يونس بن متَّى

إبراهيم بن صالح العجلان
1431/05/28 - 2010/05/12 11:28AM
يونس عليه السلام
معاشر المسلمين:
مع القصة والقصص، تهفو النفوس، وتُصغي الآذان، وتسترسل المشاعِر؛ ولذا تبوَّأتِ القصص مساحةً واسعة في آيات الذِّكْر الحكيم؛ {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176] .
وقصص القرآن - يا أهلَ القرآن - هي جزء من مواعظِ الفرقان، التي أمرَنا الله جلا وعلا أن نوردها القلوب؛ {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45].
نقف - إخوة الإيمان - مع نبأٍ من أنباء الغيب، ومدرسةٍ من مدارس النبوة المصطفاة .
مع قصَّة قصيرة في حلقاتها، مليئة بعظاتها؛ {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
نقف مع خبر الرسول الكريم، والرجل الصالِح ذي النون، صاحب الحوت، يونس ابن متى - عليه السلام - ارْتضاه ربُّه واجتباه، فخصه بالنبوة، وفوقها الرسالة؛ {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 139].
قال بعض العلماء: لم يُنسبْ نبيٌّ إلى أمِّه إلا عيسى ابن مريم، ويونس ابن متى.
أرسله ربُّه - تعالى - إلى قرية نِينَوى، وهي مدينة بالعِراق، كانت عاصمةً للدولة الآشورية، ولها شهرتُها التاريخيَّة، وهي اليومَ أطلالٌ وآثار، تقع على الضفة اليُسرى لنهر دجْلة .
كان عددُ أهل هذه القرية مائة ألف أو يزيدون، عبدوا الأصنام، وتعلَّقوا بالأموات والخُرافات، فقام فيهم يونس - عليه السلام - مبلغًا رسالة ربه، ومجددًا لمعالِم التوحيد التي اندرستْ، رغَّبهم نوال ربهم إنْ تابوا ووحَّدوا، وأنذرهم عقابَه وبأسه إن كفروا وأشركوا، ولبث فيهم ناصحًا مصلحًا ما شاء الله له أن يلبث.
فما كان موقف قومه إلا الإعراضَ والجفاء، والصد والاستعصاء، ولشدَّة يقينه بدعوته، وعِظَم تشبُّعه بها؛ غضب على قومه وغاضبهم، فخَرج من ديارهم، وقد بَلَغ به الحنقُ منهم مبلغه؛ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} ، فارَقَ يونسُ ابن متى قريتَه نينوى ، قبل أن يُؤذنَ له من ربه.
والأصل: أنَّ كل نبي يمكث في مقر دعوته ، حتى يؤذن له بالهجرة والمفارقة، فهذا نبيُّنا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يتشوَّف للهجرة، وكان أبو بكر يستأذنه في ذلك، فكان - عليه الصلاة والسلام - يقول له: ((انتظر؛ فإني أنتظر أن يؤذن لي))، ثم أتى إلى أبي بكر بعدَ ذلك يبشِّره، ويقول له: ((إني قد أذن لي بالهجرة)).
استعجل يونس ابن متى - عليه السلام - الخروجَ من ديار قومه، وكان يظنُّ أن ربَّه لن يضيِّق عليه بسبب هذا الخروج؛ {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87].
مضى العبد الصالح، ميمِّمًا وجهه شطر البحر، وهو لا يدري عن المصير الذي ينتظره، والبلاء الذي يتحيَّنه، وحين وَصَل شاطئ البحر، وَجَد سفينةً قد ضاقتْ بأهلها، فركب مع من ركب؛ {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصافات: 140].
أقلعتْ تلك السفينةُ المتواضعة بأمْر ربِّها، وسارتْ في عُرْض البحر، حتى إذا توسَّطت البحر، تلاطمتْ بها الأمواج، وتقاذفتْها الرِّياح، فاضطربت السفينة ومادتْ، ومالتْ براكبيها وماجتْ، وظنَّ أهلُ السفينة أنه قد أُحيط بهم، وتيقَّنوا أنهم على شفا مَهْلَكة ومتلَفة .
