"لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه"/ د. فهد بن صالح العجلان

احمد ابوبكر
1436/08/09 - 2015/05/27 04:04AM
[align=justify] يشيع في السجالات الفكرية المعاصرة الاستدلال بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»؛ فلهذا الموقف السياسي النبوي حضور بارز في مادة هذه السجالات، ويأتي دومًا في أي تجاذب حول تنزيل بعض الأحكام الشرعية، حيث يتفق الجميع على الاستشهاد به ويتفاوتون في مستوى فهمه وإعمالهم له.

ومن الملفت أن أي حكم شرعي يراد تطبيقه في الحالة المعاصرة يأتي الاستدلال بهذا الحديث ليقف حائلًا دون تطبيقه، بل فاض منسوبه حتى أصبحت كل الأحكام الشرعية التي تنفر منها الثقافة الغربية محل تحفظٍ من أجل المحافظة على سمعة الإسلام لئلا يتحدث هؤلاء الناس عن الإسلام بما ينفرهم منه.

يرتكز هذا الاستدلال على منطق أن هذه الصور تشوه الإسلام وتنفر منه، وتُستغل في الأوساط الإعلامية الغربية لتقبيح صورة الإسلام وتنميطه بشكل معين ينفر الناس منه.

وهذا المعنى صحيح، فلا أحد ينكر حالة التوظيف الإعلامية المهولة لمثل هذه الأحكام، وأنها مادة خصبة للتشويه والافتراء والتنفير، فهل تعطيل الأحكام الشرعية مراعاة لهذا الوضع وحفاظًا على سمعة الإسلام يكون سائغًا «لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»؟

مع يقيني التام أن تعليق نفاذ الأحكام الشرعية بهذه الطريقة خطأ ومخالف قطعًا لأحكام الشرع، إلا أن جزءًا من هذا السؤال بقي مشكلًا زمنًا، ولا أحصي عدد ما قرأت من احتجاجات بهذا المستوى، وكنت أدفعها بإجابات كثيرة أثبت من خلالها الأغلاط اللازمة لهذا الاستدلال، من دون تفكير في فحص هذا الاستدلال نفسه.

قبل أسابيع، رجعت لكلام العلماء في هذا الاستدلال، وتتبعت تفسيرات العلماء واختلافاتهم في فهم القول وسياقاته فانزاح عني هذا الإشكال مع أول تقليب لصفحات البحث، بل عجبتُ من بقاء هذا الإشكال طيلة هذا الوقت مع وضوح المسألة، كان لهذا الموقف أثر عميق في نفسي، فأكثر الإشكالات المعاصرة تنشأ بسبب تقصير في معرفة كلام أهل العلم في مادة البحث، فالإعراض عن كلام العلماء يضع غشاوة أمام الأعين لا تزيدها سجالات المعاصرين إلا كثافة، وهو إشكال لا يكاد يسلم منه أحد، هم فيه بين مقل ومكثر.

إذن، فالفهم الفقهي لهذا الموقف السياسي النبوي يضع لك ميزانًا تختبر فيه كافة الاستدلالات المعاصرة بهذا الحديث، وهو ما سأحاول عرضه وترتيبه في هذه المقالة لنميّز بعدها «الحدود المعتبرة والسائغة» في دلالة هذا الحديث، عن «الاستدلالات الخاطئة والمنحرفة».

صحت هذه المقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم في موقفين مختلفين:

الموقف الأول: في قصة سورة المنافقون:

ففي حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: كنا في غزاة في جيش، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار. فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين! فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟! قالو: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار. فقال: دعوها، فإنها منتنة. فسمع بذلك عبدالله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه[1].

الموقف الثاني: في قصة قسمة الغنائم يوم حنين:

ففي حديث جابر بن عبدالله قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة منصرفه من حنين، وفي ثوب بلال فضة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس. فقال: يا محمد، اعدل! قال: ويلك! ومن يعدل إذا لم أكن أعدل، لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق. فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي[2].

كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها في موقف ثالث، فعن حذيفة بن اليمان قال: إني لآخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوده وعمار يسوق به، إذ استقبلنا اثنا عشر رجلًا متلثمين قال: هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة. قلنا: يا رسول الله، ألا تبعث إلى كل رجل منهم فتقتله؟ فقال: أكره أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه[3].

فهذه المقولة قيلت في حق المنافقين، وكان من السياسة الحكيمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تركهم واحتمال أذاهم سدًا لذريعة أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.

