يُسر الدين وبيان أحكام المسح على الخفين
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله الذي شرع لنا الإسلام دينا، وهدانا صراطا مستقيما، وأعظم لنا الأجر في العبادات ترغيبا وتكريما، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المعبودُ بحقٍّ صدقًا ويقينًا، وأشهد أن محمدا عبدُ الله ورسولُه بلغ رسالة ربه بلاغا مبينا، صلى الله عليه وسلم تسليما، وعلى آله وأصحابه وتابعيهم أجمعينَ، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، بلزوم طاعته واجتناب معصيته، فرحم الله عبدا أخذ بزمام نفسه فألزمها الطاعة، وجنبها المعصية، فإن الصبر عن محارم الله أهون وأيسر من الصبر على عذابه {يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ولْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.
عباد الله: إن الله عز وجل قد لطف بعباده بما يسر لهم من الصلة بينه وبينهم، تلك الصلة التي يدرك بها العبد الأنس والطمأنينة والفرح واللذة، وأقرب ذلك وأدناه ما جعل الله عز وجل من الصلاة، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه ﷺ قال: «قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وبيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، ولِعَبْدِي ما سَأَلَ»، يدرك العبد بالتزود منها مرافقة النبي، كما في حديث ربيعة بن كعب الأسلمي، قال رضي الله عنه: كُنْتُ أبِيتُ مع رَسولِ اللهِ ﷺ فأتَيْتُهُ بوَضُوئِهِ وحاجَتِهِ فَقالَ لِي: سَلْ فَقُلتُ: أسْأَلُكَ مُرافَقَتَكَ في الجَنَّةِ. قالَ: «أوْ غيرَ ذلكَ» قُلتُ: هو ذاكَ. قالَ: «فأعِنِّي على نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ»، ويكون المؤمن في بعض أحوال الصلاة أقرب، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه ﷺ قال: «أقْرَبُ ما يَكونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ، وهو ساجِدٌ» إنها لمرتبة عظيمة ورتبة سنية بابها قريب ليس دونها حجاب كما قال بكر بن عبد الله المزني: «مَن مِثْلُكَ يا ابْنَ آدَمَ خُلِّيَ بَيْنَكَ وبَيْنَ المِحْرابِ والماءِ كُلَّما شِئْتَ دَخَلْتَ عَلى اللَّهِ لَيْسَ بَيْنَكَ وبَيْنَهُ تُرْجُمانٌ»، فمفتاح الصلاة الطُّهُور كما قال ﷺ، وهذا الطُّهور قد جعل الله عز وجل فيه ثوابًا عظيمًا كما في صحيح مسلم أنه ﷺ قال: «إذا تَوَضَّأ العَبْدُ المُسْلِمُ - أوِ المُؤْمِنُ - فَغَسَلَ وجْهَهُ خَرَجَ مِن وجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إلَيْها بِعَيْنَيْهِ مَعَ الماءِ - أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الماءِ -، فَإذا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِن يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كانَ بَطَشَتْها يَداهُ مَعَ الماءِ أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الماءِ -، فَإذا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْها رِجْلاهُ مَعَ الماءِ - أوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الماءِ - حَتّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ»، عَنْ عُثْمانَ بْنِ عَفّانَ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَن تَوَضَّأ فَأحْسَنَ الوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطاياهُ مِن جَسَدِهِ، حَتّى تَخْرُجَ مِن تَحْتِ أظْفارِهِ»، فإذا كان عقب الوضوء صلاةُ ركعتين لا يُحدّث المرء فيهما نفسه غُفِر له ما تقدّم من ذنبه، أخرجه البخاري ومسلم.
عباد الله: وإن من يسر هذه الشريعة ما لطف الله عز وجل بعباده حينما يشتد البرد ويحتاج الإنسان إلى أن يُغطّي رجليه، فشرع المسح على الخفين كما في قراءة ابن كثير وحمزة وشعبة لقوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم وأرجُلِكم}، فإذا كانت الرِّجل مغطاة فإن حكمها المسح. كما جاء ذلك في سنة النبي ﷺ في أحاديث كثيرة تبلغ الأربعين أنه يُمسح على الخُف -وهو ما كان من جلد-، وهكذا الحكم في المسح على الجوارب -وهو ما كان من صوف ونحوه-، فيمسح على الجوارب كما يمسح على الخفين. وقد قال بالمسح على الجوربين أَحَدَ عَشَرَ صحابيًا، كما يدخل في معنى الجورب: اللفائف التي تُلف على القدمين لعذر، فهذه يشق حلُّها، فله أن يمسح عليها.
