يوم الجمعة، فضائله وبعض أحكامه.
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ فاطرِ الأرضِ والسمواتِ، مُنْشِئِ الأكوانِ، وبَارِئِ النَّسَمَاتِ، شَرَعَ لعبادِهِ الجُمَعَ والجَمَاعَاتِ، وجعلهَا رِفْعَةً للحسناتِ، وكَفَّارَةً للذُّنُوبِ والسَّيِّئَاتِ، أحمَدُهُ سبحانَهُ على نِعَمِهِ الْعِظَام، جعلَ يومَ الجمعةِ سيِّدَ الأَيَّامِ، واختصنَا بهِ منْ بينِ الأنَامِ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، الملكُ العلامُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ قدوةُ الأنامِ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ ومن تبعهمْ بإحسانٍ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدينِ أمَّــا بَعْـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ الحشر: [18].
أيُّهَا المؤمنونَ: مِنْ فضلِ اللهِ عزَّ وجلَّ على هذهِ الأمَّةِ أنْ اخْتَصَّهَا بيومٍ عظيمٍ، اختَارَهُ واصْطَفَاهُ وفَضَّلَهُ على مَا سِوَاهُ، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ﴾ القصص: [68].
عِبَادَ اللهِ: ويومُكُمْ هذا يومٌ جليلُ القَدْرِ، عظيمُ الشَّأْنِ، ضلَّتْ عنهُ المِلَلُ السَّابِقَةُ والأُمَمُ البَائِدَةُ، وهَدَاكُمُ اللهُ إليهِ، قالَ ﷺ: (نَحْنُ الآخِرُونَ السّابِقُونَ يَومَ القِيامَةِ بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْلِنا، ثُمَّ هذا يَوْمُهُمُ الذي فُرِضَ عليهم فاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدانا اللَّهُ فالنّاسُ لَنا فيه تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، والنَّصارى بَعْدَ غَدٍ) أخرجه البخاري (876) ومسلم (855) وفي روايَةٍ: (أضَلَّ اللَّهُ عَنِ الجُمُعَةِ مَن كانَ قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وكانَ لِلنَّصارَى يَوْمُ الأحَدِ، فَجاءَ اللَّهُ بنا، فَهَدانا اللَّهُ لِيَومِ الجُمُعَةِ) أخرجه مسلم (856).
عبادَ اللهِ: وكانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ تَعْظِيم هذَا اليومِ، وتَخْصِيصُهُ بعبَادَاتٍ مِنْهَا:
أولًا: الاغتسَالُ للجُمُعَةِ، قالَ ﷺ: (الغُسْلُ يَومَ الجُمُعَةِ واجِبٌ علَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وأَنْ يَسْتَنَّ، وأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إنْ وجَدَ) أخرجه البخاري (880)، ومسلم (846).
ثانيًا: استحبابُ التَّنَظُّفِ والتَّطَيُّبِ والسِّوَاك، ولُبْسِ أحسنِ الثِّيَابِ؛ لأنَّ الجُمُعَةَ عيدُ اجْتِمَاعِ المسلمينَ، ومِنْ مظاهِرِ العيدِ أنْ يكونَ المسلمُ في أَحْسَنِ الأَحْوَالِ، وَأَكْمَلِ الخِصَالِ، قالَ ﷺ: (لا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَومَ الجُمُعَةِ ويَتَطَهَّرُ ما اسْتَطاعَ مِن طُهْرٍ ويَدَّهِنُ مِن دُهْنِهِ أوْ يَمَسُّ مِن طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فلا يُفَرِّقُ بيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي ما كُتِبَ له، ثُمَّ يُنْصِتُ إذا تَكَلَّمَ الإمامُ، إلّا غُفِرَ له ما بيْنَهُ وبيْنَ الجُمُعَةِ الأُخْرى) أخرجه البخاري (883).
ثالثًا: التَّبْكِيرُ إلى الجُمُعَةِ مَاشِيًا-إنْ أَمْكَنَ-قالَ ﷺ : (مَنِ اغْتَسَلَ يَومَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَدَنَةً، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَقَرَةً، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ كَبْشًا أقْرَنَ، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ دَجَاجَةً، ومَن رَاحَ في السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً فَإِذَا خَرَجَ الإمَامُ حَضَرَتِ المَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ) أخرجه البخاري (881)، ومسلم (850).
رابعًا: ومِنْ فضَائِلِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، أنَّ فيهِ سَاعَةَ إجَابَةٍ أَخْفَاهَا اللهُ عزَّ وجلَّ ليَجْتَهِدَ المسلمُ الصَّادِقُ في طَلَبِهَا، قالَ ﷺ: (فيه ساعَةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وهو قائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعالى شيئًا، إلّا أعْطاهُ إيّاهُ وأَشارَ بيَدِهِ يُقَلِّلُها) أخرجه البخاري (935).
