15 - التحذير من الذبح لأصحاب القبور
ماجد بن سليمان الرسي
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).
أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
***
أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.
***
أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر جديد وهو مظهر الذبح لأصحاب القبور.
***
أيها المسلمون، الذبح عبادة عظيمة، دلَّ على عِظَمها أن الله قرنها بالصلاة- التي هي أعظم شعائر العبادات- في عدة مواضع من القرآن الكريم كقوله تعالى: ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين﴾، ومعنى نسكي أي ذبحي.
وقال تعالى: ﴿إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر﴾.
***
أيها المؤمنون، والصلاة والذبح شأنهما عظيم، ولذا كان النبـي )صلى الله عليه وسلم) كثير الصلاة كثير الذبح، فإنه لما حج نحر مائة من الإبل، مع أن المجزئ أقل من ذلك عنه وعن أهل بيته ممن حج معه.
***
ومما يدل على عظم عبادة الذبح أنه تجتمع فيها عبادتا الإنفاق والذبح، بما يبذله الذابح من مال لشراء ذبـيحته.
وكذلك ما فيها من تحقيق توحيد الربوبية، بالاستعانة بالله حال الذبح، وتحقيق توحيد الألوهية بإفراد التقرب إلى الله بذبح بهيمة الأنعام.
***
عباد الله، ومما يدل على أن الذبح عبادة أن الرسول )صلى الله عليه وسلم) سَنَّ لنا الأضحية في عيد الأضحى، وسَنَّ لنا العقيقة عن المولود، وسَنَّ لنا هدي الحج، بل إن الله عَدَّ إراقة دماء الهدي من التقوى، كما في قوله تعالى: ﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم﴾، أي يصله التقوى منكم، ومن المعلوم أن كل ما أمر الله به ورتب على فعله ثوابًا فهو عبادة، وهذا هو ضابط المسألة.
***
أيها المسلمون،كما عدَّ الله الذبح من شعائره، ورتب الخير على ذبحها، كما في قوله تعالى: ﴿والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير﴾.
***
فالحاصل أن الذبح من أفضل الطاعات وأعظم القُربات، وهو عبادة كالصلاة والصيام وغيرها من العبادات سواء بسواء، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك، والله أعلم.
***
عباد الله، ولما تقرر أن الذبح عبادة؛ فعليه فإن فعله لغير الله حرام، بل هو شرك في العبادة، ولذا جاءت الأدلة الدالة على تحريم الذبح لغير الله، فمن ذلك قول الرسول )صلى الله عليه وسلم): «لعن اللهُ مَن ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله مَن آوى محدثًا، لعن الله مَن غَيَّر مَنار الأرض»([1]).
***
· وعن سلمان الفارسي )رضي الله عنه) قال: «دخل الجنة رجلٌ في ذباب، (أي بسبب ذباب)، ودخل النار رجل في ذباب. قالوا: وكيف ذلك؟ قال: مَرَّ رجلان على قوم لهم صنم عظيم، لا يَجُوزه (أي لا يتعداه) أحد حتى يُـقرِّب له شيئًا، فقالوا لأحدهما قرِّب، قال: ليس عندي شيء، قالوا له: قَــرِّب ولو ذبابًا، فقرب ذبابًا فخلَّوا سبـيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قَـرِّب ولو ذبابًا. قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله )عز وجل)، فضربوا عنقه فدخل الجنة»([2]).
فالرجل الأول ذبح لغير الله فدخل النار، مع أنه ذبح شيئًا حقيرًا وهو الذباب، والآخر امتـنع من الذبح لغير الله -مع أنه في أمر حقير- ولكن لكونه شركًا أبى، فدخل الجنة.
ففي هذه القصة بـيان عظم إثم الشرك، وسهولة الوقوع فيه، وصدق رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «الجنةُ أقربُ إلى أحدكم مِن شِرَاك نعله، والنار مثل ذلك»([3]).
«فقف عند هذا وتأمل حكمة الشريعة وسرها في إخلاص العبادة والتعظيم الذي لا ينبغي إلا لله، ولو بأحقر شيء كالذباب، فكيف بكرائم الأموال؟ والله المستعان»([4]).
***
· عباد الله، ومما يدل على تحريم الذبح لغير الله إجماع المسلمين على ذلك، وقد نقل إجماعَهم الحافظُ ابنُ كثير )رحمه الله) حيث قال عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿وما أُهِل لغير الله به﴾: «أي ما ذُبح فذُكر عليه اسم غير الله فهو حرام، لأن الله تعالى أوجب أن تُذبح مخلوقاته على اسمه العظيم، فمتى عُدل بها عن ذلك، وذُكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات فإنها حرام بالإجماع»([5]).
