يُدَبِّرُ ٱلْأَمْرَ
سعود المغيص
الخُطْبَةُ الأُولَى :
الحمدُ للهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، أحمدُهُ سُبحانَهُ وأشكرُهُ، وأتوبُ إليهِ وأستغفرُهُ، وأصلي وأسلّمُ على خيرِ الورى، وعلى آلهِ وصحبِهِ ومَنْ بهداهمُ اهتدى .
أَمَّا بعدُ فأوصيكمْ أيُّها المؤمنون ونفسي بتقوى اللهِ، فمَنْ اتّقى اللهَ هداهُ، ومِنْ كلِّ وباءٍ وشر وفتنة حفظَهُ ووقاهُ.
عِبَادَ اللهِ: مَا أَجْمَلَ الثِّقَةَ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ، وَمَا أَرْوَعَ التَّسْلِيمَ لِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمَا أَحْوَجَنَا فِي زَمَنِ الْأَوْبِئَةِ والفتن والفقر ، أَنْ نُعَزِّزَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْإِيمَانِيَّةَ، الَّتِي غَابَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ .
فعَقِيدَتُنَا تُعَلِّمُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُبُ شَرًّا مَحْضًا، وَيَقِينُنَا بِرَبِّنَا أَنَّ الْخَيْرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ،
وَنَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أرْشَدَنا أَنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.
عِبَادَ اللهِ: الثِّقَةُ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَزِيدُ النَّفْسَ صَفَاءً، وَالرُّوحَ نَقَاءً، وَالْإِيمَانَ رُسُوخًا وَبَقَاءً.
إِذَا امْتَلَأَ قَلْبُ الْعَبْدِ رِضًا بِتَدْبِيرِ اللَّهِ ، نَزَلَتْ عَلَيْهِ سَكِينَةُ الطُّمَأْنِينَةِ، فَهَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ فُؤَادُهُ، وَتَيَقَّنَ حِينَهَا وَبَعْدَهَا ، أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.
إِذَا قَنِعَ الْعَبْدُ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَوْنِهِ وَخَلْقِهِ، عَلِمَ أَنَّ حِكَمَ اللَّهِ تَعَالَى تَأْتِي مَعَ الْبَلَاءِ، وَأَنَّ كُلَّ ألم وعَنَاءٍ لَا يَدُومُ ، وَلَنْ يَكُونَ لَهُ الْبَقَاءُ، فَمَا بَعْدَ الْعُسْرِ إِلَّا التَّيْسِيرُ، وَكُلُّ أَمْرٍ لَهُ وَقْتٌ وَتَدْبِيرٌ.
دَعِ الْمَقَادِيرَ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا *** وَلَا تَبِيتَنَّ إِلَّا خَالِيَ الْبَالِ
مَا بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا *** يُغَيِّرُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ
فَثِقْ يَا عَبْدَ اللَّهِ ، أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَ اللَّهُ ، فَهُوَ حَتْمٌ حَاصِلٌ، لَا يَرُدُّهُ قَلَقٌ، وَلَا يَجْلِبُهُ حِرْصٌ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ حَسَرَاتٍ عَلَى رِزْقِكَ، وَلَا يَمْتَلِئْ وِجْدَانُكَ كَدَرًا ، خَوْفًا عَلَى أَجَلِكَ .
ثِقْ أَنَّ الرَّزَايَا وَالْبَلَايَا ، تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا الْعَطَايَا، وَأَنَّ الْأُمْنِيَاتِ ، تَأْتِي بَعْدَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ، وَإِنْ طَالَ أَمَدُهَا ، سَتَأْتِي فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ.
ثِقْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ لَكَ، وَتَيَقَّنْ أَنَّ كُلَّ قَدَرٍ مَكْتُوبٌ، فَهُوَ خَيْرٌ ، وَإِنْ خَالَفَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ، فَقَدْ يَكُونُ مَوْتُ الصَّدِيقِ أو الْقَرِيبِ، وَاعِظًا لِتَرْجِعَ وتصحح مسارك ، قبل أن تفارق كل حبيب.
قَدْ يَكُونُ الدَّخْلُ الْقَلِيلُ فِي مَالِكَ، جَامِحًا لِشَهَوَاتِكَ وَأَهْوَائِكَ.
قَدْ يَأْتِي الْمَرَضُ فِي بَدَنِكَ، لِيُبَلِّغَكَ اللَّهُ دَرَجَاتٍ فِي الْجَنَّةِ ، ضلَا يَبْلُغُهَا عَمَلُكَ.
وَقَدْ يَكُونُ الْمَنْعُ خَيْرًا لَكَ مِنَ الْعَطَاءِ، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ).
فَلَا تَعْترضْ شَيْئًا مِنْ قَدَرٍ اللهِ، وَوَطِّنْ نَفْسَكَ، وَرَطِّبْ لِسَانَكَ بِالشُّكْرِ وَالتَّحْمِيدِ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مُؤْلِمٍ وَشَدِيدٍ .
فَلَوْلَا الشَّدَائِدُ لَمَا عَرَفَ النَّاسُ قِيمَةَ الرَّخَاءِ.
وَلَوْلَا الْجَدْبُ لَمَا اسْتَبْشَرَ الْبَشَرُ بِالْمَاءِ.
وَلَوْلَا الظَّلَامُ مَا فَرِحَ النَّاسُ بِالضِّيَاءِ.
وَلَوْلَا الْمَخَاوِفُ لَمَا عُرِفَتْ لَذَّةُ الْأَمَانِ .
وَلَوْلَا الْمصائِبُ لَوَرَدَ النَّاسُ لِرَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَفَالِيسَ .
اللهم إنَّا نسألُكَ الرِّضا بعدَ القضاءِ، وعيشَ السعداءِ، ومرافقةَ الأنبياءِ، والنصرَ على الأعداءِ،
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ).
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر …
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ :
الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشكرُ لهُ على توفيقِهِ وامتنانِهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ تعظيمًا لشأنِهِ، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آلهِ وأصحابِهِ .
أَمَّا بَعْدُ فيا أيها الكرام :
كُلُّ مَخْلُوقٍ مُعَرَّضٌ لِلْمُكَدِّرَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، وَلَنْ تَسْلَمَ نَفْسٌ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِابْتِلَاءَاتِ، قَلَّ ذَلِكَ، أَمْ كَثُرَ، صَغُرَ أَمْ كَبُرَ، وَبِحَسْبِ مَا فِي الْقُلُوبِ وَالْجَنَانِ، يَكُونُ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، وَإِذَا سَلِمَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ، فَكُلُّ مَفْقُودٍ قَدْ صَغُرَ وَهَانَ .
فَيَا عَبْدَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ نَفْسِكَ، مِنْ أَجْلِ رَاحَتِكَ، مِنْ أَجَلْ سَعَادَتِكَ فِي مُسْتَقْبَلِكَ ، ثِقْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ، وَكُنْ مَعَ اللَّهِ ، فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، حَتَّى وَإِنْ ضَاعَتْ مِنْكَ الدُّنْيَا كُلُّهَا ، وَأَنْتَ تَتَلَمَّسُ رِضَا اللَّهِ فَمَا ضِعْتَ، وَإِنْ حُزْتَ الدُّنْيَا بِزُخْرُفِهَا ، وَأَنْتَ تَتَلَمَّسُ سُخْطَ اللَّهِ ، فَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ ، وَمَا رَبِحْتَ.
وَإِذَا أُصِبْتَ بِأَيِّ بَلِيَّةٍ ، أَوْ لَفَّكَ الْهَمُّ قَلَقًا مِنْ حُصُولِهَا، فَهَوِّنْهَا بِثَلَاثٍ: أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي دِينِكَ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْزِي عَلَيْهَا الْجَزَاءَ الْكَبِيرَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عَنَاءَكَ ، وَدَعَوَاتِكَ، وَنَصَبَكَ ، وَأَزَمَاتِكَ ، لَنْ تَضِيعَ، وَإِنَّمَا سَتَأْتِي فِي الْيَوْمِ الْجَمِيلِ، أَوْ سَيَدَّخِرُهَا لَكَ رَبُّكَ ، بَعْدَ يَوْمِ الرَّحِيلِ ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ).
أسْأَلُ اللهَ جَلَّ وَعَلاَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، وَصِفَاتِهِ الْعُلَى أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمْ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَأَنْ يَشْرَحَ صُدُورَنا، وَيُزِيلَ هُمُومَنَا، وَغُمُومَنَا، وَأَنْ يَكْتُبَ لَنَا السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ،
اللهمَّ اغفرْ لنا ولوالدينا وذرياتِنا، اللهمّ وفقْ ولاةَ أمرِنا لما تحبُّ وترضى،
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
وصلَّى اللهُ على نبينا محمَّدٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.