أيهَا المؤمنونَ: إنَّ التَبْكيرَ لصلاةِ الجُمُعَةِ عبادةٌ جليلةٌ، وغنيمةٌ عظيمةٌ، لا يزهدُ فيهَا إلا جاهلٌ بقدرِهَا، أو غافِلٌ عن فضلِهَا، والمسلمُ الموفَّقُ يستحي أنْ يكونَ نصيبُهُ منهَا الْبَيْضَةَ وهوَ يرَى شيُوخًا ومَرْضَى نَالُوا البَدَنَةَ والبَقَرَةَ، قالَ ﷺ: (من غسَّلَ يومَ الجمعةِ واغتسلَ ثمَّ بَكَّرَ وابتَكرَ ومشى ولم يرْكبْ ودنَا منَ الإمامِ فاستمعَ ولم يلغُ كانَ لَهُ بِكلِّ خطوةٍ عملُ سنةٍ أجرُ صيامِها وقيامِها) أخرجه أبو داود (345) وصححه الألباني.
أيُّهَا المؤمنونَ: إنّ التَّهاوُنَ في صلاةِ الجمعةِ والتأخُّرَ عن حضورِهَا، والتخلفَ عن أدائِهَا، أعظم الخُسْرَانِ وأمارَةُ الحِرْمَانِ قال ﷺ: (لَيَنْتَهينَّ أقْوامٌ عن ودْعِهِمُ الجُمُعاتِ أوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكونُنَّ مِنَ الغافِلِينَ) أخرجه مسلم (865) وقالَ أيضًا: (مَن ترَكَ الجمعةَ ثلاثَ مرَّاتٍ تهاونًا بها، طبَعَ اللهُ على قلْبِه) أخرجه أبو داود (1052) والترمذي (500).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) الجمعة: [19]
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالمِينَ، والعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلا عُدْوَانَ إلا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلِيُّ الصَّالحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، خاتمُ الأنبياءِ والمرْسَلِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلموا أنَّ مِنْ أحكامِ الجمُعَةِ مَا يَلِي:
أولًا: ليسَ للجمعةِ راتبةٌ قَبْلِيَّةٌ بل يُصَلِّي المسلمُ مَا شاءَ، ثم يتفرغُ للعبادةِ والذِّكْرِ وأمَّا النَّافِلَةُ بعدَهَا فإنْ صلَّى في المسجدِ صلَّى أربعًا وإنْ صلَّى في بيته صلَّى ركعتينِ.
ثانيًا: منْ دخلَ المسجدَ والإمامُ يخطُبُ؛ فليركعْ ركعتينِ خفيفتين، قالَ ﷺ: (إذا جاءَ أَحَدُكُمْ يَومَ الجُمُعَةِ والإِمامُ يَخْطُبُ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِما) أخرجه البخاري (930) ومسلم (875).
ثالثًا: منْ أدركَ ركعةً مع الإمامِ وجبَ أنْ يُصَلِّيهَا ركعتينِ، فَيُتِمَّ ركعةً ثانيةً ويُسَلِّمَ، أمَّا مَنْ أدْرَكَ الإمامَ بعدَ الرُّكوعِ الثّاني فيلزمُهُ أنْ يُتِمَّهَا ظُهْرًا أَرْبَع رَكْعَاتٍ.
رابعًا: ومِنْ أحكامِ الجُمُعَةِ أنَّهَا لا تُجْمَعُ مَعَ العَصْرِ حَالَ العُذْرِ، إلا إذا صَلاهَا ظُهْرًا فلهُ الجمعُ والقصرُ بشروطِهِ وضوابِطِهِ.
عبادَ اللهِ: وممَّا يستحبُّ في يومِ الجمعةِ وليلتِهَا: الإكثارُ من الصَّلاةِ على النَّبِيِّ، قالَ ﷺ: (إنَّ من أفضلِ أيَّامِكُم يومَ الجمعةِ فيهِ خُلِقَ آدمُ وفيهِ قُبِضَ وفيهِ النَّفخةُ وفيهِ الصَّعقةُ فأكْثِروا عليَّ منَ الصَّلاةِ فيهِ فإنَّ صلاتَكُم معروضةٌ عليَّ) أخرجه أبو داود (1531) وصححه الألباني.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، وانصرْ عبادَكَ الموحِّدِينَ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ المسْلِمِينَ في فلسطين وفِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ كُنْ لَهُمْ مُعِينًا وَنَصِيرًا وَمُؤَيٍّدًا وَظَهِيرًا، اللَّهُمَّ اجْبُرْ كَسْرَهُمْ وَارْحَمْ ضَعْفَهُمْ وَتَوَلَّ أَمْرَهُمْ وَانْصُرْهُمْ عَلى عَدُوِّهِمْ.
اَللَّهُمَّ أمِّنَا في الأوطانِ والدُّورِ، وأَصْلِحْ الأئمةَ وولاةَ الأمورِ، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ وَلِيَّ عَهْدِهِ، وَأَعِنْهُ، وَسَدِّدْهُ، وَاكْفِهِ شَرَّ الأَشْرَارِ، وَاجْعَلْهُ مُبَارَكًا أَيْنَمَا كَانَ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجَنَّاتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّم عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ. الجمعة 16/6/1445هـ