13- التحذير من مظهر اتخاذ القبور أعيادا

ماجد بن سليمان الرسي
1446/08/14 - 2025/02/13 08:48AM

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلـٰه إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون).

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما).

أما بعد، فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

***

أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، واعلموا أنه تعالى خلق الخلق ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا كما قال تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾، وأرسل الرسل لذلك قال: ﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إلـٰه إلا أنا فاعبدون﴾، ونهى عباده عن أن يشركوا معه في عبادته أحدًا غيره فقال: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين * بل الله فاعبد وكن من الشاكرين﴾، وبـين لنا أن الشرك أعظم الذنوب فقال: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما﴾.

***

أيها المؤمنون، تقدم في الخطب الماضية بيان بعض مظاهر الغلو في القبور المنتشرة في بعض بلاد المسلمين، واليوم نتكلم بما يسر الله عن مظهر جديد وهو مظهر اتخاذ القبور أعيادا.

***

عباد الله، العيد هو ما يعتاد الناس مجيئه من زمان أو مكان. قال الشيرازي )رحمه الله): «العيد مُشتق من العَوْد، وهو الرجوع والمعاودة، لأنه يتكرر»([1]).

والأعياد تنقسم إلى قسمين، شرعية وبدعية، والأعياد الشرعية تنقسم إلى قسمين؛ زمانية وهي عيد الفطر وعيد الأضحى فحسب، وأعياد مكانية وهي الأمكنة التي يعتاد الناس المجيء إليها للعبادة عندها، كالمساجد الثلاثة ومشاعر الحج في أيام الحج.

وأما الأعياد البدعية فهي معاودة أماكن في أوقات معينة في السنة يجتمعون عندها، وأشهرها القبور، يعتادون زيارتها إما في شهر الله المحرم في عاشوراء، أو رجب، أو شعبان، أو في النصف من شعبان، أو في يوم عرفة، أو يوم الـجمعة، أو أيام الأعياد، أو غير ذلك من الأيام، وربـما سافروا إليها، وهذا الفعل حرام بلا ريب، ودليل التحريم أن النبـي )صلى الله عليه وسلم) نهى عن مُعاودة قبـره، فتضمن ذلك جميع القبور سواء كانت قبور أنبـياء أو غيرهم، وسواء كان ذلك بسفر أو بدون سفر.

فعن أبـي هريرة )صلى الله عليه وسلم) قال: قال رسول الله )صلى الله عليه وسلم): «لا تَــتَّخذوا قبـري عيدًا، ولا تجعلوا بـيوتكم قبورًا، وحيثما كنتم فصلوا عليَّ، فإنَّ صلاتكم تَبلغني»([2]).

الثاني: ومن الأدلة كذلك إنكار الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) على سُهيل بن أبي سهيل «لمَّا رآه دنا عند قبـر الرسول )صلى الله عليه وسلم) فقال له: ما لي رأيتك عند القبـر؟

فقال: سَلَّمتُ على النبـي )صلى الله عليه وسلم).

فقال: إذا دخلت المَسجد فسَلِّم([3])، ثم قال: إن رسول الله )صلى الله عليه وسلم) قال: «لا تَــتخذوا قبـري عيدًا، ولا تــتخذوا بـيوتكم مقابر، لعن الله اليهود، اتَّخذوا قبور أنبـيائهم مساجد، وصلوا عليَّ، فإنَّ صلاتكم تَبلغني حيثما كنتم».

ما أنتم ومَن بالأندلس إلا سواء»([4]).

قال ابنُ تيمية )رحمه الله): «قبـرُ رسول الله )صلى الله عليه وسلم) أفضل قبـر على وجه الأرض، وقد نهى عن اتخاذه عيدًا، فقبـر غيره أولى بالنهي كائنًا مَن كان، ثم إنه قرن ذلك بقوله )صلى الله عليه وسلم): «ولا تــتخذوا بـيوتكم قبورًا»، أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنـزلة القبور، فأمر بتحري العبادة في البـيوت ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومَن تشبه بهم». انتهى كلام ابن تيمية )رحمه الله)([5]).

عباد الله، وفي قوله )صلى الله عليه وسلم): «وحيثما كنتم فَصَلُّوا عليَّ، فإنَّ صلاتَكم تَبلغني»، دليل صريح على أن الصلاة والتسليم يَبلغانه )صلى الله عليه وسلم) من بُعد كما يبلغانه من قرب، لأن لله ملائكة سياحين يُبلغون النبـي )صلى الله عليه وسلم) تسليم أمته، كما في قوله )صلى الله عليه وسلم): «إن لله ملائكة سيَّاحين يُبلغوني عن أُمَّتي السَّلام»([6])، فلا حاجة إذن إلى الدنو من قبـره أو معاودة زيارته وتخصيص مواسم وأوقات لأجل السَّلام عليه، لأن السلام سيبلغه من أي مكان في الدنيا، ولهذا قال الحسن: «ما أنتم ومَن بالأندلس إلا سواء».