في هذه الحال المفجعة، والساعة المهولة، اجتمع أهلُ السفينة وتشاوروا، ثم قرَّروا: أنه لا بدَّ من التضحية ببعض أفراد السفينة، حتى يخفَّ الحمل عليها؛ لينجوَ من بقي بعد ذلك؛ فهلاك البعض أهون من هلاك الجميع.
واختاروا طريقة عادلة لمن سيكون ضحيةً في البحر، فوضعوا قرعةً بينهم، والكل يرجو ألاَّ يكون هو .
اقترعوا ، وسقطت القرعة على النبيِّ الكريم، الذي خرج مغاضبًا، وظنَّ أن ربَّه لن يضيِّق عليه، فأُعيدت القرعة ثانية، فوقعتْ عليه، ثم أعيدت ثالثة، فكان هو هو صاحب القرعة ؛ قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} ؛ أي: من المغلوبين في القرعة.
عندها ، لم يكن بُدٌّ من إلقاء النبي الكريم وسطَ لجَّة البحر، وتقدَّم يونس بن متى إلى البحر الهائج، ليستقبل برُوحه هذا المصيرَ المجهول، واحتمالاتِ الهلاك المنتظَرة .
إنَّه مصير ليس له مخرج، إلا من يكشف السوء، ويُفرِّج الكرب - سبحانه وتعالى.
سقط العبد الصالح في وسط البحر، وقد تعالتْ أمواجُه، وأظلم ماؤه؛ من بُعْد قعره، فابتلعه البحر الهائج المائج، ولم ينتظر طويلاً حتى كان الابتلاع الآخر مِن حوت البحر؛ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} ؛ أي: أتى فِعلاً يُلام عليه، وهو خروجه بغير إذنِ ربه.
الْتقم الحوت نبيَّ الله يونسَ، ومرَّ النبي الكريم بين فكي الحوت، ثم إلى جوفه، فكانتِ احتمالات الهلكة مضاعفةً متيقَّنة؛ فلا نور هناك ولا هواء، ولا طعام ولا ماء ، إنها – وربِّي - كرباتٌ في كربات، وظلماتٌ في ظلمات.
هنا تذكَّر هذا النبيُّ الصالح أن له ربًّا يسمع النداء، ويغيث الكرب، فهتف واستغاث بكلمات مِن قلبه قبل لسانه؛ إذ نادى وهو مكظوم، ردَّد - عليه الصلاة والسلام -: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
إنها كلمة التوحيد والعبودية، والتعظيم والاعتراف؛ لا إله إلا أنت، إفراد وإقرار بالعبودية للواحد القهار؛ فهو - سبحانه - الملِك الحق، لا ربَّ غيرُه، ولا معبود سواه، فأعظم ما يُنادي به العبدُ ربَّه، ويتقرَّب إلى بابه، اعتقادُه واعترافه باستحقاق العبودية لله – سبحانه.
ثم نزَّه العبدُ الصالِح ربَّه، وعظَّمه وقدَّسه، فقال: سبحانك، ثم تواضع لربه، واعترف بخطئه وتقصيره واستعجاله: إني كنت من الظالمين، فاجتمعت في هذه الكلمة المختصَرة أسبابُ إجابة الدعاء؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((دعوة ذي النون، إذ دعا وهو في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فإنه لم يَدْعُ بها رجل مسلِم في شيء قط إلا استجاب الله له))؛ رواه الإمام أحمد والترمذي وصحَّحه الألباني.
وبعدَ زفرات التعظيم، ولهجات الاعتراف، والجأر بالدُّعاء والشكاية، كانتْ معية الله، ورحمة الله مع عبْده المكروب الملهوف.
فهذا النِّداء في جوف البحار، سَمِعَه مَن وَسِعَ سمعُه الأصوات، وهذه الحال المكروبة، رآها عالِمُ الخفيات، يعلم ما في البر وما في البحر، وما تسقط مِن ورقة إلا يعلمها، ولا حبَّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
هنا، وبأمرٍ من الله - جل جلالُه - الذي يدبِّر الكون بيْن الكاف والنون، توقَّفتْ عواملُ الهلاك لنبي الله - تعالى - فشاء الله تعالى أن يعيشَ يونس بن متى في بطن الحوت، كما يعيش الجنين في رَحِم أمه.
