيبها الباحث في القرآن والسنة علي بن نايف الشحود (5/1) .

8- تفسير القرآن الكريم المؤلف: محمد المنتصر بالله بن محمد الزمزمي الكتاني الإدريسي الحسني (المتوفى: 1419هـ) مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية

http://www.islamweb.net (303/4) . 9- الوسطية في القرآن الكريم المؤلف: الدكتور عَلي مَحَّمد محمد الصَّلاَّبي الناشر: مكتبة الصحابة، الشارقة - الإمارات، مكتبة التابعين، القاهرة – مصر الطبعة: الأولى، 1422 هـ - 2001 م (1/164) .

10- دروس للشيخ عبد الله الجلالي المؤلف: د. عبد الله بن حمد الجلالي مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية http://www.islamweb.net (44/2) .