يا معاذُ واللهِ إني لأحبكَ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1445/12/28 - 2024/07/04 15:51PM

لحمدُ للهِ كما بسطْتَ رزقَنا، وأظهرْتَ أمنَنا، وجمعْتَ فُرقتَنا، ومِنْ كلٍ -واللهِ- ما سألناكَ ربَنا أعطيتَنا. وأشهدُ ألا إلهَ إلا أنتَ، وأشهدُ أن محمداً عبدُك ورسولُك. صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعينَ، أما بعدُ:

فهذهِ سيرةُ عطرةٌ لشابٍ طموحٍ وفطنٍ وموفقٍ، وقد ماتَ ولم يبلغْثلاثاً وثلاثينَ سنةَ، إلا أنه حققَ مشاريعَ عظيمةً، لا يحققُها الطاعنونَفي السنِ. ويكفيهِ فخراً أن نبيَك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالَ إنه: أَعْلَمُأُمَّتِيْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، ويَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَامَ الْعُلَمَاءِ ‌بِرَتْوَةٍ(). أي: بمسافةِ رميةِ سهمٍ.

إنه الصحابيُ الإمامُ معاذُ بنُ جبلٍ -رضي اللهُ عنه- ويكفيهِ شرفاً أن نبيَك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حلفَ له قائلاً: ‌يَا ‌مُعَاذُ، وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ().

فيا تُرَى ما شعورُ معاذٍ وهو يسمعُ هذا الاصطفاءَ والاحتفاءَ؟!

ولا غروَ؛ فقد كانَ معاذٌ يحبُ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُباً جَماً، حتى إنه سَجَدَ له، فأنكرَ عليهِ وقَالَ: مَا هَذَا ‌يَا ‌مُعَاذُ؟! فقَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لِأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ، [أي رؤسائِهِم] فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِكَ، فَنَهَاهُ عنِ هذا الغلوِّ().

وكانَ معاذُ بنُ جبلٍ يُثابرُ على حضورِ مجالسِ النبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل كَانَ -من حرصهِ- يُصَلِّي مَعَه الْعِشَاءَ، ثُمَّ يَأْتِي قَوْمَهُ فَيُصَلِّي بِهِمُ الصَّلَاةَ. وكانَ نبيُك يصطفِي ويصطحبُ معاذاً، ويخصُه بمزيدِعلمٍ لا يُخبِرُ به غيرَه. وَذات مرةٍ كان مُعاذٌ رَدِيفَهُ عَلَى الرَّحْلِ، فقَالَ: ‌يَا ‌مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ. قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: ‌يَا ‌مُعَاذُ.قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثَلَاثًا، قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ().

ومرةً أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَالَ: أُوصِيكَ ‌يَا ‌مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ().

وعندَ فتحِ مكةَ كانَ عمرُهُ ثلاثاً وعشرينَ سنةً، فأَبقاهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمكةَ ليُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرْآنَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِي الدِّينِ، ولكنَّ نبيَك كانَ يهيؤُهُ لمهمةٍ أعظمَ، ألا وهيَ إرسالُه معلماً ومربياً وقاضياً لأهلِ اليمنِ، وكانُوا أهلَ كتابٍ، والذينَ عندَهم أثارةٌ من علمٍفلابدَ أن يُجابَهوا بالعلماءِ.

فلَمَّا أرادَ أن يبَعَثَ معاذاً إِلَى الْيَمَنِ خَرَجَ مَعَهُ نبيك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ اللهِ يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ تواضعاً ومحبةً، فَلَمَّا فَرَغَ من الوصيةِ، وجاءت ساعةُ التوديعِ للسَفْرةِ الخطيرةِوالأخيرةِ، قَالَ مودِعاً بخبرٍ يُذيبُ الصخرَ حُزناً وكمَداً: ‌يَا ‌مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَلَّا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أنَ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي هَذَا، وَقَبْرِي.