ومكث يونس - عليه السلام - أمدًا في هذا المكان المظلِم، فقيل: مكث في بطن الحوت أربعين يومًا، وقيل: عشرين يومًا، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: الْتقمه الحوت ضحًى، ولفظه عشاءً، وكلها أقوال واجتهادات لا يعضدها نصٌّ صحيح، لكن - والعلم عند الله - أنَّه مكث في بطن الحوت مدة ليست بالقصيرة، بدليل تغيُّر جسمِه وبدنه، حين خرج من بطن الحوت.
بقي الرجل الصالح في كربته يسبّح ويناجي ويدْعو، فأدركتْه نعمةٌ من ربِّه ورحمة، فلفظه الحوت في مكان قفْرٍ خالٍ من الأشجار؛ {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49].
خرج يونس ابن متى من بطن الحوت يلهج بالحمد والثناء، قد كَتَبَ الله له حياةً جديدة، خرَج من بطن الحوت، وحالُه غير الحال التي دخل عليها، خرَج وقد اعتلَّت صحتُه، وتغيَّر بدنه، ورقَّ جلده؛ {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145].
قال ابن مسعود: خرج كهيئة الفَرْخ، ليس عليه ريش.
ثم توالتْ نِعمُ الله ولطفُه على عبده، فأنبَتَ الله عندَه شجرةً من يقطين، شجرة القَرْع، فكان ورقُ تلك الشجرة غطاءً ناعمًا يظلل جسمَه، ويَقيه حرَّ الشمس، وجفافَ الهواء، حتى إذا رجعتْ إليه صحتُه، وعادتْ له عافيته، رجع إلى قومه الذين تركهم مغاضبًا لهم، وعاد يتمِّم مهمَّتَه الأولى، فدعاهم ودعاهم، فآمنوا كلُّهم أجمعون، فكانتْ عودته ودعوته بركةً عليهم ونجاة لهم، وكان أهل نينوى هم الأمَّةَ الوحيدة من أمم الأرض التي آمنتْ بنبيِّها دون أن يتخلَّف أحد منها؛ {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 147، 148].
وكان إيمانهم ذاك سببًا في كشف العذاب عنهم؛ {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: 98].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا إخوة الإيمان: وفي نبأ يونس - عليه السلام - وخبره عِبرٌ وعظات، ودروس ووقفات، منها: أن السر في نجاة يونس - عليه السلام - وكشف غمّته قد جاء مبينًا مزبورًا في القرآن: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144]، والتسبيح هنا ليس حالَ كونه في بطن الحوت فقط؛ وإنما هو حكاية عن حال يونس - عليه السلام - الدائِمة، فحياتُه كلها كانت تسبيحًا وطاعة وعبادة، فلمَّا سبَّح في بطن الحوت، كان تسبيحه في هذا المكان امتدادًا لتسبيحه في حياته السابقة.
ومِن عِبر القصة أيضًا: أنَّ الأعمال الصالحات في أيام الرَّخاء تُرافِق العبدَ في شدته، وتكون سببًا بعون الله في إزالة كربته، ورفْع محنته، ومِصداقُ ذلك قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لابن عباس: ((تعرَّف إلى الله في الرخاء، يعرفْك في الشدة))؛ رواه الترمذي.
فيونس - عليه السلام - عرَف ربَّه في رخائه، فعرفه ربُّه في شدته حين دعاه، وفي المقابل، عرَف فرعون ربَّه ودعاه في كربته عندما أدركه الغَرَق، فماذا كان الجواب؟ نَزَل جبرائيل - عليه السلام - سريعًا، لا لينقذَه؛ وإنما ليأخذَ من وحْل البحر ترابًا، ليدسَّه في فم فرعون؛ خشيةَ أن تدركه رحمةُ أرحم الراحمين.
