يا طالب النعيم
د. منصور الصقعوب
1434/04/03 - 2013/02/13 07:23AM
المرء في دنياه تمر عليه لذات متنوعة, تمر به لحظات سعيدة, يرى صوراً رائعة, ومناظر خلابة, يعيش أجواء ممتعة, يتنعم في مأكله ومشربه ومنكحه, يفرح بلقاء صحبه, ومؤانسة إلفه, يتلذذ بصور متعددة من اللذة, ولكن يجمع ذلك كلَّه أنها لذاتُ دنيا, وسعاداتُ مؤقتة, ونعيمٌ يزول, ويبقى النعيم الذي لا يزول, واللذة التي تدوم, والأنس الذي لا ينقطع, ليس هنا وإنما في الجنة يوم القيامة.
لذات الدنيا إن كانت حلالاً انقضت ومضت, فمن يذكر اليوم لذة أسفاره, أو من يتلذذ الآن بلذة مطعمه أو مجلسه, وإن كانت لذاتُ حرام تبعتها الحسرات وفوق ذلك السيئات,
إن أهنئ عيشةٍ قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حلّ.
قولوا لمن رأى أحسن المناظر, وسافر لأجمل البقع, قولوا لمن سكن القصور, وتلذذ بكل اللذائذ, وما ذا بعد؟, بعده فناء اللذة وانقضائها, ولذة يعقبها موت ليست بلذة كاملة.
ولكن؛ يوم أن يدخلَ المرءُ الجنة فإنه سينعم ولن يبأس أبداً, وسيسعد ولن يشقى أبداً, لن يرى هناك غماً ولا هماً, لن يسمعَ هناك سوءاً ولن يلقى أذى, لن يلقى مرضاً ولا موتاً ولا هرماً مفنداً, هي الدار التي بناها الرحمن, وأسكنها أهلَ الإيمان, هي الدار التي فيها من النعيم ما لم تره عين ولم تسمع به أذن بل ولم يخطر على بال أحد من البشر.
ما ظنك بجنة جعلها من هو على كل شيء قدير لأقوام أطاعوه بالغيب ولم يروه, تركوا ما نهى وفعلوا ما أمر.
لا سواء بين نعيم الدنيا الزائل, ونعيم الجنة الدائم, وكيف يقدم المرء متعة دنيوية محرمة على طاعة ربه, ونعيم الدنيا كله لو جَمع لم يساو شيئاً أمام ما في الجنة, عند البخاري أن رسول اللهr قال " مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدَّنْيَا وَمَا فِيهَا, وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا, وَلَنَصِيفُهَا ، يَعْنِي الْخِمَارَ - خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" بل قال " مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" فقل لي بربك كم سيكون مقدار موضع السوط.
يا أيها الفضلاء: الدنيا ليست بدارٍ لنا, ونحن راحلون كما رحل قبلنا السابقون, والعيش لن يكون هنا, فما ذا قدمنا لدار البقاء الحقيقي, أين متاجرتنا بالحسنات, أين مسابقتنا للطاعات, إن من الغبن أن تمرَ علينا السنة تلو السنة, ونحن قد زادت أعمارنا, وما زادت طاعاتنا, ونحن قد ترقينا في وظائفنا, وما ترقينا في درجات الجنة التي بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض, غبنٌ أن تكثر أموالنا, ولا تكثر حسناتنا, غبنٌ أن نعمر القصور وننسى عمارة قصور الآخرة, ونتنافس في كل شيء, وننسى التنافس في القرب إلى الله وفي ذلك ينبغي التنافس.
معشر الكرام: وحين سمع الصالحون ذكر نعيم الجنة سمت هممهم لها, وتشوفوا لنيلها, وقدموا في سبيل ذلك ما يحبون, سمع أبو طلحة س قول الله (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) فكان له بستان وافر النخل والثمر وهو أحبُ أمواله وأعظمُها, فقال يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ"
وفي المسند أن رجلاً أتى إلى رسول الله وقال: يَا رَسُولَ اللهِ : إِنَّ لِفُلاَنٍ نَخْلَةً ، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا ، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِي حَتَّى أُقِيمَ حَائِطِي بِهَا ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ع: أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَأَبَى ، فسمع ذلك أبو الدحداح, وكان له حائط فيه ستمائة نخلة فأتى الرجل وقال له: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي, فَفَعَلَ الرجل ، فَأَتَى النَّبِيَّ r فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي , فَاجْعَلْهَا لَهُ ، فَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا . فَقَالَ رَسُولُ اللهِ r: كَمْ مِنْ عَذْقٍ رَدَاحٍ لأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ, فَأَتَى أبو الدحداح امْرَأَتَهُ وهي في البستان فقَالَ : يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ، فَإِنِّي قَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ, فَقَالَتْ : رَبِحَ الْبَيْعُ" .
ما أشرفها من همم, وبهذا ربح القوم, وبمثل تلك السير فاز هؤلاء, إنها سير من عرفوا الجنة ونعيمها, والدنيا وزوالها, فقدموا الباقية على الفانية, لقد رحل هءلا, وخرب بستان أبي طلحة, وماتت نخل أبي الدحداح, لكنها بقيت لهم مدخرة في الجنة وذالكم هو الربح الحق.