عباد الله: وإن للمسح على الخفين شروطًا قد جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- وقيدها الأئمة الأعلام من مجموع هذه النصوص بالاستقراء لها:
فأولها: أن يلبسها على طهارة مائية كاملة، كما في الصحيحين من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- أنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأهْوَيْتُ لِأنْزِعَ خُفَّيْهِ، فَقالَ: «دَعْهُما، فَإنِّي أدْخَلْتُهُما طاهِرَتَيْنِ». فَمَسَحَ عَلَيْهِما.
الشرط الثاني: أن يكون الممسوح مباحًا مُغطيًّا للفرض -أي: إلى الكعبين الذي هو حظ الرّجل عند كشفها بالغسل- وذلك أن البدل له حكم المُبْدَل، إلا أنه لا يضر الخرق اليسير.
الشرط الثالث: أن يكون المسح عليها في المدة المعينة من الشارع، كما في صحيح مسلم من حديث علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: «جَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ ثَلاثَةَ أيّامٍ ولَيالِيَهُنَّ لِلْمُسافِرِ، ويَوْمًا ولَيْلَةً لِلْمُقِيمِ». فأُخِذ منه أنه حين انقضاء المدة فإن حكم المسح قد انتهى ولو لم يأتِ ناقض بعده، وهذا مذهب أكثر أهل العلم، فمن مسح يوما وليلة فإنه يخلع الشُّرّاب وتكون طهارته قد انتهت.
وهكذا تنتقض الطهارة بخلع للخفين ولو كان في المدة، كما قرر ذلك الأئمة الأربعة -أبوحنيفة ومالك والشافعي وأحمد- بل إن من صلى مباشرة بعد خلعه لخفه بطهارة مسح ، فإن صلاته عند الأئمة الأربعة تكون باطلة، فلا يعرض المسلم صلاته للبطلان على أمرٍ يسير.
عباد الله: وإن لهذا المسح كيفيةً جاءت في أحاديث، فبَعْدَ أن يُبَلِّلَ أصابعه بالماء يجعلها عند أطراف قدميه ثم يُـمِرُّها إلى مبدأ ساقيه حذو كعبيه، مرة واحدة.
وابتداء مدة المسح تكون من المسح، فإذا كان المرء قد لبس خفيه لهذه الصلاة -صلاة الجمعة- فصلى بها الجمعة وصلى بها العصر ولم يمسح إلا لصلاة المغرب فإنه يبتدئ المدة من وضوئه لصلاة المغرب في نحو الساعة الخامسة، فيمسح إلى نحو الساعة الخامسة من اليوم الثاني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ المؤمنين، يسر الدين، ولم يجعل فيه حرجا وضيقا للمتنسكين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمدٍ أوضح معالم الدين، وبيَّن يُسْرَه ومن ذلك أن مسح على الخُفَّين، صلى الله عليه وعلى صحبه أجمعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن من يُسر الشريعة ما إذا كان اللابسُ للخُفِّ وهو لا زال في مدة المسح قد اشتد البرد فأراد لُبْسَ خُفٍّ فوق الذي عليه، فله ذلك إذا كان على طهارة، ويحتسب المدة من التحتاني. فإن كان لبسه للفوقاني دون طهارة التحتاني فإنه ذلك لا يجوز، قال ابن قدامة -رحمه الله-: "لا نعلم فيه خلافا".
ثم اعلموا عباد الله أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وعليكم بجماعة المسلمين فإن يد الله على الجماعة ومن شذّ شذّ في النار، ثم صلّوا وسلّموا على سيد رُسُلِ الله وخاتم أنبيائه، والشافع المشفع عند الله يوم لقائه، نبيِّكم محمدُ بن عبدِ الله ﷺ، اللهم وارض عن خلفائه الراشدين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا وعن والدينا بمنك وكرمك يا أرحم الراحمين.
المرفقات
1669785919_يُسر الدين وبيان أحكام المسح على الخفين.docx
1669785919_يُسر الدين وبيان أحكام المسح على الخفين.pdf