ومن دروس القصة أيضًا: أن الإيمان مخرجٌ من الفتن، وسبب للنجاة من البلاء والإحن؛ فقد نجَّى الله عبدَه يونسَ مِن كرباته، ثم وعد فقال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88]، وحين آمن قوم يونس، كان ذاك الإيمان دافعًا عنهم سوءَ العذاب المنتظر؛ { إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
ومن فوائد القصة أيضًا: أهمية عبادة التسبيح، وأنها سببٌ لدفع الهمّ، واستدفاع الغَمّ، هذا ما نَطَق به الذِّكر الحكيم: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97، 98]، {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130].
وفي قصة يونس - عليه السلام - رسالةٌ لكل داعية ومربٍّ، ومصلِح وأب، ألا ييْئَسَ ولا يضيق مِن دعوته وتوجيهاته؛ فهذا يونس - عليه السلام - غاضَبَ قومَه حين جفوا دعوته، ثم عاد إليهم مرَّةً ثانية، وواصل مشروعه الأول، فكان نتيجته: آمن قومه أجمعون.
وفي هذا دلالة وإشارة أنَّ الدعوة والنصيحة والتوجيه ليستْ جولةً واحدة؛ بل هي جولة وجولات، فقد لا يكون للكلمة المشفِقة أثرٌ في مهدها، ولكن مع الصِّدق والصبر، يفتح الله - تعالى - للكلمات الناصحة مغاليقَ القلوب.
وفي دروس القصة أيضًا: أنَّ الصبر على البلاء ممَّا يَزيد العبدَ رفعةً عند ربِّه، ومقدارًا بين خلقه، فهذا يونس - عليه السلام - رفَع الله ذِكرَه بعد أن ابتلاه، فالتفَّ عليه قومه وآمنوا به، وصدَّقوا دعوته، وساروا على شريعته، وكثرةُ أتباع الأنبياء من جملة فضائلهم.
وفي قصَّة يونس - عليه السلام -: دليلٌ على القاعدة الأصولية المشهورة، وهي: ارتكاب أخف الضررين لدفْع أعلاهما، فإلقاء بعض أفراد السفينة، وإن كان فيه ضررٌ متحقِّق، إلا أنَّ فيه دفعًا لضرر أعلى، وهو هلاكهم جميعًا.
تلك - عبادَ الله - قصة وخبر النبي الكريم، والرجل الصالح، يونس ابن متى، وشيء من عِبَرها وإشاراتها، نسأل الله - تعالى - أن يسلكَ بنا سبيل أنبيائه، وأن يحشرنا في زمرتهم، ويجعلنا من أهل الاقتداء بهم.
صلوا بعد ذلك على أكرم المرسلين، وخير العالمين، النبي الأمين، كما أمركم ربُّكم - تعالى - فقال في كتابه المبين: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
المشاهدات 4224 | التعليقات 2

خطبة مميزة كمن كتبها
بارك الله فيه وأجزل له المثوبة


المفاضلة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين يونس بن متى عليه السلام
الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي
من درس: المفاضلة بين الأنبياء
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وأما ما يروى أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لا تفضلوني عَلَى يونس} وأن بعض الشيوخ قَالَ: لا يفسر لهم هذا الحديث، حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله، وهو في بطن الحوت، كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً، وهذا يدل عَلَى جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح {لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى} وفي رواية {من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب}
وهذا اللفظ يدل عَلَى العموم أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه عَلَى يونس بن متى، ليس فيه نهي الْمُسْلِمِينَ أن يفضلوا محمداً عَلَى يونس، وذلك لأن الله تَعَالَى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي فاعل ما يلام عليه، وقال تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87].
فقد يقع في نفس بعض النَّاس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إِلَى هذا المقام، إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] كما قال أول الأَنْبِيَاء وآخرهم، فأولهم آدم قد قَالَ: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23].
وآخرهم وأفضلهم وسيدهم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية على بن أبي طالب وغيره بعد قوله: {وجهت وجهي} إِلَى آخره، {اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت} إِلَى آخر الحديث، وكذا قال موسى عَلَيْهِ السَّلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:16] وأيضاً فيونس صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قيل فيه فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] فنُهي نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم، حيث قيل له: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فقد يقول من يقول: (أنا خير منه) وليس للأفضل أن يفخر عَلَى من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل فإن الله لا يحب كل مختال فخور.
وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: {إن الله أوحي إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد، ولا يبغي أحد عَلَى أحد} ، فالله تَعَالَى نهى أن يفخر عَلَى عموم المؤمنين، فكيف عَلَى نبي كريم، فلهذا قَالَ: {لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى} ، فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر عَلَى يونس.
وقوله: {من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب} ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصير أنقص، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم بل هو تقدير مطلق، أي من قال هذا فهو كاذب وإن كَانَ لا يقوله نبي كما قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] وإن كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال] اهـ.
الشرح:
ذكر المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ بعض التفاسير لحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى} وذكر أن بعض أصحاب الطرق أو بعض أدعياء العلم الباطن من مشايخ الصوفية الذين يدعون العلم الباطن -ولم أستطع أن أعثر عَلَى ترجمته- يقول في معنى هذا الحديث: أنا أفسر لكم معنى هذا الحديث، لكن بشرط أن تعطوني مالاً جزيلاً -وسوف أشرحه لكم بالشرح الإشاري الصوفي- ويسمون تفسيرهم للقرآن تفسيراً إشارياً باطنياً.
فيفسرون الآية عَلَى خلاف ما جاءت به، كما في كثير من تفاسيرهم، مثل تفسير روح المعاني وغيره، فوافقوا عَلَى ذلك فأعطوه مالاً جزيلاً، وقالوا له: اشرح لنا الحديث.
فقَالَ: معناه "إن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج".
فَقَالُوا: يستحق الشيخ أن نعطيه كل المال من أجل هذا المعنى العظيم، وهذا دليل عَلَى جهلهم بكتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبمعاني حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجهلهم بالسنة أيضاً.
وقد قال بعض العلماء: إن هذه اللفظة هي: {لا تفضلوني عَلَى يونس بن متى} لم تصح وإنما ورد ما يدل عَلَى معناها عند بعض العلماء، كما في الصحيح قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب} ، وقد اختلف العلماء في فهم هذا الحديث، فبعض العلماء فهم من هذا أنه يعني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي: لا أحد يقول: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير من يونس.
والبعض الآخر قالوا: إن المقصود من قوله: إني -أي المتكلم- خير من يونس بن متى، فقد كذب، ويقول الحافظ ابن حجر : الرواية الأخرى {من قَالَ: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب} هي في صحيح البُخَارِيّ وتدل عَلَى أن المقصود من قوله "إني" أي المتكلم، لأنه يقول: من قال "أنا"، فأي أحد من النَّاس يقول: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب، لكن يُقال له:
أولاً: لم تصح هذه الرواية.
وثانياً: عَلَى فرض أنها ثبتت، فإن هذا المعنى الذي فهمه بعض العلماء، ليس عَلَى إطلاقه، لكن عَلَى فرض ذلك فلا يكون تفسيره بأن قرب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه ليلة الإسراء والمعراج مثل قرب يونس، وهو في بطن الحوت، هذا المعنى باطل؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما اختص الملائكة قَالَ: وَمَنْ عِنْدَهُ [الأنبياء:19] وقَالَ: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّب [فاطر:10].
فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما عرج به إِلَى السماء كَانَ في موضع التكريم، وهناك ما يدل عَلَى أن العلو كلما كَانَ أكثر، كلما كَانَ فيه تكريم، وقرب من الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى عنده، ولهذا سمى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الملأ الأعلى بهذا الإسم، لأنهم أعلى من أهل الدنيا لقربهم منه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكما جَاءَ في الحديث الآخر {وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه} .