ما أفجعَها من كلمةٍ! وقبرِي! يعني أنه سيَرجعُ وقد ماتَ حبيبُه وحبيبُنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَكَى مُعَاذٌ [فزعاً] لِفِرَاقِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لَا تَبْكِ ‌يَا ‌مُعَاذُ، إِنَّ الْبُكَاءَ مِنَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ نَحْوَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا().

وهذهِ الكلمةُ الأخيرةُ بشارةٌ محفزةٌ لنا نحنُ، بأن من أرادَ القُربَ من مجلسِ النبيِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الجنةِ فعليهِ بالتقوى.

فاللهم إنا ما رأينَا نبيَك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا صحابتَه، اللهم ارزقنا متابعتَهم ومجالستَهم في الفردوسِ، بفضلِك ورحمتِك.

الحمدُ للهِ مُولِينا، ومُنِجينا، والصلاةُ والسلامُ على داعِينا وهادِينا، أما بعدُ:

ويعيشُ هذا الشابُ الإمامُ العالمُ ‌مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ سبعَ سنواتٍ بعدَ وفاةِأحبِ مخلوقٍ إليهِ، وتقتربُ ساعةُ الموتِ، حيثُ وَقَعَ طَاعُون بِالشَّامِ فِي عَهْدِ عُمَرَ.. فَطُعِنَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَاتَتَا، ثُمَّ طُعِنَ ابْنٌ لَهُ. ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ ذَلِكَ، فَدَفَنَهُ، ثُمَّ طُعِنَ مُعَاذٌ، فَجَعَلَ يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ: اخْنُقْنِي ‌خَنْقَكَ، ‌فَوَعِزَّتِكَ إِنكَ لَتَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّكَ، ثُمَّ يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَفَاقَ، فَإِذَا هُوَ [بأحدِ تلاميذهِ] يَبْكِي عَنْدَهُ، قَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ مَا أَبْكِي عَلَى دُنْيَا أَطْمَعُ أَنْ أُصِيبَهَا مِنْكَ، وَلكنِّي أَبْكِي عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي أُصِيبُ مِنْكَ. فقال: فَلَا تَبْكِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يَذْهَبُ، وَالْتَمِسْهُ مِنْ حَيْثُ الْتَمَسَهُ خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ..().

نعم؛ مَاتَ هذا الإمامُ الأمةُ القانتُ وعمرهُ ثلاثٌ وثلاثونَ سنةً فقط؛ فهلنعتبرُ بأن الأعمارَ مجردُ أرقامٍ، وأن مشاريعَ الأعمالِ لا تُقاسُبالأعمارِ.

فيا أيُها الطموحُ الهُمامُ: سِرْ قُدُماً للأمامِ، واقتدِ بمعاذٍ الإمامِ، والتمسِ العلمَ والإيمانَ من أهلهِ الراسخينَ؛ ليجعلَك اللهُ من المرفوعينَ: ﵟ‌يَرۡفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمۡ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡعِلۡمَ دَرَجَٰتٖﵞ[المجادلة11] 

• فاللهم ارضَ عن صحابةِ رسولِك واجمعنا به وبهم في جنتِك.
• اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.
• اللهم كَمَا هَدَيْتَنا لِلإِسْلاَمِ فلاَ تَنْزِعْهُ مِنّا حَتَّى تَتَوَفَّانا وَنحن مُسْلِمونَ.
• اللهم اجعل عامَنا الجديدَ عامَ خيرٍ وبركةٍ علينا وعلى المسلمينَ.
• اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ، ووليَ عهدِه لما فيهِ عزُّ الإسلامِ وصلاحُ المسلمينَ. واحفظْ جنودَنا واخلُفهُمْ في أهليهمْ بخيرٍ.
• اللهم يا ذا النعمِ التي لا تُحصَى عددًا نسألكَ أن تصليَ وتسلمَ على محمدٍ أبدًا.

المرفقات

1720097491_‎⁨_يَا _مُعَاذُ وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ⁩.docx

1720097492_‎⁨_يَا _مُعَاذُ وَاللهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ⁩.pdf

المشاهدات 716 | التعليقات 0