يوم الفرقان

راكان المغربي
1445/09/11 - 2024/03/21 15:21PM

 

الخطبة الأولى:

أما بعد:

في مثلِ هذا اليومِ من السنةِ الثانيةِ للهجرة، كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد خرجَ من المدينةِ إلى بدر، ليكتبَ المجد، ويُسجلَ هو وأصحابُه أعظمَ نصرٍ للإسلامِ والمسلمين.

خرجَ صلى الله عليه وسلم ليلةَ الثاني عشر من رمضان، قاصداً قافلةَ قريشٍ التجاريةَ العائدةَ من الشامِ محملةً بالبضائعِ والأموال. قصدها ليستردَّ حقوقَ المسلمين المستضعفين الذين أُخرجوا من ديارِهم وأموالِهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا ربُّنا الله.

وتخلف كثيرٌ من الصحابةِ عن الخروج معه، لأنهم ظنّوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لن يلقى حرباً، وإنما سيصيبُ العيرَ فقط، ولذلك لم يعاتبْ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحداً تخلف عن الغزوة.

فخرج المسلمون في ثلاثِمائةٍ وبضعةَ عشرَ رجلاً، قليلٌ عددُهم، محدودٌ عتادُهم، فلم يكن معهم إلا سبعون بعيراً، يَتَعَاقَبُونَهَا كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَلَى بَعِيرٍ، وأما عُدّةُ الخيلِ فلم يكن معهم إلا فرسٌ واحدٌ فقط، يمتطيه المقدادُ بن الأسود رضي الله عنه.

علمَ أبو سفيانَ رئيسُ قافلةِ قريشٍ بخروجِ المسلمين، فاستنفر قريشا، وأرسل ضَمْضَمَ بنَ عَمْرٍو الغِفَارِيَّ، "فَخَرَجَ ضَمْضَمُ سَرِيعًا حَتَّى أَتَى مَكَّةَ، فَصَرَخَ بِبَطْنِ الوَادِي وَاقِفًا عَلَى بَعِيرِهِ، وَقَدْ قَطَعَ أنْفَ بَعِيرِهِ، وَحَوَّلَ رَحْلَهُ، وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ في أَصْحَابِهِ، لَا أَرَى أَنْ تُدْرِكُوهَا، الغَوْثَ الغَوْثَ".

فاستنفرت قريشٌ رجالَها، وأعدّت عُدَّتَها، وخرجت في بدايةِ مسيرِها بألفٍ وثلاثِمائةٍ وتسعةَ عشرَ مقاتلاً، وكان معهم مئةُ فرسٍ، وستُّمائةِ درعٍ، وجمالٌ كثيرةٌ لا يُعرفُ عددُها، يقود جيشُهم أبو جهلٍ بنُ هشامٍ زعيمُ الكفرِ والإجرامِ.

أما أبو سفيانَ فقد غيّرَ خطةَ سيرِه، وسار بطريقٍ آخرَ وأسرعَ المسير، حتى أصبح بمنجى من جيشٍ المسلمين، وحين أيقن بالنجاة، أرسل إلى قريش برسالةٍ يقول فيها: "إِنَّكُمْ إِنَّمَا خَرَجْتُمْ لِتَمْنَعُوا عِيرَكُمْ ورِجَالَكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، فَقَدْ نَجَّاهَا اللَّهُ، فَارْجِعُوا".

"فَلَمَّا قَالَ لَهُمُ الرَّسُولُ ذَلِكَ، هَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ طَاغِيَةُ قُرَيْشٍ أَبُو جَهْلٍ لَعَنَهُ اللَّهُ: وَاللَّهِ لَا نَرْجعُ حَتَّى نَرِدَ بَدْرًا، فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فنَنْحَرَ الجَزُورَ، وَنُطْعِمَ الطَّعَامَ، ونَسْقِيَ الخَمْرَ، وتَعْزِفَ عَلَيْنَا القِيَانُ، حَتَّى تَسْمَعَ بِنَا العَرَبُ وبِمَسِيرِنَا وَجَمْعِنَا، فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا أَبَدًا بَعْدَهَا".

وفي ذلك يقول الله جل وعلا: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

فأكمل جيشُ المشركين سيرَهم إلى بدر، إلا ما كان من بني زُهرَة، الذين قام سيدُهم الأخنسُ بن شريقٍ فحثهم على الرجوعِ فرجعوا معه، وكانوا مئةً أو ثلاثَمائةَ رجلٍ.

وحين علم النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقدومِ جيشِ المشركين مدججاً بالسلاحِ والعتادِ، عقد مجلساً استشارياً مع الصحابة، ليسمعَ آراءَهم في ملاقاةِ المشركين، وذلك أنهم لم يستعدوا للقتالِ الاستعدادَ الكاملَ حين خرجوا للعير. وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يريد أن يسمعَ بالخصوصِ رأيَ الأنصارِ الذين بايعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم على حمايتِه ما دامَ في المدينة، وهم الآنَ خارجَها.