فالشاهد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وصل إِلَى ذلك المقام الأعلى الذي لم يصل ولن يصل إليه مخلوق قط، كَانَ هذا تكريماً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو في هذه الحالة وبهذا العمل أفضل من كل النَّاس الذين لم يصلوا إليه وكذلك الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لم يحظوا بأن يصلوا إِلَى هذه الدرجة وإلى هذه المكانة، فهذا تعظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو أفضل من يونس بن متى عليهما الصلاة والسلام.
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا يقل أحد: إني خير من يونس بن متى} ليس فيه منع تفضيل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، وإنما الذي فيه النهي بأن أحداً لايجوز له أن يفضل نفسه عَلَى يونس عَلَيْهِ السَّلام، بأن يقول: إن يونس فعل ما يلام عليه، وأنا لم أفعل ما ألام عليه، ومع ذلك فإن يونس عَلَيْهِ السَّلام قد استغفر وتاب، وقَالَ: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]. وفي قوله هذا دليل عَلَى أنه فعل ما يلام عليه، كما خاطب الله تَعَالَى نبيه بقوله: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48].
وكان سبب لوم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ليونس: أنه لما أمره أن ينذر قومه لم يصبر عَلَى أذاهم ولم يكن له العزم عَلَى مواجهتهم، وكذبوه إذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات:140-142]، فكان هذا الفعل سبباً للوم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له، وهذا دليل عَلَى أنه لم يكن من أولي العزم الذين قال الله تَعَالَى فيهم: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35] فأولوا العزم أفضل من يونس عَلَيْهِ السَّلام، وأفضل من آدم عَلَيْهِ السَّلام، من هذه الناحية؛ لأن الله تَعَالَى قال في حقه وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طـه:115] فآدم عَلَيْهِ السَّلام أيضاً لم يكن لديه عزم، ولذلك وقع في معصية الأكل من الشجرة، لكن هل معنى هذا أنه يجوز لأحدٍ من النَّاس أن يقول: إنه فعل ما يلام عليه، وأنا أفضل منه، لأني لم أفعل ما ألام عليه؟ لا يجوز لأحد ذلك.
أما قوله: سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] يذكر المُصْنِّف أن هذه العبارة يقولها كل عباد الله، قالها آدم عَلَيْهِ السَّلام: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف:23] معنى قوله ربنا ظلمنا أنفسنا، أي: إقرار منهما بالظلم، وأيضاً قد قالها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في حديث الاستفتاح {أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي} .
وقالها موسى عَلَيْهِ السَّلام: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص:16]، ويقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ إن الفخر محرم ومنهي عنه، ولا ينبغي للفاضل أن يفتخر عَلَى المفضول، فإذا كَانَ كذلك فمن باب أولى أن لا يفتخر المفضول عَلَى الفاضل!
وكيف يكون لأحدٍ من النَّاس كائناً من كَانَ في عبادته أو في ولايته أن يقول: إنه أفضل من يونس بن متى؟!
وقد تستغربون وتقولون: وهل يوجد أحد يقول: إنه أفضل من نبي من الأَنْبِيَاء؟!
نقول: نعم، هناك كثير من فرق وطوائف الصوفية يرون أن الولي أفضل من النبي فما بالكم بنبي الله يونس عَلَيْهِ السَّلام الذي ليس من أولي العزم! والذي ذكر الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عنه هذا الفعل ولامه عليه وقَالَ: وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48] يكون عندهم أقل بكثير جداً.
والخلاصة: أن الأرجح في معنى قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال إني خير من يونس بن متى فقد كذب} أنه ليس معناه من قَالَ: إن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل من يونس بن متى فقد كذب، لكن من قَالَ: أنا، أي: من قال عن نفسه ذلك: ويأتي هنا إشكال كما ذكر المُصْنِّف أخيراً وهو لو أن نبياً قال ذلك!!
فنقول: لا يمكن أن يقول أي نبي إنه أفضل من يونس بن متى عَلَى سبيل الفخر والانتقاص ليونس بن متى عَلَيْهِ السَّلام، فإن القول الذي قاله يونس قاله كل الأَنْبِيَاء حتى نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو أفضل الأَنْبِيَاء جميعاً.