***

أيها المؤمنون، ومن الأدلة على أن معاودة القبر النبوي مخالف لهدي السلف كراهية الإمام مالك لذلك، وهو من أئمة السلف، فقد قال )رحمه الله): «وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبـر، وإنما ذلك للغرباء».

وقال أيضًا: «لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبـر النبـي )صلى الله عليه وسلم) فيُصلي عليه ويدعو له ولأبـي بكر وعمر.

فقيل له: فإن ناسًا من أهل المدينة لا يَقدمــون من سفر ولا يريدونه، ويفــعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو الأيام المرة أو المرتين أو أكثر عند القبر، فيُسَلِّمون ويدعُون ساعة.

فقال: لم يَبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا، وتركه أوسع، ولا يُصلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. انتهى([7]).

***

قال ابن تيمية )رحمه الله): «كان المهاجرون والأنصار على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي )رضي الله عنهم) يـجيئون إلى المسجد كل يوم خمس مرات يصلون، ولم يكونوا يأتون مع ذلك إلى القبر يسلمون عليه، لعلمهم )رضي الله عنهم) بما كان النبي )صلى الله عليه وسلم) يكرهه من ذلك، وما نهاهم عنه، وأنهم يسلمون عليه حين دخول المسجد والخروج منه، وفي التشهد، كما كانوا يسلمون عليه كذلك في حياته»([8]).

***

عباد الله، تبين مما تقدم تحريم معاودة القبور بشكل مستمر كل أسبوع أو كل جمعة ونحو ذلك، سواء كان ذلك للقبر النبوي أو غيره من القبور، والمشروع زيارتها بغير تحديد زمن لقصد الدعاء لأهلها بالمغفرة، ولقصد تذكر الآخرة، وما سوى ذلك من المقاصد فإنه يفضي إلى تعظيمها التعظيم المفرط الذي يؤول إلى عبادتها.

***

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

***

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن بعض الناس قد استدل على مشروعية الإكثار من معاودة القبور بأحاديث يظنها صحيحة، ولكنها عند التمحيص والتحقيق ضعيفة لا يعتمد عليها في الدين، مثل حديث «من زار قبـر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غُفر له، وكُتِب بَـرًّا»، فهذا حديث ضعيف جدا، وكذا غيره من الأحاديث الواردة في هذا الباب.

***

ثم اعلموا رحمكم الله أن الله سبحانه وتعالى أمركم بأمر عظيم فقال (إن اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تسليما)، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارض عن أصحابه الخلفاء، وارض عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

 

أعد الخطبة: ماجد بن سليمان، واتس: 00966505906761



([1]) انظر  «المجموع» للنووي (5/5).
([2]) رواه أبو يعلى في «مسنده» (1/361) رقم (469)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (7541)، وإسماعيل القاضي في «فضل الصلاة على النبي» (20)، وقال الألباني في حاشيته عليه: حديث صحيح بطرقه وشواهده، وقد خرَّجتها في «تحذير الساجد».
([3]) يقصد السلام المشروع على النَّبي )صلى الله عليه وسلم) عند الدخول إلى المسجد، في قوله: «إذا دخل أحدُكم المسجدَ فليُسلم على النبي )صلى الله عليه وسلم)، ثم ليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك...»، الحديث. رواه أبو داود (465)، والترمذي (465)، وابن ماجه (772) عن أبي حـميد- أو أبي أسيد- الأنصاري (رضي الله عنهم)، وصححه الألباني.
([4]) رواه سعيد بن منصور في «سننه» واللفظ له، كما عزا ذلك ابنُ تيمية )رحمه الله) في «الاقتضاء» (1/302) وذكره بإسناده، وقال الألباني )رحمه الله): «إسناده قوي»، انظر  «أحكام الجنائز» (ص280). وقوله: «ما أنتم ومَن بالأندلس إلا سواء» من كلام الحسن )رحمه الله).
([5]) «اقتضاء الصراط المستقيم» (2/662).
([6]) رواه النسائي (1281)، وأحمد (1/452)، وغيرهما عن ابن مسعود (رضي الله عنه)، وصححه الألباني (رحمه الله) في «صحيح النسائي» (1215).
([7])نقل هذه الأقوال عن المالكية القـاضي عياضٌ )رحمه الله) عن الإمام مالك في كتـابه «الشفا بتعريف حقوق المصـطفى» (2/98- 99)، باب (في حـكم زيارة قبره (صلى الله عليه وسلم) وفَضيلة مَن زاره وسَلَّم عليه، وكيف يُسلم ويدعو)، وعزاها لكتاب «المبسوط» للسرخسي، وكذا نقلها ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» (27/118).
([8]) «اقتضاء الصراط» (2/724- 725).

المرفقات

1739425720_خطبة جمعة - التحذير من اتخاذ القبور أعيادا.doc

1739425720_خطبة جمعة - التحذير من اتخاذ القبور أعيادا.pdf

المشاهدات 102 | التعليقات 0