يوم الجمعة وإعادة بناء الفرد والمجتمع
د. سلطان بن حباب الجعيد
أما بعد:
اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، حتى تمسِكوا بالوسيلةِ التي تصِلُكم بربِّكم، فتُفلِحوا، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [المائدة: ٣٥].
أيُّها الناسُ: إنَّ ليومِ الجمعةِ فضائلَ ومزايا عن بقيةِ الأيامِ لا تخفى على كلِّ مسلمٍ، فقد أضحتْ من المعلومِ من الدينِ بالضرورةِ، لوُرودِ النصوصِ بها الواضحةِ والجليَّةِ من جهةٍ، ولتعاقُبِ تعظيمِ المسلمين له جيلاً بعد جيلٍ، من لدُن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصحابتهِ الكرامِ رضي اللهُ عنهم، إلى يومِنا هذا.
فقد اختاره اللهُ واصطفاهُ وحباهُ، بأنْ جعلهُ اليومَ الذي خُلقَ فيه آدمُ عليه السلامُ، واليومَ الذي فيه أُدخِلَ إلى الجنةِ، واليومَ الذي فيه أُخرِجَ منها ، وكذلك هو اليومُ الذي تقومُ فيه الساعةُ.
جاءَ في صحيحِ مسلمٍ، عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “خيرُ يومٍ طلَعَتْ عليهِ الشمسُ يومُ الجمعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُدخِلَ الجنَّةَ، وفيه أُخرِجَ منها، ولا تقومُ الساعةُ إلا في يومِ الجمعةِ”.
وهو بهذه الفضائلِ والمزايا، أصبح شعاراً للمسلمين، ويومَهم الذي يمتازون به عن سائرِ الأممِ التي سبقتهم.
جاءَ في صحيحِ مسلمٍ، عن حذيفةَ بنِ اليمانِ رضي اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “أضلَّ اللهُ عن الجمعةِ مَن كان قبلَنا، فكان لليهودِ يومُ السبتِ، وكان للنصارى يومُ الأحدِ، فجاءَ اللهُ بنا، فهدانا اللهُ ليومِ الجمعةِ، فجعلَ الجمعةَ والسبتَ والأحدَ، وكذلك هم تبعٌ لنا يومَ القيامةِ، نحن الآخرونَ من أهلِ الدنيا، والأوَّلونَ يومَ القيامةِ، المقضي لهم قبلَ الخلائقِ”. فالحمدُ للهِ الذي هدانا، وما كُنَّا لنهتدي لولا أنْ هدانا اللهُ.
أيها الإخوةُ الكرامُ: إن يوماً بهذا الفضلِ والاصطفاءِ من اللهِ، جديرٌ بأنْ نُعمِلَ عقولَنا، لنتدبرَ أسرارَهُ وحِكَمَهُ، لأنَّ ربَّنا الحكيمَ؛ لا يكونُ اختيارُهُ واصطفاؤهُ إلا بعلمٍ.
ونحن مهما أجَلْنَا فكرَنا في أحكامِ الشرعِ وأيامِه وتشريعاتِه، سنكتشفُ في كلِّ مرةٍ من وجوهِ الحِكَمِ، ما يُبهِرُ العقولَ، ويَهدي القلوبَ، ويزيدُ المؤمنَ إيماناً؛ بأنَّ هذا الدينَ من لَدُن حكيمٍ خبيرٍ.
فَهَيَّا لنُبحرَ، أيها السادةُ، في رحلةِ اكتشافٍ لبعضِ أسرارِ يومِنا هذا العظيمِ، لنجتازَ بذلك ما دَأَبْنا على قولِهِ ومعرفتِهِ في مثلِ هذه الموضوعاتِ، عسى أنْ نُضيفَ إلى معارفِنا شيئاً جديداً، ونرتقي بثقافتِنا الشرعيةِ.
إن يومَ الجمعةِ ليس يوماً يؤدي فيه المسلمُ صلاةً مختلفةً عن سائرِ صلواتِ الأسبوعِ، ثم يعودُ أدراجَهُ إلى بيتِه، بل هو يومٌ جُعل وسيلةً لمقاصدَ ساميةٍ وعظيمةٍ، ومنها:
أنه اليومُ الذي تتجلَّى فيه براعةُ الإسلامِ في شموليتِه واعتدالِه، وقدرتِه العجيبةِ على بناءِ الفردِ والمجتمعِ، والتعاملِ مع كافةِ عناصرِهما المكوِّنةِ لهما، الروحيةِ والجسديةِ والعقليةِ والحياتيةِ، بتوازنٍ واعتدالٍ، وشمولٍ وكمالٍ.