ذلك أن المنافقين كانوا مختلطين بالصحابة، وما كانوا يجهرون بالكفر والطعن في الإسلام، فلو أن النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم لاشتبه هذا الأمر على أكثر الناس في زمانهم ولظنوا أن الرسول يقتل أصحابه، ويقتل من يدخل في دينه، فيحول هذا بينهم وبين الدخول في الإسلام.

قال ابن عطية:

«وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم ويدعهم في غمرة الاشتباه مخافة أن يتحدث عنه أنه يقتل أصحابه»[4].

وقال ابن عاشور:

«وإنّما كان النبي ممسكًا عن قتلهم سَدًا لذريعة دخول الشك في الأمان على الداخلين في الإسلام كما قال لعُمر (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) لأنَّ العامّة والغائبين عن المدينة لا يَبْلغون بعلمهم إلى معرفة حقائق الأمور الجارية بالمدينة، فيستطيع دعاة الفتنة أن يشوّهوا الأعمال النافعة بما فيها من صورة بشيعة عند من لا يعلم الحقيقة، فلما كثر الداخلون في الإسلام واشتهر من أمان المسلمين ما لا شك معه في وفاء المسلمين، وشاع من أمر المنافقين وخيانتهم ما تسامعتْه القبائل وتحققه المسلم والكافر، تمحضت المصلحة في استئصال شأفتهم، وانتفت ذريعة تطرق الشك في أمان المسلمين»[5].

كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم العقوبات على المنافقين لمجرد علمه بحالهم، فالقاضي لا يقضي بعلمه، إنما يقضي بما ثبت عليهم ظاهرًا، وقد كانوا يسرون بنفاقهم ويخفى حالهم على أكثر الناس، فقتلهم سيكون مشتبهًا على الناس بسبب هذا.

قال ابن عبدالبر:

«وسئل مالك رحمه الله عن الزندقة فقال: ما كان عليه المنافقون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من إظهار الإيمان وكتمان الكفر هو الزندقة عندنا اليوم. قيل لمالك: فلمَ يُقتل الزنديق ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين وقد عرفهم؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قتله بعلمه فيهم وهم يظهرون الإيمان لكان ذريعة إلى أن يقول الناس يقتلهم للضغائن أو لما شاء ذلك فيتمنع الناس من الدخول في الإسلام»[6].

قال القاضي عياض:

«وفي هذا: إنَّ الحاكم أو القاضي لا يقضي بعلمه بحال، ولو جاز ذلك لأحد لكان أولى الناس بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قد ترك ذلك وتورع عنه، فروي أنه قال حين أُشِيرَ عليه بقتل من استوجب القتل ممن ظهر نفاقه وتبين شقاؤه: (أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) فعلَّل ذلك بالتُّهمة التي تعمُّ ما قدَّمناه»[7].

وقال ابن المقن:

«فقال عليه السلام: (دعه لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) هو من أعظم السياسات؛ ولأن ظاهر عبدالله بن أُبي الإسلام، والناس كلفوا بالظاه، فلو حصل عقوبة نفروا»[8].

وقال القاضي عبدالوهاب:

«ولأنه صلى الله عليه وسلم امتنع من قتل المنافقين مع علمه بكفرهم، وقال: (لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)، وإنما لم يقتلهم لأن الناس لم يعلموا كفرهم كما علمه، ولأن الحاكم لما لم يكن معصومًا، وقد يلحقه الظنة والتهمة، ويمكن وقوع ذلك منهم، فحسم الباب في منع حكمه بعلمه لئلا يدعى عليه أنه حكم على عدوه»[9].

فتحصّل من هذا أن سبب عدم قتلهم يرجع لأمرين:

1- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بظاهر حالهم من إعلان الإسلام ولا يؤاخذهم بما في قلوبهم، ولا بما يعلمه من حالهم، فالقاضي لا يقضي بعلمه.

2- وجود اشتباه في حالهم يُخفي على كثير من الناس سبب مقتلهم، فيظنوا السوء بالنبي صلى الله عليه وسلم بأنه يقتله أصحابه، «إذ لم يكن الذنب ظاهرًا يشترك الناس في معرفته»[10].

وهذا فيمن أبطن النفاق ولم يَظهر منه شيء، أو ظهر ولم يثبت عنه بما يَقطع باستحقاقه للعقوبة، وهذا ظاهر في قصة سورة المنافقين، لأن المنافق حلف وكذب ولم تثبت عليه الكلمة إلا بوحي.

