( يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ ... )
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَـ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ؛ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ؛ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ؛ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ؛ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ ) [ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ ]
الشَّيطَانُ أشدُّ عَدُوٍّ لِبَنِي آدَمَ؛ يَكِيدُ لَهُمْ، ويَسْعَى فِي إِضْلَالِهِمْ، وَيُحَرِّشُ بَيْنَهُمْ، وَيَحْزُنُهُمْ فِي يَقَظَتِهِمْ وَمَنَامِهِمْ يَعِدُهُمُ الْفَقْرَ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْفَحْشَاءِ، يُزَيِّنُ لَهُمُ المُحَرَّمَاتِ وَيُزَهِّدُهُمْ فِي الطَّاعَاتِ، ويَصُدُّهُمْ عَنْهَا ويُثَقِّلُهَا عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ مِنْ هَذا العَدُوِّ غَايَةَ التَّحْذِيرِ قَالَ تَعَالَى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } فاطر 6
وَقَالَ تَعَالَى: { وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }[البقرة 168- 169] وَقَالَ تَعَالَى: { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة 91]
حَذَّرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ مِنْ هَذَا العَدُوِّ؛ وَقَصَّ عَلَيهِمْ خَبَرَهُ مَعَ آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ، وَمَعَ زَوجِهِ، وَتَوَعُّدَهُ لِذُرِّيَتِهِمَا: { قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }[الأعراف 16 ـ 17]
وَمَعَ هَذِهِ العَدَاوَةِ الشَّدِيدَةِ؛ وَمَعَ كُلِّ هَذِا المَكْرِ وَالكَيدِ وَالتَّرَبُّصِ بِبَنِي آدَمَ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاهَدَة الشَّيْطَانِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاللهِ تَعَالَى عَلَيهِ، وَفِعْلِ الأَسْبَابِ الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ تَعَالَى، وَيَسَّرَهَا لِلسَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ هَذَا العَدُوِّ.
وَفِي هَذَا الحَدِيثِ: يُخْبِرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّـمَ عَمَّا يَصْنَعُ الشَّيْطَانُ بِابْنِ آدَمَ إِذَا نَامَ؛ وَأَنَّهُ يَعْقِدُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِهِ أَيْ - مُؤَخَّرِ رَأْسِهِ - ثَلَاثَ عُقَدٍ؛ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ؛ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ؛ يُرِيدُ صَرْفَهُ عَنْ قِيَامِ اللَّيلِ؛ وَاللهُ أَعْلَمُ بِكَيْفِيَّةِ هَذَا العَقْدِ وَتِلْكَ العُقْدِ.
فَيُمَنِّيهِ بِأنَّ اللَّيلَ طَوِيلٌ، وَأَنَّ الوَقْتَ مُتَّسِعٌ، وَأنَّ بِإِمْكَانِهِ أنْ يَرْقُدَ ثُمَّ يَسْتَيْقِظَ وَيُصَلِّي؛ وَلَا يَزَالُ مَعَهُ فِي صِرَاعٍ.
فَإِنْ جَاهَدَهُ، وَأَخَذَ بِهَذَا التَّوْجِيهِ النَّبَوِيِّ؛ سَلِمَ وَغَنِمَ؛ يَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى، وَيَتَوَضَّأُ، وَيُصَلِّي؛ ثَلَاثَةُ أَعْمَالٍ؛ تَنْحَلُّ بِهَا العُقُدَ الثَّلَاثُ؛ وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الأَعْمَالِ أُجُورٌ عَظِيمَةٌ وَخَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ.
أَمَّا إِنِ اِسْتَسْلَمَ الإِنْسَانُ لِهَذَا العَدُوِّ؛ حَرَمَهُ هَذِهِ الخَيْرَاتِ حَرَمَهُ تِلْكَ العِبَادَةَ الجَلِيلَةَ: ( صَلَاةَ اللَّيلِ )
وَتَسَلَّطَ عَلَيهِ تَسَلُّطَاً آخَرَ؛ كَمَا فِي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ قَالَ: ( ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ، أَوْ قَالَ: فِي أُذُنِهِ )
أَعَاذَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
وَبَارَكَ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلُّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَقُولُ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ ) مَعْنَاهُ لِسُرُورِهِ بِمَا وَفَّقَهُ اللَّهُ الْكَرِيمُ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَوَعَدَهُ بِهِ مِنْ ثَوَابِهِ، مَعَ مَا يُبَارِكُ لَهُ فِي نَفْسِهِ وَتَصَرُّفِهِ فِي كُلِّ أُمُورِهِ، مَعَ مَا زَالَ عَنْهُ مِنْ عُقَدِ الشَّيْطَانِ وَتَثْبِيطِهِ.
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ ) مَعْنَاهُ: لِمَا عَلَيْهِ مِنْ عُقَدِ الشَّيْطَانِ، وَآثَارِ تَثْبِيطِهِ وَاسْتِيلَائِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ عَنْهُ... الخ
عِبَادَ اللهِ: يَشْتَكِي البَعْضُ مِنَ النَّاسِ التَّوَتُّرَ وَالقَلَقَ وَضِيقَ الصَّدْرِ طِيلَةَ يَومِهِ؛ وَلَو تَأمَّلُوا هَذَا الحَدِيثَ لَعَلِمُوا الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ، وَلَو عَمِلُوا بِمَا أَرْشَدَ إِلَيهِ النَّبِيُّ صَـلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِيهِ، وِالتَزَمُوهُ؛ لَكَانَ فِيهِ زَوَالُ كَثِيرٍ مِنْ هُمُومِهِمْ.
فَمَنْ أرَادَ الطُّمَأنِينَةَ، وَطِيبَ النَّفْسِ، وانْشِرَاحَ الصَّدْرِ وَالنَّشَاطَ؛ فَعَلَيهِ بِذِكْرِ اللهِ: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } الرعد 28
يقولُ السَّعدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أيْ: يَزُولُ قَلَقُهَا واضْطِرَابُها وَتَحْضُرُهَا أفْرَاحُهَا وَلَذَّاتُها. اهـ
وَهَكَذَا: الوُضُوءُ والصَّلَاةُ، بِهَا يُطْرَدُ الشَّيْطَانُ، وَبِهَا تَطمَئِنُّ القُلُوبُ، وَتَنْشَرِحُ الصُّدُورُ.
وَمِنْ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ: الإِيمَانُ بِاللهِ جَلَّ وَعَلَا، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيهِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ بِهِ، وَاللُّجُوءُ إِلَيهِ؛ قَالَ تَعَالَى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ }[ النحل 98-100 ] وَقَالَ تَعَالَى: { وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت 36]
وَمِنْ أَسْبَابِ السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ: قِرَاءَةُ آيَةِ الكُرْسِيِّ عِنْدَ النَّومِ؛ جَاءَ فِيهَا: ( لَــنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِـنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا
يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ ) [ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ]
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَحْفَظَنَا جَمِيعًا مِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ؛ وَأَنْ يَرْزُقَنَا طِيبَ النَّفْسِ، وَطُمَأْنِينَةَ القَلْبِ، وَانْشِرَاحَ الصَّدْرِ وَسَعَادَةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1713304381_يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ.pdf
1713304397_يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ.docx