يوم عرفة ١٤٤٥هـ
تركي بن عبدالله الميمان
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
إِنَّ الحَمْدَ لِلهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ في السِرِّ والنَّجْوَى؛ فَالتَّقْوَىتَدْفَعُ السُّوْءَ والبَلْوَى! ﴿وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ﴾.
أَيُّهَا المُسْلِمُون: مَا زِلْتُمْ تَتَقَلَّبُونَ في أَيَّامِ العَشْرِ المُبَارَكَةِ –أَعْظَمِ أَيَّامِ الدُّنْيَا-! فَهَنِيْئًا لِمَنْ اغْتَنَمَهَا بِجَمْعِ الحَسَنَات، وَتَكْفِيرِ السَّيْئَات، وَرَفْعِ الدَّرَجَات. قال شيخ الإسلام: (وَاسْتِيعَابُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالعِبَادَةِ لَيْلًا وَنَهَارًا؛ أَفْضَلُ مِنْ جِهَادٍ لَمْ يَذْهَبْ فِيهِ نَفْسُهُ وَمَالُهُ؛ لِلْأَخْبَارِ الصَّحِيحَةِ المَشْهُورَةِ).
وَهَا أَنْتُمْ مُقْبِلُونَ على أَعْظَمِ أَيَّامِ العَشْرِ: إِنَّهُ يَومُ عَرَفَة، ومَا أَدْرَاكَ مَا يَومُ عَرفةَ! إنَّه اجْتِمَاعٌ عَظِيمٌ لِذِكْرِ اللهِ وشُكْرِهِ وحُسْنِ عِبَادَتِهِ! قال ﷺ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِم المَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟!).
وأَقْسَمَ اللهُ بِيَومِ عَرَفَة: والعَظِيمُ لا يُقْسِمُ إِلَّا بِعَظِيْم! قال U: ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾، قال ﷺ: (اليَومُ المَشْهُود: يَوْمُ عَرَفَة).
كما أَقْسَمَ ﷻ بِقَوْلِهِ: ﴿وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ﴾، قال ابنُ عَبَّاس t: (الشَّفْعُ: يَومُ الأَضْحى، وَالوَتْرُ: يَومُ عَرَفَة).
وحتَّى نَسْتَفِيدَ مِنْ هَذَا اليَوْم؛ إِلَيْكُمْ عَدَدًا مِن الوَصَايَا الثَّمِيْنَة؛ لاغْتِنَامِ لحَظَاتِهِ الشَّرِيْفَةِ، وأَوْقَاتِهِ النَّفِيْسَةِ؛ وَمِنْ تِلْكَ الوَصَايَا:
أَوَّلاً: التَّفرُّغُ لِلْعِبَادَةِ، وتَرْكُ المَشَاغِلِ والأَعْمَالِ، وتَأْجِيْلُهَا إلى يَوْمٍ آخِر؛ فَهُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ في السَّنَةِ، وَلا تَدْرِي: هَلْ سَتَبْقَى إلى العَامِ القَابِلِ، أَمْ أَنَّهُ سَيَبْقَى بَعْدَك؟!
ثَانِيًا: صِيَامُ هذا اليَومِ (لِغَيرِ الحَاج)؛ قال ﷺ: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ أَحْتَسِبُ على اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ!).
وَيَنْبَغِي حَثّ "الأَهْلِ والأَوْلادِ" على صِيَامِ هذا اليَومِ؛ قال ابن عثيمين: (مَنْ صَامَ يَوْمَ عَرَفَة، وَعَلَيْهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَان؛ فَصِيَامُهُ صَحِيح، لَكِنْ لَوْ نَوَىَ أَنْ يَصُومَ هَذَا اليومَ عَنْ قَضَاءِ رَمَضَان؛ حَصَلَ لَهُ الأَجْرَان: أَجْرُ يَومِ عَرَفَة، مَعَ أَجْرِ القَضَاء).
ثَالِثًا: التَّكبِير؛ ويَبدأُ التَّكبِيرُ المُقيَّدُ (الَّذِي يَكُونُ بَعدَ الصَّلَوات): مِنْ فَجْرِ يَومِ عَرَفة، إلى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيق.
وأَمَّا التَّكْبِيرُ المُطْلَقُ (الَّذِي يَكُوْنُ في كُلِّ وَقْت)؛ فَلَا يَزَالُ مَشْرُوعًا مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ.
رَابِعًا: الإِكْثَارُ مِنَ الذِّكْرِ والدُّعَاء؛ فَدُعَاءُ يَوْمِ عَرَفةَ؛ لَهُ مَزِيَّةٌ على غَيْرِه! قال ﷺ: (خَيْرُ الدُّعَاءِ: دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
قال البَاجِي: (قَوْلُه: "خَيْرُ الدُّعَاءِ: دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ": يَعْنِي أَكْثَرُ الذِّكْرِ بَرَكَة، وأَعْظَمُهُ ثَوَابًا، وَأَقْرَبُهُ إِجَابَة).
وَيَوْمُ عَرَفَة: تَذْكِيْرٌ بِأَعْظَمِ نِعْمَةٍ؛ إِنَّهَا (نِعْمَةُ الإِسْلَامِ)، الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ لِلْأَنَامِ!
جَاءَ رَجُلٌ مِنَ اليَهُودِ إِلَى عُمَرَ t؛ فقال: (يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ اليَهُودِ؛ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا!). قال: (وَأَيُّ آيَةٍ؟) قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْوَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾؛ فَقَالَ عُمَرُ: (إِنِّي لَأَعْلَمُ اليَومَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ:نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ بِعَرَفَاتٍ، في يَوْمِ جُمُعَةٍ).