لكن يشكل على هذا مثل حادثة قسمة الغنائم، فقد تفوه المنافق بكلمات، ومع ذلك تركه النبي صلى الله عليه وسلم بالعلة ذاتها «لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه»، فما وجه ذلك؟

هنا نقولات مهمة لأهل العلم، أسوق بعضها بين يدي تفصيل الجواب:

قال القاضي عياض:

«ومثل هذا لو صدر اليوم من أحدٍ في حق النبي صلى الله عليه وسلم من تهمته في الحكم، ورميه فيه بالهوى والميل، لكان كفرًا يجب قتل قائله، لكنه عليه السلام كان أول الإسلام يؤلف ويدفع بالتي هي أحسن، وكان يصبر للمنافقين ومن في قلبه مرض على أكثر من هذا من التصريح والتعريض»[11].

وقال:

«وقد اختلف: هل بقي حكم جواز ترك قتلهم والإغضاء عنهم؟ أو نسخ ذلك آخرًا عند ظهور الإسلام عند قوله تعالى: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} وأنها ناسخة لما كان قبلها؟ وقيل: إنما العفو عنهم ما لم يظهروا نفاقهم، فإذا أظهروه قتلوا»[12].

قال ابن حجر:

«كان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال (لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه)، فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقلَّ أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق، ولاسيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين»[13].

قال ابن تيمية:

«فإن الناس ينظرون إلى ظاهر الأمر فيرون واحدًا من أصحابه قد قُتل فيظن الظان أنه يقتل بعض أصحابه على غرض أو حقد أو نحو ذلك فينفر الناس عن الدخول في الإسلام، وإذا كان من شريعته أن يتألف الناس على الإسلام بالأموال العظيمة ليقوم دين الله وتعلو كلمته فلأن يتألفهم بالعفو أولى وأحرى، فلما أنزل الله تعالى براءة ونهاه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم وأمره أن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم؛ نسخ جميع ما كان المنافقون يعاملون به من العفو كما نسخ ما كان الكفار يعاملون به من الكف عمن سالم ولم يبقَ إلا إقامة الحدود وإعلاء كلمة الله في حق كل إنسان»[14].

قال السندي:

«ظاهر هذا الحديث يفيد أن المسلم لا يقتل المسلم بمثل هذه الكلمة المشتملة على مثل هذا التعريض المؤدي إلى إيذاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، إذ ظاهر هذا الحديث يفيد أنه لا سلامة لم يتعرض له، وجعل إسلامه الظاهري علة لعصمته مع وجود هذه الكلمة منه، والقول بأن هذه الكلمة تقتضي قتله إلا أنه تركه لمراعاة التألف حتى لا يشتهر بين الناس أنه صلى الله تعالى عليه وسلم يقتل أصحابه، فإنه قد يؤدي إلى نفر قلوبهم عن الإسلام. يأبى عنه هذا الحديث»[15].

وخلاصة ما سبق:

أن الاعتبار النبوي في ترك عقوبتهم «لئلا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» مع المجاهرين من المنافقين يرجع لأمرين:

الأول: أن مجاهرتهم لم تكن من قبيل الكفر المحض الذي يثبت نفاقهم، وإنما هو من قبيل التعريض، فإقامة العقوبة عليهم ستكون مشتبهة كما سبق في المنافقين المستترين لأن الناس لا يعلمون حقيقة جرمهم الذي يستحقون به العقوبة.

الثاني: أن مجاهرتهم كفر ثابت عليهم، وإنما ترك عقابهم مع هذا لوجود الاشتباه الذي يتحقق معه مفسدة أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.

وعلى هذا القول فإن هذا حكم منسوخ، كان في أول الإسلام وضعف المسلمين الذي كان يتحقق معه غلبة مفاسد إقامة مثل هذا الحكم، وقد زال هذا فلا يكون ثم حاجة لترك إقامة هذه الأحكام بسبب هذه المفسدة.

إلا أن هذا لا يمنع من إعمال الحكم حين يحدث من الضعف والحاجة مثل ما حدث في أول الإسلام.

قال ابن تيمية:

«فحيث ما كان للمنافق ظهور وتخاف من إقامة الحد عليه فتنة أكبر من بقائه علمنا بآية: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] كما أنه حيث عجزنا عن جهاد الكفار عملنا بآية الكف عنهم والصفح وحيث ما حصل القوة والعز خوطبنا بقوله: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} فهذا يبين أن الإمساك عن قتل من أظهر نفاقه بكتاب الله على عهد رسوله عليه الصلاة والسلام إذًا لا نسخ بعده»[16].

وقال:

«فحاصله أن الحد لم يقم على واحد بعينه لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام، أو لعدم إمكان إقامته إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام وارتداد آخرين عنه وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يربى فساده على فساد ترك قتل منافق، وهذان المعنيان حكمهما باقٍ إلى يومنا هذا، إلا في شيء واحد وهو أنه صلى الله عليه وسلم ربما خاف أن يظن الظان أنه يقتل أصحابه لغرض آخر مثل أغراض الملوك فهذا منتف اليوم»[17].

الحدود السائغة في الإعمال الفقهي لهذا الموقف السياسي النبوي:

حين يأتي أحد فيستدل بالسياسة النبوية «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه» في سياق تعطيل أي حكم شرعي معاصر بدعوى نفور الكفار وتكذيبهم، فهو يقع في خطأ كارثي لم يتفطن له، هو أنه نظر في مفهوم الحديث منعزلًا عن بقية أحكام الشريعة، فقاس نفور الناس عن الشرع في هذه المسائل على نفورهم في تلك الواقعة النبوية فوجد أن الاستدلال وجيه جدًا، وهو فعلًا كذلك لو لم يكن عندنا إلا هذا الحديث، لكنَّ هذا قصور علمي لا يدخل في بنية تفكير الفقيه الذي ينظر إلى نصوص الشرع جميعًا، وحينئذٍ ستجد أن ثمت مساحة واسعة جدًا من الأحكام الشرعية قد حافظت عليها الشريعة ولم تلتفت للمعترضين والشامتين والساخطين، ولا لأمواج التشويه والافتراء التي تعقب قيامها، ومن ذلك بإجمال واختصار شديدين:

- الأحكام الشرعية التي فيها شدة وصرامة في التطبيق، من الرجم والجلد والقطع، التي كانت تقام من دون أي اعتبار لمواقف الناس منها.

- بل شرعت الشريعة الجهاد في سبيل الله، وقتال الكفار وغنم أموالهم وسبي نسائهم وإقامة الشرع في بلدانهم، وبطبيعة الحال أن من تتخذ منه هذا الموقف لن يحمل في نفسه إلا غاية ما يمكنه من كره وعداء ونفور.

- قتلَ النبي صلى الله عليه وسلم لرؤوس الكفر الذين عادوه، ككعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق، وأهدر دماء بعض المحاربين يوم فتح مكة، وقتل بعض الأسرى، وهي أفعال شديدة على النفوس غير المؤمنة.

- الأمر القرآني بجهاد المنافقين والإغلاظ عليهم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]، وقال سبحانه: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْـمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْـمُرْجِفُونَ فِي الْـمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} [الأحزاب: 60]، وهو ما جعل المنافقين يستترون بكفرهم خشية من العقاب.

- بل أصل الإسلام كله وهو عبادة الله وحده، والإيمان برسوله، والإيمان بكتابه، وغيرها من الأصول كانت تثير عداء الكفار وغضبهم وسخطهم على المسلمين، فإعمال التفكير بهذه الطريقة يؤدي لإلغاء الإسلام كله.

- بل مع هذا كله، فقد اتفق الفقهاء كلهم على وجوب قتل ساب الرسول، وهي الصورة ذاتها التي عفا عنها الرسول، من دون أي اعتبار منهم لتأثير لهذه العلة.

هذه بعض الأحكام التي تثبت يقينًا أن إعمال هذا الفهم على أي حكم شرعي بدون حدود متقنة غلط محض، وأن ذريعة نفور الكفار من الإسلام لا يجوز أبدًا أن تكون سببًا لتعطيل أحكام الشريعة أو بعضها، وأن تشويه الكفار للأحكام يوجب علينا الدفاع عنها وشرحها وبيان حسنها والدعوة إليه لا أن ندفنها خجلًا منها.

ولذا فهذا التفكير قد اتسع عليه خرق الغلط من جهتين:

الجهة الأولى: أنه وسع مراعاة نفور الناس إلى مساحات لم تراعها الشريعة، بل ثبت قطعًا أن الشريعة أهملتها ولم تعتبرها.

الجهة الثانية: أن ما راعته الشريعة كان في حكم شرعي معين، تُرِكَ تطبيقه عن شخص معين، جعلوه أصلًا كليًّا لتعطيل الأحكام كلها، ولم يجعلوه خاصًا بحالة معينة فقط.

إذا تقرر فساد منطق هذا الاستدلال، فما الحدود الفقهية المعتبرة في إعمال هذا الحديث؟

الواجب في معرفة هذه الحدود أن تكون مراعية لحدود ذات ما أعمله النبي صلى الله عليه وسلم، وحين ننظر في هذه الواقعة، يمكن أن نحصر حدودها في:

- تنزيل حكم شرعي على معين أو في حالة معينة.

- وجود اشتباه في استحقاقه للحكم.

- وجود مفسدة قوية غالبة، في مستوى نفورٍ عام عن الإسلام بسببه تصل لحد اعتقاد أن الرسول يقتل أصحابه فيخشى أن ينال هذا العقاب من يقتل الرسول؛ فالحكم الشرعي الذي يكون تطبيقه بهذا المستوى يكون مندرجًا ضمن السياق السائغ في إعمال الحديث.

وعليه فيخرج هنا:

من يعطل ذات الأحكام كليًا، أو يكون مراعيًا لمفاسد التطبيق إلى الحد الذي يلغي معه أصل التطبيق.

ويخرج منه أيضًا:

الأحكام الظاهرة التي لا يوجد اشتباه فيها، بحيث يكون الاعتراض على ذات الحكم لا على الاشتباه.

وأيضًا يجب أن تكون المفسدة قوية لحد ما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مع ملاحظة طبيعة المفسدة بحيث يكون الإعمال الفقهي مستحضرًا لها، فهي متعلقة بمفسدة إلى حد أن يظن الكافر أنه سيقتل لو دخل في الإسلام، ومثل هذه المفاسد لا تكون إلا في جنس معين من الأحكام كعقوبة الردة، ومن جنس معين من الناس وهم الكفار، ومثل هذه المفسدة لا توجد غالبًا في إقامة الحدود أو في مثل فرض الواجبات ومنع المحرمات على المسلمين.

وبناءً عليه، يمكن ترك إقامة حد الردة مثلًا في حالة معينة إذا ترتب على إقامته مفسدة راجحة توهم أن الشخص قُتل مظلومًا، لكن لا يقاس عليه منع إقامة قطع يد السارق خشية من طعن من الناس في عقوبة السرقة نفسها، لأن الأمر لا اشتباه فيه أصلًا، وهو متجه إلى الحكم ذاته لا إلى التطبيق في حالة معينة.

هذه هي الحدود التي يحتملها سياق حديث «لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».

وأحب أن أؤكد أن البحث هنا ليس تحريرًا لحكم ترك بعض إقامة الأحكام الشرعية، وإنما هو محاولة لتحرير الاستدلال لسبب من أسباب ترك إقامة بعض الأحكام استنادًا إلى هذا الحديث، وإلا فلا بد من جمع كافة أطراف الأسباب للإجابة على هذا السؤال، وليس هذا موضع بحثه فهو يحتاج لاستقراء وتتبع أوسع.

الآثار المستفادة من هذا الموقف السياسي النبوي:

بعد تحرير القول في حدود ما يمكن إعماله من هذا الحديث لترك إقامة بعض الأحكام، فإنه يمكن الاستهداء بروح هذا الموقف السياسي النبوي في آثار كثيرة على مستويات عدة، منها:

1- العناية بسمعة الإسلام، والاجتهاد في تقديم الحجج والبراهين التي تشرح محاسن الإسلام، وتجلي فضائله، وبذل كافة الجهود لإزالة الشكوك والشبهات والتشويهات التي توجه لرسالة الإسلام.

2- مراعاة أفهام المخاطبين، ومستوياتهم، واتخاذ الأسلوب المناسب لئلا يكون لطريقة الخطاب أو زمانه ومكانه ما يؤدي لنفور عن أحكام الشرع.

ومن مراعاة أفهام الناس ترك تحديثهم أو إفتائهم ببعض الأحكام حين يترتب عليها مفسدة ظاهرة تربو على مصلحة تعليمهم، ولهذا قال الصحابي الفقيه عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدثٍ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»[18].

3- تعميق قاعدة شرعية مقررة، هي «درء الحدود بالشبهات».

4- الاجتهاد في بيان الحكم الشرعي وشرح حدوده وإزالة الغلو والتفريط المتلبس به لئلا يشتبه بغيره.

5- عدم قيام الشخص بإقامة الحدود إلا بسلطة شرعية، وبضمانات قضائية، حتى تحقق العقوبات الشرعية مقاصدها وتكون على وفق مراد الشرع منها، فلا يدخل في النفوس نفور منها بسبب إشكالات يرونها في الإجراءات، فيشتبه الحق الذي في الحكم بالباطل في الوسائل والإجراءات.

المصدر: البيان
[/align]
المشاهدات 925 | التعليقات 0