يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا

مبارك العشوان
1436/09/23 - 2015/07/10 04:20AM
إن الحمد لله... أما بعد: فاتقوا الله… مسلمون.
عباد الله: نعمة كبرى، وفرصة ثمينة، ومغنم عظيم، ومتجر رابح يسره الله لنا؛ أنعم تعالى علينا بإدراك رمضان، ثم توالت نعمه سبحانه بأن بلغنا هذه العشر.
عشرُ ليالٍ مباركة، هي خير ليالي الدنيا، وفيها ليلةٌ مباركة، هي كما قال تعالى: { خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } ليلة أنزل فيها القرآن وفيها تتنزل ملائكة الرحمن، موسمٌ يتنافس فيه المتنافسون ويعرفُ قدره العالِمون، ويتهاونُ بشأنه ويفرِّط في مغانمه الجاهلون العاجزون، فرصة تُبتلى فيها الهمم، ويتبين فيها من أراد الآخرةَ وسعى لها سعيها، ممن أرادَ الدنيا وتعلقَ بها؛ فأروا الله تعالى من أنفسكم خيرا؛ اغتنموا حياتَكم قبل زوالها، ونِعَمَكم قبل تَحَوُّلِها وفرصَ الخير ومواسمَ الطاعة قبل فواتها.
اقتدوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم فقد كان ( يَجْتَهِدُ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. وتقول عائشة رضي الله عنها: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ) رواه البخاري.
عباد الله: ونحن نعيش هذه العشر المباركة؛ فلتعلموا وفقكم الله أن من أهم ما تستغل به إحياء لياليها بالعبادة، من صلاة، ودعاء وقراءة للقرآن، وتدبر لمعانيه، وذكر، واستغفار بالأسحار، إلى غير ذلك من أنواع العبادة. فصلاة الليل من أفضل القربات ولهذا أعظم الله الجزاء لأقوام تتجافى جنوبهم عن المضاجع فقال سبحانه: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } السجدة 16-17 وقال تعــالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ، كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات 15- 17. وقال صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ) رواه ابن حبان وحسنه الألباني. حريٌ بنا أيها الناس أن نجاهد أنفسنا على قيام الليل، ونوقض له أهلنا، تعاونا على البر والتقوى، واقتداء بنبي الهدى صلى الله عليه وسلم، خير الناس لأهله ففي البخاري من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ ).
كما أن تربية الأهل على العبادات، وإيقاظَهم للصلوات من أعظم وجوه الإحسان إليهم، والقيام برعايتهم، وهو سببٌ لنيل رحمة الله تعالى ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ) أخرجه أبو داود وصححه الألباني. فلنجتهد عباد الله ولنصبر ولنصابر؛ لنقم مع الإمام حتى ينصرف : ( يكتب له قيام ليلة ) كما صح الحديث بذلك رواه ابن حبان والترمذي وصححه الألباني.
التمسوا ليلة القدر، وجدوا في طلبها، واحرصوا على قيامها فـإن ( من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ) رواه البخاري .
هذه الليلة في عشركم ففي الحديث: ( الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ...) رواه البخاري وهي في أوتارها أقرب منها في أشفاعها، أُخفيت هذه الليلة لحكمةٍ بالغة، والله عليم حكيم، فأحيوا ليالي عشركم بالقيام وصالح الأعمال، ولا يكن همُّ أحدنا نهاية الصلاة؛ لا يكن حديثنا الأئمة؛ هذا يطيل، وهذا يخفف، وصوت فلان كذا، وفلان كذا... أحاديث لا طائل من ورائها اشتغلوا رحمكم الله بالأنفع لكم، واستغلوا هذا المغنم قبل فواته فما هي إلا أيام قليلة ويتراءى الناس هلال شوال ويودعون رمضان، وقد اغتنمه موفقون، وحرم خيره محرومون.
عباد الله: ثم لتجتهدوا في عشركم، بل في حياتكم في عبادة الدعاء، يقول النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ ) ثُمَّ قَرَأَ { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} غافر60 أخرجه الترمذي وصححه الألباني . يأمر الله تعالى بدعائه، ويَعِدُ تبارك وتعالى بالإجابة، الدعاء دأب الصالحين، وملجأ المضطرين: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } النمل:62 قال الله تعالى عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } الأنبياء 90 هذا وإن لدعاء الصائم مزية خاصة، ففي آيات الصيام يقولُ تعالى: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُــدُونَ } البقرة:186
كم بالمسلمين من الشدائد، وكم تُحيط بهم من النوازل، وكم لهم من الحوائج، وليس لهم إلا الله؛ يكشف الضراء، ويرفعُ البلاء ويعطي الجزيل تبارك وتعالى.