فقام أبو بكرٍ وعمرُ والمقدادُ رضي الله عنهم من المهاجرين، فتكلموا وأحسنوا، وكان مما قال المقدادُ رضي الله عنه: "لَا نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا، وَلَكُنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ، وَخَلْفَكَ".

ثُمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أيُّهَا النَّاسُ"، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الأَنْصَارَ، فَفَهِمَتِ الأَنْصَارُ أَنَّهُ يَعْنِيهِمْ، فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ -رضي اللَّه عنه- سَيِّدُ الأَنْصَارِ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟

قَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَجَلْ"،

فَقَالَ سَعْدٌ: فَقَدْ آمَنَّا بِكَ، وَصَدَّقْنَاكَ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الحَقُّ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فنَحْنُ مَعَكَ، فَوَالذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لَوِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا البَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا، إِنَّا لَصُبُرٌ في الحَرْبِ، صُدُقٌ في اللِّقَاءِ، وَلَعَلَّ اللَّهَ يُرِيَكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.

فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِقَوْلِ سَعْدٍ -رضي اللَّه عنه-، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: "سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَاللَّهِ لَكَأَنِّي الآنَ أنْظُرُ إِلَى مَصَارع القَوْمِ".

فسار الجيشانِ واجتمعوا في بدر، ونزل المسلمون بالعُدوةِ الدنيا، والمشركون بالعُدوةِ القصوى، وسبق المسلمون إلى آبارِ بدرٍ فسيطروا عليها.

وفي ليلةِ المعركةِ أنزل اللهُ مطراً، كان خفيفا جهةَ المسلمين، غزيراً شديداً جهةَ المشركين، كما أنزل اللهُ السكينةَ والأمنَ بالنعاسِ على المسلمين، وفي ذلك يقول سبحانه: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ).

فبات الصحابةُ نائمين مطمئنين، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول عنه عليٌّ رضي الله عنه يصفُ حالَه تلك الليلة: "وَلقدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِم، إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- تَحْتَ شَجَرَةٍ يُصَلِّي، وَيَبْكِي، حَتَّى أصْبَحَ".

أصبح المسلمون يومَ السابع عشرَ من رمضان، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم قد أمرَ أصحابَه بالفطرِ ليكونَ أقوى لهم.

وبدأ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتعبئةِ الجيشَ، وترتيب الصفوفَ، فمرَّ بِسَوَادِ بنِ غَزِيَّةَ رضي الله عنه، خارجاً عن الصفِّ، فقَالَ له: "اسْتَوِ يَا سَوَادُ"، فَقَالَ سَوَاد: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَوْجَعْتَنِي، وَقَدْ بَعَثَكَ اللَّهُ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ فَأَقِدْنِي -أي أنه طلب القصاص-، فكشَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- عَنْ بَطْنِهِ الشَّرِيفِ، وَقَالَ: "اسْتَقِدْ"، فَاعْتَنَقَهُ، فَقَبَّلَ بَطْنَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا يَا سَوَادُ؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! حَضَرَ مَا تَرَى، فَأَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ العَهْدِ بِكَ أَنْ يَمَسَّ جِلْدِي جِلْدَكَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- بِخَيْرٍ.

وحرّضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه على القتال، وبشرّهم بحسنِ العاقبة، فكان مما قال لهم: (قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ)، وقال لهم: (وَالذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يُقَاتِلُهُمُ اليَوْمَ رَجُلٌ فيقْتَلُ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ، إِلَّا أدْخَله اللَّهُ الجَنَّةَ).

وانطلقت الاستغاثاتُ تستمطرُ مددَ السماء، فاجتهد النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الدعاءِ ومدَّ يدَه مستقبلاً القبلةَ حتى سقطَ رداؤُه عن منكبِه الشريف، وكان من دعواته صلى الله عليه وسلم قوله: (اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا، تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَّ فنصْرَكَ الذِي وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ أَحِنْهُمُ الغَدَاةَ). وكانت نتائجُ الاستغاثاتِ مددٌ من ملائكةِ السماء، وفي ذلك يقول الله تعالى: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَخَذَ حَفْنَةً مِنَ الحَصْبَاءِ فَاسْتَقْبَلَ بِهَا الكُفَّارَ وَقَالَ: "شَاهَتِ الوُجُوهُ" ثُمَّ رَمَى بِهَا فِي وَجْهِ القَوْمِ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا امْتَلَأَتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحَصْبَاءَ، وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}.