ففي يومِ الجمعةِ، يتجلَّى أنَّ الإسلامَ ليس دينًا موغِلًا في الفردانيةِ، كحالِ المجتمعاتِ الرأسماليةِ التي قدَّست وعظَّمت من شأنِ الفردِ، وعزَّزت من أنانيَّتِه وأطماعِه، فلم يَعُدْ يشعرُ بمن حولَه، فضَعُفَتْ أو تلاشت في تلك المجتمعاتِ الروابطُ الاجتماعيةُ. وكذلك ليس هو دينًا موغِلًا في الجماعيةِ، التي يتلاشى فيها الفردُ ويغيبُ ويُسحق، ويستحيل رقمًا من الأرقامِ، فلا يشعرُ بقيمتِه، وتغيبُ مواهِبُه، وتُحاصر رغباتُه، كحالِ المجتمعاتِ الشيوعيةِ وغيرها.
بل هو دينٌ أولى الفردَ عنايةً خاصةً، وجعل صلاحَهُ طريقًا لصلاحِ المجتمعِ، فهو مُخاطَبٌ بعينِه، ولذلك عُرِفَ في دينِنا ما يُسمَّى بفروضِ الأعيانِ، ومنها صلاةُ الجمعةِ التي أوجبها اللهُ على كلِّ مسلمٍ، وأُمرَ فيها بالتطهُّرِ، والإقبالِ على ربِّه في هذا اليومِ، والانشغالِ بذِكرِه وتلاوةِ كلامِه. ثم هو في الوقتِ ذاته يُمارسُ هذه العبادةَ الفرديةَ في جوٍّ جماعيٍّ، فقد شُرِطَ ليومِ الجمعةِ الاجتماعُ والعَدَدُ، فيرى المسلمُ إخوانَه من الأحياءِ المجاورةِ، فيكونُ في ذلك فرصةً للتعارفِ والتقارُبِ والتزاوُرِ والتعاونِ، وهذا ما فرَّط فيه للأسفِ الكثيرُ من المسلمين.
وفي يومِ الجمعةِ، تتجلَّى عنايةُ الإسلامِ بالفردِ بجميعِ عناصرِه، دونَ أن يُغْفَلَ منها شيءٌ. فقد اهتمَّ بجانبِه الماديِّ ومظهرِه وطهارتِه، فأمرَه بالاغتسالِ، والتطهُّرِ، والتطيُّبِ، ولبسِ الجديدِ والنظيفِ. واهتمَّ أيضًا بروحِه وقلبِه، فهو اليومُ الذي وُعِدَ فيه المسلمُ بمغفرةِ ذنوبِه، ورُغِّبَ فيه بكثرةِ العبادةِ لربِّه، والدعاءِ له، ففيهِ ساعةٌ لا يُصادفُها المسلمُ داعيًا إلا استُجيبَ له، وكم لهذه الأعمالِ والعباداتِ في هذا اليومِ من أثرٍ على صلاحِ قلبِ العبدِ وزكاةِ نفسِه؟!
واهتمَّ كذلك بعقلِه وفكرِه، فهو اليومُ الذي شُرِعت فيه الخطبةُ، وأوجبَ عليه سماعَها، وحُرِّم عليه الانشغالُ عنها حتى بردِّ السلامِ وتشميتِ العاطسِ ومسِّ الحصى، فينهلُ عقلُه من المنبرِ كثيرًا من المعاني والقيمِ والمفاهيمِ والتصوراتِ. فيا للهِ ما أعظمَ مسؤوليةَ الخطيبِ، وهو المَعْنيُّ بمخاطبةِ عقولِ المسلمينَ في كلِّ أسبوعٍ، والارتقاءِ بوعيِهم وثقافتِهم، وما أعظمَ تفريطَه إذا جعلَ منها مهمةً روتينيةً، يُكرِّرُ فيها كلامًا لا يبني عقولًا، ولا يُزكِّي نفوسًا، ولا يردعُ شهوةً، ولا يرفعُ شبهةً.