ادعوا الله، والجئوا إليه، وألحوا في دعائه، بقلوب حاضرة موقنة بالإجابة ؟ واعلموا أنه قد جاء في الحديث: ( ادْعُوا الله وأنتم مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ وَاعْلَمُوا أن الله لا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً من قلب غَافِلٍ لاَهٍ ) أخرجه الترمذي وحسنه الألباني
احرصوا على آداب الدعاء؛ لا تعتدوا فيه؛ لا تدعوا بإثم ولا قطع رحم، إياكم والسجع المتكلف المذموم، إياكم ورفع الصوت والصياح بالدعاء: { ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }الأعراف 55 عليكم بجوامع الدعاء: { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } ( اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنّي ) .
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهَا أَنْ تَقُولَ: ( اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ عَاجِلَهُ وَآجِلَهُ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلَهُ وَآجِلَهُ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ مَا عَاذَ بِهِ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَأَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا ) رواه ابن حبان وصححه الألباني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....



الخطبة الثانية:
الحمد لله...أما بعد: فإن من أعمال هذه العشر الاعتكاف، وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى، وهو سنة ثابتة بالكتاب والسنة وقد كان صلى الله عليه وسلم ( يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بـعده ) متفق عليه
ومن أراد اعتكاف العشر الأواخر فليبدأ اعتكافه من غروب شمس اليوم العشرين، ويخرج من اعتكافه بغروب شمس ليلة العيد، ويشتغل بالقربات، من ذكر وقراءة وصلاة، ويترك ما لا يعنيه، ولا يخرج إلا لما لا بد منه.
ويجوز اعتكاف يوم وليلة؛ يدخل المسجد قبل غروب الشمس ولا يخرج إلا بعد غروبها من اليوم الذي بعده.
عباد الله: ومما شرع لنا في ختام شهرنا: زكاة الفطر، طهرة للصائمين، وطعمة للمساكين، وهي فريضة على كل مسلم يجد ما يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته.
يخرجها عن نفسه وعن من تلزمه مؤونتهم من المسلمين، تُخرج من طعام الآدميين، صباح العيد قبل الصلاة، وهو أفضل ويجوز قبل العيد بيوم أو يومين، ولا تؤخر عن صلاة العيد بلا عذر.
ومما شرع لنا في ختام شهرنا التكبير: ( الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ) ويجوز غيرها من الصفات، ووقته من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة العيد قال الله تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } البقرة:185 فلتجتهدوا وفقكم الله في إحياء هذه السنة، ولتجهروا بها ولترفعوا أصواتكم مكبرين في بيوتكم وأسواقكم ومساجدكم، شكراً لربكم، وإظهاراً لشعيرة من شعائر دينكم.
عباد الله: ونحن نستقبل العيد، ونستعدُّ له فلنجعله فرصة لتصفية قلوبنا من الأحقاد، من كان بينه وبين قريب أو بعيد من المسلمين شحناء فليبادر بإزالتها، ليبادر بالعفو والصفح، فالله تعالى عفو يحب العفو، من كان هاجرا لمسلم، أو قاطعا لرحم، أقبل العيد فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكـم: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } الحجرات 10
عباد الله: ثم لنحذر جميعا أن نجعل عيدنا مبررا لمعصية ربنا وارتكاب المخالفات الشرعية؛ سواء فيما يتعلق بالزينة، أو ما يتعلق بالأغاني وسماعها، أو ما يتعلق بالتبذير والإسراف.
عباد الله: وفي ليلة العيد وأيامه يكثر إطلاق الألعاب النارية وعبث الأطفال بها، ولا يقوى أحدنا أن يمنع أولاده منها، بحجة أنها أيام عيد..! وهل أيام العيد تدفع أضرار هذه الألعاب، أليس لنا في غيرنا عبرة..! كم من الأطفال كانت أيام عيده على سرير المستشفى، إصابة في عينه، أو حروقا في جسده، لأن ولي أمره لا يقوى على منعه، وكم يضيع من المال في شرائها؛ وقد كره الله لنا إضاعة المال. وكم يحصل بها من إيذاء الناس وترويعهم. فاتقوا الله وارعوا ما حملتم من الأمانة.
عباد الله: الجمعة القادمة قد تكون هي الثلاثين من رمضان، وقد تكون هي يوم عيد الفطر؛ وفي مثل هذا يقول الشيخ العثيمين رحمه الله: من حضر صلاة العيد مع الإمام فله أن يحضر الجمعة معه، وهو الأفضل، وله أن يصلى ظهراً في بيته، ولكن لا تقام صلاة الظهر في المساجد، وأما من لم يحضر صلاة العيد مع الإمام فإنه يجب عليه أن يحضر صلاة الجمعة.
اللهم اختم لنا شهر رمضان برضوانك ... اللهم اجعلنا ممن صامه إيمانا...عباد الله صلوا وسلموا ... اذكروا الله العظيم...
المشاهدات 1167 | التعليقات 0