قَالَ المُصْنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
[وإنما أخبر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيد ولد آدم لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأَنْبِيَاء قبله صلّى الله عليهم وسلم أجمعين، ولهذا أتبعه بقوله "ولا فخر" كما جَاءَ في رواية (وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به إِلَى ربه وهو مقرب معظم مكرم كمقام الذي ألقى في بطن الحوت وهو مُليم؟!
وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب، فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب، فانظر إِلَى هذا الإستدلال لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل عَلَى نفي علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية عَلَى علو الله تَعَالَى عَلَى خلقه التي تزيد عَلَى ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رَحِمَهُ اللَّهُ (محيط بكل شيء وفوقه)، إن شاء الله تَعَالَى] اهـ.
الشرح:
يقول المُصْنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: يأتي إشكال وهو قوله صلى الله علهي وسلم: وقوله: {أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ} مع القول بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن الفخر، وعن التفضيل، وأمر بالتواضع، والتفضيل حق وكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأَنْبِيَاء حق، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أنا سيد ولد آدم} حق، فكيف نجمع بين هذا وهذا؟
يقول: يكون الجمع بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يُعلم فضله، ولا يُعلم تفضيله عَلَى الأَنْبِيَاء إلا بالوحي، والوحي يأتينا عن طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو يُخبرنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك، فهذا من قبيل الإخبار، وعليه توضحه رواية (ولا فخر) وإن كَانَ فيها ضعفاً.
فقوله: (ولا فخر) أي لم أقل إني سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى سبيل الفخر، فإن الفخر منهي عنه، والأمر والحال والشأن كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا عباد الله تواضعوا حتى لا يفخر أحد عَلَى أحد} فليس قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أنا سيد ولد آدم} من الفخر، وإنما هو من قبيل الإخبار بالواقع وبالحقيقة الذي لا يمكن أن نعلمها إلا عن طريقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكما أخبر عن يَوْمَ القِيَامَةِ وما يكون فيها، ولا يعلم ذلك إلا بالخبر، فكذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سيد الناس، أي: أفضل النَّاس في ذلك الموقف.
وهذا يربط الكلام بما قلنا: في أول الحديث: إن يَوْمَ القِيَامَةِ أمر خاص وتفضيله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّاس فيه له خصوصية، ولهذا قَالَ: {أنا سيد ولد آدم يَوْمَ القِيَامَةِ} ، بينما لم يقل ذلك مطلقاً ولم يرد هذا اللفظ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا عن أصحابه مطلقاً، وإن كَانَ هو حق في ذاته.
ويقول راداً عَلَى الشيخ الضال: كيف لا يكون هناك فرق بين النبي الذي أسري به مكرماً معززاً مقرباً، وبين الممتحن المؤدب الذي التقمه الحوت تأديباً وعقوبة من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؟‍
فهذه من حذلقة الصوفية ومن إشارتهم التي يفسرون بها كتاب الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى ما يقتضيه الهوى لا عَلَى ما يقتضيه الدليل والنص الشرعي.
تنبيه: قَالَ المُصْنِّفُ [قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قَالَ: إني خير من يونس بن متى فقد كذب} ، فإنه لو قدر أنه كَانَ أفضل، فهذا الكلام يصبح نقصاً، فيكون كاذباً!!
وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، وكما مر بنا أنا نفضل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جميع الأَنْبِيَاء كما ثبت ذلك، لكنه هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقل أو غيره من الأنبياء: إني أفضل من فلان من الأنبياء، لأنهم متأدبون صلوات الله وسلامه عليهم، ومثلما نهانا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يفخر بعضنا عَلَى بعض، فإن الأَنْبِيَاء صلوات الله وسلامه عليهم لا يفخر بعضهم عَلَى بعض، مع أن التفضيل بين المؤمنين حاصل، والتفضيل بين الأَنْبِيَاء حاصل، وهذا هو المراد بهذه العبارة، والله أعلم.