واندلعت شرارةُ المعركةِ بالمبارزةِ بين ثلاثةٍ من المسلمين مع ثلاثةٍ من المشركين، فبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وكانت الغلبةُ لحمزةَ رضي الله عنه، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَليدَ بنَ عُتْبَةَ، وكانت الغلبةُ لعليٍّ رضي الله عنه،  وَأَمَّا عُبَيْدَةُ بن الحارث فبارزَ عتبةَ بن ربيعة، فَاخْتَلَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ ضَرْبَتَانِ، فأثْخَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، ثُمَّ كَرَّ حَمْزَةُ وَعَلِيٌّ عَلَى عُتْبَةَ فَقتَلَاهُ، وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ، ولم يلبثْ طويلاً حتى ماتَ شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.

وبذلك اشتعل لهيبُ المعركةِ، وتلاحمَ الصفانِ، وتطايرتِ الرؤوسُ، وتمزقتِ الأشلاءُ، وتدفقتِ الدماءُ، وبرزت بطولاتُ المسلمين، وكان بطلُ الأبطالِ يومئذ هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، إذ يقولُ عليٌّ رضي الله عنه: " لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَنَحْنُ نَلُوذُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَهُوَ أَقْرَبُنَا إِلَى العَدُوِّ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بَأْسًا". وبرزت بطولاتُ سعدٍ الرامي، وأبي عبيدةَ الشجاعِ، والزبيرِ المقدامِ، وغيرِهم من الصحبِ الكرام.

ومن بطولاتِ الصحابةِ ما حكاه عبدُالرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه عن غلامينِ صغيرينِ من الأنصار، فيقول: " بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ، فنَظَرْتُ عَنْ يَمِيني وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمُّ! هَلْ تَعْرِفُ أَبا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، مَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ -رضي اللَّه عنه-: فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ.

قَالَ: فَغَمَزَنِيَ الآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَجُولُ بَيْنَ النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الذِي تَسْأَلَانِي عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ، فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، حَتَّى قَتَلَاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- فَأَخْبَرَاهُ.

وَكَانَ الفَتَيَانِ هما مُعَاذُ بنُ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذُ بنُ عَمْرِو بنِ الجَمُوحِ، رضي الله عنهم.

يقول عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنْ يُلْتَمَسَ أبو جهل فِي الْقَتْلَى... وَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ فَعَرَفْتُهُ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنقهِ، ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟

قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي! أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ، أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ اليَوْمَ؟ قُلْتُ: للَّهِ وَلِرَسُولهِ. فقَالَ: لقدِ ارْتَقَيْتَ مُرْتَقًى صَعْبًا يَا رُوَيْعِيَّ الْغَنَمِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رضي اللَّه عنه-: ثُمَّ احْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ جِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ.

 

وهكذا مالت المعركةُ لصالحِ المسلمين، وحلَّ العذابُ بالكافرين، فقُتِلَ منهم سبعون رجلاً -عامّتُهم من الزعماءِ والكبراءِ-، وأُسرَ سبعون آخرون، وأما المسلمون فلم يُستشهدْ منهم سوى أربعةَ عشرَ رجلاً.

(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)

 

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

في بدرٍ أرادَ البشرُ أمراً، وأراد ربُّ البشرِ أمراً آخراً. كانت إرادةُ المسلمين المالَ والغنيمةَ، وكانت إرادةُ اللهِ إحقاقَ الحقِّ وإبطالَ الباطلِ، وقطعَ دابرِ الكافرين.

(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).

وبإنفاذِ اللهِ لإرادتِه صارَ هذا اليومُ هو يومُ الفرقانِ كما سمّاه الله في كتابِه حقَّا وصِدْقاً، فكان يومُ بدرٍ نصراً حاسماً، وفوزاً مبيناً، وفرقاً بين الحقِّ والباطلِ، كان ظهوراً لشعاع ِالإسلامِ، ونورِ الهدى الذي نلتمسُه إلى يومِنا هذا، وكان محقاً للكفرِ، وتكبيتاً لأهلِه.

وإن مثلَ هذا النصرِ العظيمِ لا يمكن أن يتأتَّى إلا ببذلِ الجهدِ، واستفراغِ الوُسعِ، وتقديمِ التضحياتِ في سبيل ِإعلاءِ كلمةِ الله. والعاقبةُ للمتقين، والنصرُ للمؤمنين، والخزيُ على الكافرين.

(قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ)

اللهم يا مولانا، يا نعم المولى ويا نعم النصير، تول إخواننا في غزة، وانصرهم نصرا مبينا

اللهم كن لهم مؤيدا ونصيرا، وظهيرا ومعينا.

ربنا أفرغ عليهم صبرا وثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين.

 

المرفقات

1711023924_يوم الفرقان.docx

1711023924_يوم الفرقان.pdf

المشاهدات 527 | التعليقات 0