قال ابن القيم: لما علم الموفقون ما خلقوا له وما أريد بإيجادهم رفعوا رؤسهم فإذا علم الجنة قد رُفع لهم فشمروا إليه وإذا صراطُها المستقيم قد وَضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيعَ ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبدٍ لا يزول ولا ينفذ, بصبابة عيش إنما هو كأضغاث أحلام أو كطيفٍ زار في المنام مشوبٍ بالنَغص ممزوج بالغُصص, إن أضحك قليلا أبكى كثيرا, وإن سرّ يوما أحزن شهوراً, آلامه تزيد على لذاته, وأحزانه أضعاف مسراته, أوله مخاوف وآخره متآلف, فيا عجباً من سفيه في صورة حليم، ومعتوه في مسلاخ عاقل، آثر الحظ الفاني على الحظ الباقي النفيس، وباع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات، إلى أن قال: وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة وإنما يتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة إذا حُشر المتقون إلى الرحمن وفداً, وسيق المجرمون إلى جهنم وردا, ونادى المنادي على رؤوس الأشهاد (ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد)
اللهم ارزقنا النعيم الحق, اللهم صل على محمد
الخطبة الثانية:
أيها المبارك: حين تشغلنا الدنيا, وتلهينا الأحداث المتعاقبة, فنحن بحاجة لتذكير نفوسنا بما لأجله خُلقنا, فكم في القرآن من سياط الوعظ, وآيات الترغيب والترهيب, كل هذا كي لا تحيد مسيرة العبد, فتلهييه الفانية, عن العمل للباقية.
يا مسلمون: سترون في الدنيا أقوماً يتمتعون, يفرحون, يأنسون, ولكن أتدرون أين يكونُ أشرفُ النعيم؟ إنه سيحصل للمرء يوم أن تتطاير الصحف, فيأخذ أقوامٌ كتبهم بالشمال, ويأخذ هو كتابه باليمين, ويقول هناك بأعلى صوته (هاؤم اقرؤا كتابيه)
النعيم الحق سيذوقه المرء في قبره, حين يملأ عليه خضرة وسروراً, ويوسع له مد بصره ويفرش له من الجنة، ويلبس من الجنة، ويفتح له بابٌ إلى الجنة، فتهب عليه ريحها وطيبها
الأنس والهناء يحصل للمرء يوم أن يضع قدمه على آخر خطوة من الصراط, فيلتفت وراءه فيرى أنه قد خلّف الأهوال والحساب, والميزان والصراط, وقد جاوز ناراً تلظى, وسلم من الوقوع فيها, في حين أنه يرى من يتقحمها ويسقط فيها, فذاك الفوز وذلك هو النعيم.
النعيم الحق يناله المرء يوم أن يضع قدمه في أرض الجنة, فيرى داراً لا كالدور وتراباً لا كالتراب, ويحارُ بصرُه في رؤية القصور والدور, والمتع والحور, فتلك والله هي اللذة.
النعيم الذي لا أعظم منه, والأنس الذي لا هناء يدانيه, سيكون لأقوام شرفهم الله برؤية وجهه, يوم أن يكشف رب الأرباب الستر والحجاب, فيرون وجهه, فلن يمر على العباد في دنياهم ولا في أخراهم لذةٌ ونعيمٌ أعظمُ وأشرفُ من ذلكم النعيم, وهنا آن لنا أن نقف لنقول: ماذا قدمنا لنيل ذلكم النعيم؟
إن قلباً هفا لنيل الجنة, وإن نفساً تحركت لنيل النعيم لحري بها أن يرى الله منها العمل.
طالب النعيم يبادر للطاعات, ويسارع للخيرات, إن حانت الصلاة كان لها من المسابقين, أو نُدبَ لطاعة فهو من المبادرين, تراه في كل باب خير, لا يعنيه أن يذكر اسمه, لكنه يعنيه أن يقبل الله عمله.
طالب النعيم حين تتهيأ له الذنوب, ويؤزه الشيطان, يتذكر حينها سابق إنعام الله عليه, فيستحي أن يقابل ذلك بالعصيان, فيحبس النفس عن شهواتها ومرادها ليتمتع بنعيم الجنة.
طالب النعيم, حسن الأخلاق, يحفظ الفرج عن الحرام, ويصون اللسان عن بذيء الكلام, ويتمثل قول الرسول عليه السلام " من يضمن لي ما بين لحييه ورجليه أضمن له الجنة"
طالب النعيم ينفق من ماله, ويكظم غيظه, ويعفو عمن تعدى عليه, وحين يذنب ويسيء فإنه يبادر لللإحسان, بالتوبة والإيمان, ويتمثل قول المولى ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين)
يا كرام: قفوا عند المقابر, سترون الناس سواء, صاحب القصر الفاخر, وساكن البناء الخرب, سترون من ملأ الدنيا صيتاً بتجارته ومناصبه ومكانته بجوار خامل الذكر مجهول الشان, ولكن الشأن كل الشأن على ماذا انطوت القبور؟ مناصبك قصورك أموالك وأولادك لن تدخل معك قبراً, ولن يبقى للمرء إلا صالح عمله, فإن كان محسناً نال النعيم, أو مقصراً خسر الخسران الأليم
هما محلان مال للمرء غيرهما
فانظر لنفسك ماذا أنت مختار
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة
فثن بإحسان وأنت شهيد
تلك عظات أردت بها أن أذكّر نفسي والسامعين, ليس هذا دعوةً لترك نعيم الدنيا, إنما دعوةٌ لتذكر نعيم الآخرة, وللعمل للباقية, وستمضي الأيام, وستغلق صحائف الليل والنهار, وسينتهي زمان الإنسان, وستشرق الشمس يوماً وأنت في القبور, وحينها يفرح الموفقون, ويندم المفرطون, ويعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
اللهم لا تحرمنا نعيم الجنات وارفع لنا الدرجات