يستفتون قلوبهم

عبدالله حمود الحبيشي
1439/06/27 - 2018/03/15 21:53PM

الخطبة الأولى

إنّ الحمد لله ..
عباد الله .. يقول ابن أبي ليلى مفتي الكوفة وقاضيها : إنّي لأساير رجلا من وجوه أهل الشّام ، إذ مرّ بحمّال معه رمّان ، فتناول منه رمّانة فجعلها في كمّه . فعجبت من ذلك ، ثمّ رجعت إلى نفسي وكذّبت بصرى ، حتّى مرّ بسائل فقير ، فأخرجها فناوله إيّاها . فعلمت أنّي رأيتها فقلت له : رأيتك قد فعلت عجبا . قال : وما هو ؟!! قلت: رأيتك أخذت رمّانة من حمّال وأعطيتها سائلا ؟!! قال: وإنّك ممّن يقول هذا القول ؟!! أما علمت أنّي أخذتها وكانت سيّئة وأعطيتها فكانت عشر حسنات ؟!! فقال ابن أبي ليلى : أما علمت أنك أخذتها فكانت سيّئة وأعطيتها فلم تقبل منك ؟!!
هذا فهم غريب وموقف عجيب ، فقد ظن هذا الرجل بل أفتى لنفسه أنه سرق هذه الرمانة فكانت سيئة ، ولأنه تصدق بها على مسكين فقد استحق عشر حسنات ، ونسي هذا الجاهل أن الله طيب لا يقبل إلا طيبا .. فمن قال لك أن الله قد تقبلها منك ، وكتبت عليه سيئة.
إن كان في هذه القصة من عجبٍ ، فالأعجب تكرارها في واقع الناس بصور شتى ، وأشكال متعددة .. فكم ممن يقع في الحرام البين ويجيز لنفسه ذلك ويفتيها بما يوافق فهمه .
إن هذا المسلك وقع فيه أمم سابقة .. فحين حرم الله على بني إسرائيل الشحوم أذابوها .. لا شك أن اليهود في تلك الحال لو سُئلوا عن هذا الفعل لقالوا نعم إنها حرام ويقسمون بالله على ذلك .. وسيقولون وبكل ثقه نحن لم نأكل الشحوم المحرمة علينا ، ولكننا أذبناها وبعنا الزيت .. ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم فعلهم بالتحايل ، وحذرنا منه أشد التحذير بقوله "لا ترتَكِبوا ما ارتكبَتِ اليهودُ فتستحِلُّوا محارمَ اللهِ تعالَى بأدنَى الحِيَلِ" .
وقال عليه الصلاة والسلام "قاتَلَ اللهُ اليهودَ ، إِنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ لما حرَّمَ عليهم الشحومَ جَمَلُوها ، ثُمَّ باعوها فأكلوا أثمانَها" .
وهاهم أخوة يوسف كذلك عزموا على أمر عظيم ، وجرم خطير ، وحجتهم فيه ما يفتونه لأنفسهم (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ).
إن تفضيل يعقوب ليوسف ضلال مبين .. ونيتهم قتل يوسف أو إخفائه وإبعاده عن أبيه أمر يسير هين ، ويمكن أن يتوبوا بعده بل ويكونوا من الصالحين .. فقدموا العزم على التوبة قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله ، وإزالة لشناعته ، وتنشيطا من بعضهم لبعض .
هكذا يُجيز بعض الناس لأنفسهم الحرام ، أو ترك الواجب بفتاوى فاسدة ، وحجج باطله .. يُظهرونها للناس ليبرروا فعلهم ، ويخدعوا بها أنفسهم .. نعم يخدع بها أنفسهم .
يغتاب أحدهم فإذا أُنكر عليه قال أنا ابين الخطأ وانصح .
وآخر يستهزئ بدين الله وبالفرائض والسنن ويدعي أنه يُنكر على تصرفات بعض الناس .
ومنهم من يتخلف عن الصلاة المكتوبة وعذره النوم ، والنائم معذور.
والذين يقعون في الحرام البين ويقولون إن الله غفور رحيم ، ومن ينكر أن الله غفور رحيم .
وقائمة تطول ولا تنتهي ممن يفتي لنفسه عن جهل وضلال فيُحل ما حرم الله ، فيهلك بفتواه ، نسأل الله العافية والسلامة
أُناس يعبثون في المال العام سرقة وإهدارا وتضييعا ، فإذا أُنكر عليهم قالوا هذا مال عام ولنا حق فيه .. وهذا أقرب جواب ، وأشنع منه من يقول : هو لك أو لأخيك أو للذئب فهو مال سائب كضالة الغنم ، ونسوا أو تناسوا قوله عليه الصلاة والسلام "إنَّ رجالًا يَتَخَوَّضُونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ ، فلهمُ النارُ يومَ القيامةِ" .
إن من قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام لا يقولون نحن نتخوض في مال الله أو نحن نأخذه من غير وجه حق ، ولكن زُين لهم عملهم وأفتوا لأنفسهم .. فهذا يقول : ما أخذته ليس بشيء وأمرٌ يسير .. وآخر قال إنها هدية أهديت لي ..
وكان الجواب من النبي صلى الله عليه وسلم واضحا وحاسما ..
"كلَّا، والذي نفْسي بيدِه، إن الشملةَ –قطعة صغيرة من قماش- التي أخَذها يومَ خَيبرَ من المغانمِ، لم تُصِبْها المَقاسِمُ، لَتَشتَعِلُ عليه نارًا" .
وقال للآخر (أفلا قعدتَ في بيتِ أبيكَ وأمكَ، فنظرتَ أيُهدى لك أم لا) ثم قال (فوالذي نفسُ محمدٍ بيدهِ، لا يغلُّ أحدُكم منها شيئًا إلا جاء به يومَ القيامةِ يحملهُ على عُنقهِ) .
البعض يدخل في معاملة تجارية أو مساهمات بنكية فيها ربا صريح فيفتي لنفسه أنه ربا قليل ولا تسلم منه أي معامله .. وبعضهم يُنَظْر ويضرب الأمثال فيقول إنه من الشر الذي لا بد منه .. وليته سكت وأكتفى بنفسه ولم يوقع غيرها بما وقع فيه من الشر .

عباد الله .. ومما يستند إليه من يفتون أنفسهم بتحليل الحرام .. مقولة استفت قلبك .
وهذه المقولة هي جزء من حديث قاله النبي صلى الله عليه وسلم للصحابي الجليل وابصة رضي الله عنه حين جاء يسأله عن البر والإثم ، فكان جوابه عليه الصلاة والسلام "يا وابصةُ ! استَفْتِ قلبَك، البِرُّ ما اطمأنَّت إليه النفسُ ، واطمأنَّ إليه القلبُ ، والإثمُ ما حاك في القلبِ ، وتردَّد في الصدرِ وإن أفتاك الناسُ وأفتَوْك" .
نعم أستفت يا وابصة قلبك المليءَ بالإيمانِ .. وهذه الجُملةُ إنَّما هي لِمَن كانَ قَلْبُه صافيًا سَليمًا؛ فهذا هو الَّذي يَحِيكُ في نَفْسِه ما كان إثمًا ويَكرهُ أنْ يَطَّلعَ عليه النَّاسُ ، "وإنْ أفتاكَ النَّاسُ وأفتَوكَ" أي: وإنْ قالوا لك: إنَّهُ حقٌّ، فلا تأْخُذْ بقَوْلِهم؛ فإنَّهُ قدْ يُوقِعُ في الغَلطِ والشُّبْهةِ، كأنْ تَرى مَن له مالٌ حَلالٌ وحَرامٌ ، فلَا تأْخُذْ منه شيئًا ، وإنْ أفْتاكَ المُفْتي ؛ مَخافَةَ أنْ تأْكُلَ الحَرامَ ؛ لأنَّ الفَتْوَى غيرُ التَّقْوى .
أما صاحب القلب المريض ، والذين لا يفرق بين الحلال والحرام ، فبماذا يستفت قلبه ، وماذا سيفتي به ذلك القلب الذي عب من الحرام حتى ثمل ، وأكل من الباطل حتى تخم .
لقد جعل البعض استفتاء القلب مطية في الحكم بالتحليل أو التحريم على وفق أهوائهم ورغباتهم ، فيرتكبون المحرمات ويقولون (استفت قلبك) !! مع أن المراد هو المؤمن صاحب القلب السليم يستفتي أحداً في شيء فيفتيه بأنه حلال ، ولكن يقع في نفسه حرج منه ، فعليه أن يتركه عملاً بما دله عليه قلبه السليم .. فاستفتاء القلب يكون فيما أباح المفتي ، أمَّا إذا حرم فيجب الامتناع .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز ، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه ، فإن هذا من الخير والبر .. والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض .
ويقول رحمه الله : (الإثم ما حاك في نفسك) أي : تردد وصرت منه في قلق (وكرهت أن يطلع عليه الناس) لأنه محل ذم وعيب ، فتجدك متردداً فيه وتكره أن يطلع عليك الناس .
وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً ، ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المُتَمَرِّدون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم .
نسأل الله أن يهدينا للخير في ديننا ودنيانا .. اقول قولي هذا واستغفر الله ..

الخطبة الثانية


الحمد لله رب العالمين ..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وأطيعوه ، واحذروا المعاصي وما يقرب منها (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) .
عباد الله .. مما حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم الوقوع في المشتبهات بعدا عن الحرام فقال (فمنْ اتَّقَى الشبهَاتِ استَبرَأَ لدينِهِ وعِرضِهِ . ومن وقعَ في الشبهَاتِ وقعَ في الحرامِ) .. وذكر عليه الصلاة والسلام أن الوقوع في المشتبهات يجرئ على الحرام فقال "وإنَّهُ مَن يخالطُ الرِّيبةَ يوشِكُ أن يجسُرَ" أي يجسر ويجرؤ على الوقوع في الحرام والعياذ بالله ..
إن مما يؤسف له استحلال بعض الناس لكثير مما حرم الله بأدنى الحيل، وأما المتشابهات فقليل ثم قليل من الناس من يسلم منها .. تَسير بهم المشتبهات رويدا رويدا حتى تُوقعهم في الحرام الصراح .. تغزو البلاد أمور محرمة من الشرق أو من الغرب ؛ فينبري لها من يتلقفها ، ويجرون عليها عمليات تجميلية ؛ لإخراجها من الحرام الواضح إلى ما هو دونه بحيل وشروط وضوابط شرعية تُكتب ولا يعمل بها ، في غفلة أو تغافل عن الأصول الكبيرة ، ومع كل مفاسد هذه الأمور التي إن سلمت من الحرام الواضح لم تسلم من الشبهات؛ فإنها قد قضت قضاء تاما على كثير من الأخلاق والقيم والحشمة .. في السنوات الماضية كان الحلال كثيرا والمتشابه أقل والحرام أكثر قلة .. أما الآن فالحلال قليل والمتشابه كثير والحرام أكثر فما احوجنا أن نتقي الله ، ونكون أكثر حذرا وحرصا على اجتناب المتشابه ، حفاظا على ديننا وسلامة أعراضنا.. وقد أمرنا الله بأمر فيه صلاحنا وحذرنا من أمر فيه الهلاك فقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) وما أكثر ما يُقال على الله تعالى بلا علم ، وما أكثر من يتبع خطوات الشيطان فيها ، نسأل الله السلامة والعافية من الفتن والشهوات والشبهات .. كما نسأله الهداية لنا وللمسلمين أجمعين .

المشاهدات 2520 | التعليقات 0