والأُضحِيَةُ في يَومِ العِيد؛ شَعِيرَةٌ عَظِيمَةٌ، وسُنَّةٌ مُؤَكَّدَة، وَتُجْزِئُ عَنِ الرَّجُلِ وأَهْلِ بَيْتِهِ؛ وقد (ضَحَّى النَّبِيُّ ﷺ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّر).
وَكُلَّمَا كَانَتِ الأُضْحِيَةُ أَكْمَلَ في صِفَاتِهَا، وأغْلَى ثَمنًا؛ فَهِيَ أَحَبُّ إلى الله، وأَعْظَمُ أَجْرًا.
والحِكْمَةُ مِنَ الأُضَحِيَةِ: بَيَّنَهَا اللهُ بِقَوْلِه: ﴿لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾. قال السِّعْدِيُّ: (هَذَا حَثٌّ وتَرْغِيبٌ على الإِخْلَاصِ في النَّحْرِ، وَأَنْ يَكُونَ القَصْدُ وَجهَ اللهِ وحْدَهُ -لا فَخْرًا ولا رِيَاءً ولا عَادة-، وَهَكَذا سَائِرُ العِباداتِ؛ إِنْ لَمْ يَقتَرِنْ بِهَا الإِخلاصُ وتَقوَى اللهِ؛ كانَتْ كالقُشُورِ الَّذِي لا لُبَّ فيهِ، والجَسَدِ الَّذِي لا رُوحَ فيهِ!).
أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الحَمدُ للهِ على إِحسَانِهِ، والشُّكرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.
أَمَّا بَعْد: فَإِنَّ آخِرَ هَذِهِ العَشْرِ المُبَارَكَة، هُوَ عِيْدُ الأَضْحَى؛ قال ﷺ: (إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَوْمُ النَّحْرِ).
وَعِيدُ الأَضْحَى: مِنْ أَخَصِّ مَا تَمَيَّزَ بِه المُسْلِمُونَ عَنْ غَيْرِهِم! قال ﷺ: (إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا).
والأَعيَادُ في الإِسلام: شَعِيْرَةٌ لا تَقْبَلُ الزِّيَادَة، وَهِيَ أَعْيَادُ شُكْرٍ وَذِكْر! قال U: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ﴾.
وَأَمَّا أَعيَادُ المُشرِكِين: فَهِيَ غَفْلَةٌ وَعِصْيَان، لا تَلِيْقُ بِأَهْلِ الإِيمَان! وكَانَ لِأَهلِ الجَاهِلِيَّةِ يَومَانِ فِي السَنَةِ يَلعَبُونَ فِيهِمَا؛ فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺالمَدِينَةَ؛ قال: (قَدْ أَبْدَلَكُمُ اللهُ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الفِطْرِ، وَيَوْمَ الأَضْحَى).
وَيُسَنُّ لِلْمُسْلِمِ: الإِمسَاكُ عَنِ الأَكلِ في عِيدِ الأَضْحَى، حَتَّى يُصَلِّيَ العَيْد؛ لِيَأْكُلَ مِنْ أُضْحِيَتِهِ.
وَيُشْرَعُ التَّجَمُّلُ في عِيْدِ الأَضْحَى، والخُرُوْجُ مَاشِيًا إِنْ أَمْكَنَ، والإِكْثَارُ مِنَ التَّكْبِيرِ حَتَّى يَحْضُرَ الإِمَامُ.
وَيُسَنُّ أَنْ يَذْهَبَ لِلْعِيدِ في طَرِيْقٍ: ويَرْجِعَ مِنْ طَرِيْقٍ آخَر، كُمَا هِيَ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ.
وَأَيَّامُ التَّشْرِيْقِ: هِيَ الأَيَّامُ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ عِيْدِ الأَضْحَى؛ قال ﷺ: (أَيَّامُ التَّشْرِيْقِ: أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لله). قال ابْنُ رَجَب: (فَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ يَجْتَمِعُ فِيْهَا لِلْمُؤْمِنِينَ: نَعِيمُأَبْدَانِهِمْ بِالأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَنَعِيمُ قُلُوْبِهِمْ بِالذِّكْرِوَالشُّكْرِ؛ وَبِذَلِكَ تَتِمُّ النِّعَم!).
فَاغتَنِمُوا مَوَاسِمَ الخَيرَات: وَاسْتَكثِرُوا مِنَ البَرَكَات، وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، واقْتَدُوا بِسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ، وأَحْسِنُوا في عَمَلِكُمْ؛ لِتَنَالُوا رَحْمَةَ رَبِّكُمْ! ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ المُحْسِنِينَ﴾.
*******
* اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنَ المقبولين في هذه العَشْرِ، وارزُقْنَا عَظِيمَ الثوابِ والأَجر.
* اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.
* اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.
* اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ (وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ) لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.
* عِبَادَ الله: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.
* فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ﴿وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾.
قناة الخُطَب الوَجِيْزَة
https://t.me/alkhutab
المرفقات
1718187768_يوم عرفة.pdf
1718187768_يوم عرفة (نسخة مختصرة).pdf
1718187769_يوم عرفة (نسخة للطباعة).pdf
1718187769_يوم عرفة.docx
1718187770_يوم عرفة (نسخة للطباعة).docx
1718187770_يوم عرفة (نسخة مختصرة).docx