ولك أن تعرفَ الآنَ، أنَّ اللهَ بأحكامِ هذا اليومِ وآدابِه، أرادَ أن يُصلحَ شأنَك كلَّه، ويجعلَ منك فردًا زكيًّا في بدنِك وهندامِك، وفي روحِك وقلبِك، وفي عقلِك وتفكيرِك، وهو ما سيقودُ إلى مجتمعٍ قد صلحَ في كلِّ جوانبِه، أيضًا؛ لأنَّ الفردَ هو لبنةُ المجتمعِ.
وفي يومِ الجمعةِ، تتجلَّى عنايةُ الإسلامِ بأمرِ الدنيا والآخرةِ على حدٍّ سواءٍ، فلا تعارُضَ بينهما، فيجبُ العملُ لكلاهما. فقد أُمِرَ المؤمنُ في هذا اليومِ بسعيَيْن: الأولُ لذِكرِ اللهِ والصلاةِ، والثاني لابتغاءِ فضلِ اللهِ وطلبِ رزقِه، ولكن دونَ أن تطغى الدنيا على الآخرةِ. فأعادَ الاهتمامَ بهما، وفي ذاتِ الوقتِ أعادَ ترتيبَهما في الأهميةِ والأولويةِ، فللمسلمِ أن يسعى ويكسبَ، ولكن إذا سمعَ النداءَ ليومِ الجمعةِ فعليه أن يسعى لذِكرِ اللهِ تاركًا الدنيا وراءَه، غيرَ منشغلٍ بها عنه. قال اللهُ تعالى عن هذا التوازنِ في هذا اليومِ بين أمرِ الدنيا والآخرةِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الجمعة: ٩-١٠].
فيا إخوةَ الإسلامِ، من وحيِ الجمعةِ، نعلمُ أنَّ اللهَ أرادَ للمجتمعاتِ المسلمةِ، فردًا وجماعةً، أن تكونَ حضاريةً وأنيقةً في جوانبِها الماديةِ، ومؤمنةً وأخلاقيةً في جوانبِها الدينيةِ، ومُفكِّرةً ومستقلةً بتفكيرِها في جوانبِها العقليةِ والثقافيةِ، وعاملةً ومنتجةً في جوانبِها الحياتيةِ والاقتصاديةِ.
فما أعظمَه من يومٍ، وما أعظمَه من دينٍ، جاء لصلاحِ الدنيا والآخرةِ.
أقولُ قولي هذا …
(الثانيةُ):
وبعد:
أيها الإخوةُ الكرامُ، هذه بعضُ جوانبِ عظمةِ هذا اليومِ وفضلِه، ويجبُ علينا أن نُعيدَ لهذا اليومِ تعظيمَه في نفوسِنا، فقد ضعفَ هذا التعظيمُ، واستحالَ هذا اليومُ عندَ كثيرٍ من المسلمينَ ــ إلا من رحمَ اللهُ ــ إلى يومٍ تُؤدَّى فيه الصلاةُ، بتثاقلٍ، ينتزعُ الواحدُ نفسَه من فراشِه انتزاعًا، ويأتي للصلاةِ متأخرًا قد فاتَه فضلُ التبكيرِ، ويجلسُ بجسدِه وعقلُه سارحٌ في أوديةِ الدنيا، لا يعقلُ مما قالَ الخطيبُ شيئًا، ثم ينصرفُ راجعًا إلى بيتِه.
ولذلك ليس بمستغربٍ، أن تضعُفَ ثمراتُ هذا اليومِ ومقاصدُه، في أنفسِنا ومجتمعِنا، فلا النفوسُ أخذت بحظِّها الوافرِ من التزكيةِ، ولا الروابطُ الاجتماعيةُ تأكَّدت وشدَّ بعضُها بعضًا، ولا العقولُ نمت وارتقت، ولا الحياةُ قامت على سوقِ النشاطِ والعملِ.
فلنُعِدْ لهذا اليومِ حظَّه من التوقيرِ والتقديرِ والاهتمامِ، حتى يُعيدَ إلينا ما فقدناه في أنفسِنا وعقولِنا ومجتمعِنا.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا …