(4) لمحات من سيرة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم إخوة الإيمان والعقيدة .. تتوجه القلوب والأبدان إلى بيت الله الحرام، قاصدين مكة والمشاعر، راغبين في الطواف والسعي، مؤملين مثوبة من ربهم، سائلين خلاصاً من ذنوبهم، فهم إلى بقاع طاهرة جدّوا سائرين، وإلى أماكن نزلها الأنبياء قبلهم مرتحلين، فهناك الكعبة المشرفة بناها إبراهيم الخليل، وأذن في الناس أن حُجُّوا بيت ربكم الجليل. فها نحن نرى استجابة النداء، قوافل الحجيج تأتي من كل فج عميق، تذكرنا بأول قافلة في التاريخ متوجهة إلى أرض مكة، قافلة صغيرة يقودُها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام مع زوجته هاجر وطفلها الرضيع إسماعيل. في رحلة مؤثرة تتصيدها القلوب قبل الأسماع. فالرحلة طويلة شاقة، من أرض الشام حتى أرض الحجاز، في مكان ليس فيه يومئذ أحد، وليس به ماء. حتى بلغ عند دوحة: شجرة كبيرة، وضعهما هناك إسماعيل وأمه، ووضع عندهما جِراباً فيه تمرٌ، وسِقاءً فيه ماء. ولم يقُم معهما ولم يلبث، بل قفل إبراهيم منطلقًا راجعًا، فتبعته أم إسماعيل فقالت: يا إبراهيم أين تذهب؟ أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء!! قالت له ذلك مراراً، وجعل إبراهيم لا يلتفت إليها، حتى قالت له: أآلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت المؤمنة الصادقة: إذن لا يضيعنا الله، ثم رجعت إلى طفلها الرضيع. فانطلق إبراهيم عليه السلام حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه، استقبل بوجهه البيت، ثم رفع يديه ودعا قائلاً ]رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[ دعوات صادقة لا يملك غيرها ليُقدِمها عزاءً لنفسه، وهو يُنَفِّذُ أمر ربه في ترك رضيعٍ مع أمه، فلتَأخذ هذه الدعواتُ مداها، ولننظر في حفظ الله لمن حَفِظه في أهله وولده. جعَلَت أُمُّ إسماعيل تُرْضِعُ إسماعيل، وتشربُ من ذلك الماء، حتى إذا نَفَدَ ما في السِقاء، عَطِشت وعَطِش ابنها، وبلغ العطش فيه مبلغاً صعباً، فجعلت أمه تنظر إليه، وهو يتلوى من شدة حُرقته، فشَقَّ على الأم أن تنظر إليه وهي لا حول لها ولا قوة في أمره. مكانٌ خالٍ، ورضيعٌ جائعٌ عَطِش، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقربَ جَبَلٍ في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها أي ثوبها، ثم سَعَت سعيَ الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، أتت المروة، فقامت عليه ونظرت هل ترى أحداً، فلم ترَ أحداً، فعلت ذلك سبع مرات، فقال النبي ﷺ (فذلك سعي الناس بينهما) فلما أشرفت على المروة، سمعت صوتاً غريباً، ثم تسَمَّعتْ، فسَمِعَت، فأيقنت أنَّ فرجاً ينتظرها يُحيي الله به رضيعها ونفسها. فإذا هي بالملَكِ عند موضع زمزم، فبحث بعَقِبه أو بجناحه، فحفر حتى ظهر الماء، فجعلت تَحُوضه وتجمعه بيدها حتى يكون كالحوض، وجعلت تغرف من الماء في سقائها، وهو يفور بعدما تغرف، قال النبي ﷺ (يرحمُ الله أمَ إسماعيل، لو كانت تركت زمزم) أو قال (لو لم تغرِف من الماء لكان زمزمُ عيناً معيناً) فشَرِبت، وأرضعت ولدها، قال لها الملَك: "لا تخافوا الضَيْعة، فإن ها هنا بيتَ الله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضَيعُ أهله، وكان مكانُ البيت مُرتَفِعاً من الأرض كالرابية، تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله. ثم لم تزل أمُّ إسماعيل على خير حال مع رضيعها، حتى مرت بهم رُفقَةٌ من قبيلة جُرهُم، مقبلين، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر لَيَدورُ على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسِلوا من يستكشف الخبر، فإذا هم بالماء، فرجعوا، فأخبروهم خبر الماء، فأقبلوا حتى وقفوا على أم إسماعيلَ عند الماء، فقالوا: أتأذنين لنا أن ننزِل عِندَك؟ قالت: نعم؛ ولكن لا حقَّ لكم في الماء. قالوا: نعم. قال النبي ﷺ (فألفى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تُحِبُّ الأُنس) فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم، فنزلوا معهم، حتى إذا كان فيها أهل أبيات منهم، وشَبَّ الغلام إسماعيل، وتعلم العربية منهم، وأعجبهم حين شَبَّ، فلما أدرك، زوجوه امرأة منهم، فجاء إبراهيم عليه السلام بعدما تزوج إسماعيل، وبعدما ماتت أمه، جاء ينظر، يطالع تركته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا الرزق، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشرّ وضيق وشدة، فشكت إليه، قال إبراهيم: فإذا جاء زوجك، فاقرئي عليه السلام، وقولي له: يُغيّر عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل؛ كأنه آنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني كيف عيشُنا، فأخبرته أنّا في جُهدٍ وشَدة، قال: هل أوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم أمرني أن أقرأ عليكم السلام، ويقول: غيّر عتبة بابك، قال إسماعيل: ذاك أبي، وقد أمرني أن أُفارقكِ، الحقي بأهلك، فطلقها. ثم تزوّج منهم امرأة أخرى، فلبث عنه إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته، فسألها عنه، قالت: خرج يبتغي لنا. قال: كيف أنتم؟، وسألها عن عيشهم وهيئتهم، قالت: نحن بخيرٍ وسَعَةٍ، وأثنت على الله، قال: ما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: ما شرابكم؟ قالت: الماء، قال إبراهيم: اللهم بارك في اللحم والماء. قال النبي ﷺ (ولم يكن لهم يومئذٍ حبّ، ولو كان لهم حبٌّ لدعا لهم فيه) قال (فهما لا يخلو عليهما أحدٌ بغير مكة إلا لم يُوافقاه) قال: "فإذا جاء زوجك، فأقرئي عليه السلام، ومُرِيه يُثَبّت عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل، قال: هل أتاكم من أحدٍ؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنَت عليه، فسألني عنك، فأخبرته، فسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا بخير، قال: فأوصاكِ بشيء؟ قالت: نعم، هو يقرأ عليك السلام، ويأمُرك أن تُثَبِّت عتبة بابك، قال إسماعيل: ذاك أبي، وأنت العتبة، أمرني أن أُمسِكَك. ثم لَبِث عنهم ما شاء الله.... أيها المؤمنون ... تلك لمحات من سيرة خليل إبراهيم لم تنته بعْد، سائلاً المولى أن ينفعنا بما ذكرنا أقول ما تسمعون ...     الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.. وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً. معاشر المؤمنين .. قصة أبينا إبراهيم وزجته هاجر وابنه إسماعيل عليهما السلام قصة تَشُدُّ السامعين، فيها من معالم التقوى والتوكل على الله الشيءُ الكثير. فإبراهيمُ عليه السلام ترك ولده الرضيعَ وأُمه في وادٍ غير ذي زرع لا يَحْدُهُ إلا الثقة بالله، والتوكل عليه، لقد تلقى وحيَ الله تعالى في ذلك، ولكن للنفس نزعات، حتى إنه لم يستطع أن ينظر إليهما، وهو منصرفٌ عنهما، فنازعَ نفسه، فغلبها طاعة لله تعالى. هذا ما نحتاجه – يا عباد الله – مع نفوسنا تجاه ما أمر الله به، أو حرَّمه علينا. فالنفوس تدعو، والشيطان يَؤز، ولابد من تَغَلُّبٍ على هذا كله بتقوى الله، والاستعانة على طاعته، والصبر عن محارمه ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[. فالحياة الطيّبة هي بتحقيق طاعة الله بالعمل الصالح ]مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[. ومن عِبَر هذه القصة –أيها الإخوة– تلك الصلة التي يقوم بها الأب لابنه على بُعْدِ المسافة، وكُلفَة النُقلَة، وتَفَقُدِ حاله، وإبداءِ المشورة الصادقة في حياته الزوجية. وسترون في الجمع القادمة بمشيئة الله تعالى ثمار تَلَطُّف الأبّ؛ بطاعةِ الابن بمواقفَ عظيمة ومن عِبَر هذه القصة –أيها الإخوة– هاجر المرأة العاقلة؛ لما علمت أن الأمر ببقائها في الوادي أمرٌ إلهي؛ لم تُطِل النِقاش، فهو درسٌ في عدم التقدم بين يديّ الله، فافهموه، وانقلوه إلى نساءكم. وأما سعيّها تطلبُ الغَوث لرضيعها، فما مشروعيةُ السعي بين الصفا والمروة في الحَجِّ أو العمرة إلا لإحياء تلك الذكرى في النفوس، لِتَنشَط في الالتجاءِ إلى الله عز وجل في كل حال، وأنَّ الله مُغِيثٌ كلّ مُستغيث، فاصدقوا اللجوء إلى الله، وتوجهوا بصدقٍ إليه، فالذي أغاثَ أُمَّ إسماعيل قادر على أن يُغيث الناس أجمعين متى ما تحققت طاعتهم لربِّ العالمين.
المرفقات

1655453084_رحلة شاقة إلى البلد الحرام.docx

1655453098_رحلة شاقة إلى البلد الحرام.pdf

المشاهدات 355 | التعليقات 0