***
وقال الإمام النووي في «شرح صحيح مسلم» عند شرحه لقوله )صلى الله عليه وسلم): «لعن اللهُ مَن ذبح لغير الله» ما نصه: «وأمَّا الذبح لغير الله فالمراد به أن يذبح باسم غير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما أو للكعبة ونحو ذلك، فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلمًا أو نصرانيًّا أو يهوديًّا، نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له -غير الله تعالى- والعبادة له كان ذلك كفرًا، فإن كان الذابح مسلمًا قبل ذلك صار بالذبح مرتدًّا». انتهى.
وقال الشوكاني )رحمه الله): «ومن المفاسد البالغة إلى حدٍّ يَرقى بصاحبه إلى وراء حائط الإسلام، ويُلقيه على أُمِّ رأسه من أعلى مكان من الدين؛ أن كثيرًا منهم يأتي بأحسن ما يملكه من الأنعام، وأجود ما يَحوزه من المواشي، فينحره عند ذلك القبـر، متقرِّبًا به إليه، راجيًا ما يُضمر حصوله له منه، فيُهِلُّ به لغير الله، ويتعبد به لوثن من الأوثان، إذ أنه لا فرق بـين النحائر لأحجارٍ منصوبةٍ يُسمونها وثنًا، وبـين قبـرٍ لميتٍ يسمونه قبـرًا، ومجرد الاختلاف في التسمية لا يغني من الحق شيئًا، ولا يؤثر تحليلًا ولا تحريمًا، فإن مَن أطلق على الخمر غير اسمها وشَربها كان حكمه حكم من شربها وهو يُسَمِّيها باسمها، بلا خلاف بـين المسلمين أجمعين»([6]).
***
أيها المؤمنون، ومن المظاهر المعاصرة للذبح لغير الله الذبح للجن، فهذا وإن لم يكن من مظاهر الغلو بالموتى الذي هو موضوع الخطبة، ولكن نذكره هنا لتمام الفائدة، فبعض الناس -هداهم الله- إذا اشترى دارًا أو حفر بئرًا ذبح ذبـيحة للجن حتى يرضى عنه ولا يصيبه بأذى، وهذا من جنس ما كان يفعله المشركون في الجاهلية، الذين كانوا إذا نـزلوا واديًا في أسفارهم أو مكانًا موحشًا استعاذوا بكبـير ذلك الوادي من الجن من أن يصيبهم بأذى، كما قال تعالى عنهم: ﴿وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا﴾([7])، وهذا شرك، والواجب اللجوء إلى الله وحده، والاستعاذة به وحده.
***
عباد الله، ومن ذلك أيضًا ما يفعله بعض الناس من الذبح للجني المتلبس بالإنسي، تقربًا إليه حتى يخرج منه، وهذا شرك أيضًا، فالذبح للجني وسيلة شركية لخروجه من الإنسي، وضررها أعظم من تلبس الجني بالإنسي، والذي ينبغي فعله هو إخراج الجن بوعظه وتذكيره بالله وبعقوبة ظلمه وإضراره لذلك المريض، فلعل الجني إن كان مسلمًا أن يقبل الموعظة ويخرج، وإن لم يكن مسلمًا فإن القراءة تُضيِّق عليه فيخرج، وبكل حال فإن فساق الجن وكفرتهم لا يتحملون سماع القرآن، خصوصًا إذا كان القارئ من أهل الصلاح والاستقامة، ومن المعلوم أن القرآن شفاء للأمراض الحسية والمعنوية، كما قال تعالى: ﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا﴾.
***
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
***
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761
([1]) رواه مسلم (1978) عن علي )رضي الله عنه).
([2]) رواه ابن أبـي شيبة في «المصنف» (33028)، وأحمد في «الزهد»- قسم (المقدمة)، أثر رقم (84)، وأبو نعيم في «الحلية» (1/261) عن سلمان الفارسي موقوفًا، وصححه الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في تخريجه لأحاديث كتاب «التوحيد»، باب (ما جاء في الذبح لغير الله).
([3]) رواه البخاري (6488)، وأحمد (1/387) عن ابن مسعود )رضي الله عنه).
([4]) قاله الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمـٰن بن حسن في «منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس» (ص247).
([5]) «تفسير ابن كثير»، سورة المائدة: (3).
([6]) «شرح الصدور في تحريم رفع القبور» (ص34).
([7]) انظر تفسير سورة الجن من «تفسير القرآن العظيم» لعماد الدين بن كثير )رحمه الله).
المرفقات
1744292247_15 الذبح لأصحاب القبور.doc
1744292247_15 الذبح لأصحاب القبور.pdf