يا باغي الشر أقصر
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على عِبادِه بمواسمِ الخيراتِ، ليغفرَ لهم بذلكَ الذُّنوبَ ويُكفِّرَ عنهم السَّيِّئاتِ، وليُضاعفَ لهم به الأُجورَ ويَرفعَ الدَّرجاتِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له واسعُ العَطايا وجَزيلُ الهِباتِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أَفضلَ من تقرَّبَ إلى اللهِ بالطَّاعاتِ، أتقى النَّاسِ لربِّه وأخشاهم له في جَميعِ الحالاتِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ ما توالتْ الشُّهورُ والأوقاتُ وسلَّمَ تسليماً كثيراً .. أما بعد:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ).
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، نداءٌ اجتمعَتْ فيه معاني عظيمةٌ مٌتفَرِّقةٌ، فَإنْ نَظرتَ إليه من زاويةٍ، رأيتَ فيه صوتَ الرَّحمةِ والشَّفقةِ من ربٍّ رحيمٍ بعبادِه، يناديهم بالتَّوبةِ من الذُّنوبِ، والرُّجوعِ إليه في شهرٍ فُتِّحتْ فيه أبوابُ الجِنانِ، وأُغلقتْ فيه أبوابُ النِّيرانِ، وصُفِّدتْ فيه الشَّياطينُ، وله عُتقاءُ في كلِّ ليلةٍ، وكم قد جاءَ في القرآنِ مثلُ هذه النداءاتِ، التي لو لامستْ سمعاً مُصغياً، وقَلباً حاضراً، لطارَ العقلُ فرحاً، ولحَلَّقتْ الرُّوحُ شَوقاً، ومِنهُ النِّداءُ الشَّفيقُ، والخِطابُ الرَّقيقُ (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، فإذا المُسرفُ يَتَذكَّرُ مَغفِرةَ الرَّحيمِ، وَيَهربُ مِن شَيطَانٍ رَجيمٍ، ولِسانُ حَالِهِ:
يا من عَصيتُك جاهلاً فَسترتَني *** وتردُّ حـِينَ أُسيئُ بالإحسانِ
كم جِئتُ بابَك سَــائلاً فأجبتَني *** مِن قَبلِ حتى أن يَقــولَ لِساني
واليومُ جِئتُك تائــباً مُستـغفِراً *** شئٌ بقلـــبي للـهُدى ناداني
إنْ لَم أَكن للـعَفوِ أهلا ًخَالقي *** فلأنـتَ أَهلُ العفوِ والغُـفرَانِ
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، تذكيرٌ من اللهِ تعالى لعبادِه بالمحافظةِ على الصِّيامِ، وشَفقةٌ عليهم من عَذابِ الآخرةِ، فَعَنْ أَبُي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ في الحَديثِ الطَّويلِ: (ثُمَّ انْطُلِقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ؟، قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ - أيْ يُفطرونَ قَبلَ وَقتِ الإفطارِ-)، فإذا كانَ من يُفطرُ قبلَ المَغربِ يُعلقُ برجلِه ورأسُه إلى أسفل، وجوانبُ فَمِه مُشَقَّقَةٌ تسيلُ منها الدِّماءُ، فكيف بمن لا يَصومُ؟.
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، نداءٌ من الغفورِ الرَّحيمِ إلى من تساهلَ في صلاتِه، أنَّ رمضانَ فُرصةٌ عظيمةٌ للمحافظةِ على رُكنِ الدِّينِ، وشَعيرةِ المُسلمينَ، قَالَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَيُنَادَى بِهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى أَقْوَامٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ)، فإذا كانَ هذا في أُناسٍ لم يَتركوا الصَّلاةَ بالكُليَّةِ، وإنما تَركوا حُضورَ المساجدِ، فكيفَ بمن يَتركُ الصَّلاةَ فلا يَسجدُ للهِ سجدةً؟.
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، نصيحةٌ إلى الذين لا يحفظونَ لسانَهم عن أعراضِ النَّاسِ، وإلى الذينَ يَكذبونَ، وبشعائرِ اللهِ هم يستهزئونَ، وتَذكَّرْ: (مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ).
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وكَفى هِجراناً لكتابِ اللهِ تعالى، فهذا الشَّهرُ هو الشَّهرُ الذي نزلَ فيه، وَفِيهِ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، فافتحْ بينَك وبينَ القرآنِ في هذا الشَّهرِ صفحةً جديدةً، وأقبلْ عليه تلاوةً وتدبُّراً، واحذرْ أن تكونَ الخَصيمَ يَومَ القِيامةِ: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا).
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الكريمِ المنَّانِ، مُجزِلِ العطايا قَديمِ الإحسانِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه خيرُ من صلَّى وصامَ، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليهِ وعلى آلِه وصحبِه والتَّابعينَ بإحسانٍ، أما بعد:
وإن نظرتَ إلى هذا النِّداءِ (يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ) من زاويةٍ أُخرى، وجدتَ فيه الوعيدَ الشَّديدَ، والإنذارَ والتَّهديدَ، لمن استعدُّوا لرمضانَ، بكلِ وسائلِ صَرفِ العِبادِ عن فضيلةِ الزَّمانِ، في فُنونِ إهدارِ أوقاتِ المُسلمينَ الثَّمينةِ، والعجبُ كلَّ العجبِ، وهم يُحَادُّونَ اللهَ في حكمتِه، فهو سبحانَه جعلَ رمضانَ لمغفرةِ الذُّنوبِ وعِتقِ الرِّقابِ من النَّارِ، وأوصى فيه بأنواعٍ كثيرةٍ من الطَّاعاتِ، وفرضَ صومَه للتَّقوى والتَّخلُّصِ فيه من الشَّهواتِ، وهم جعلوه شهرَ هَزَلٍ ومُجونٍ وسَخافاتٍ، (أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ).
فإياكم ودُعاةَ الشَّرِ، فإنَّهم يتَبرؤونَ من أتباعِهم: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) فلا ينفعُ ذلك اليومُ ندمٌ ولا حسرةٌ.
فَيا أهلَ الإسلامِ، إذا كانَ مَنْ قبلَكم يتركونَ كثيراً من المُباحاتِ، ليتفرغوا إلى قراءةِ القرآنِ والطَّاعاتِ في رمضانَ، فكيفَ بمن يُضيُّعُ أوقاتَ رمضانَ الغاليةَ بما فيه سَخطُ الرحمانِ؟، فاللهَ اللهَ فِيمَا بَقيَ مِن رَمضانَ، واللهُ المُستعانُ.
اللهم اغفرْ لنا ما سَلف وكانَ، من الذُّنوبِ والخَطايا والعِصيانِ، اللهم اجْعله شَهرَ عِزٍّ ونَصرٍ للإسلامِ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم وأعِنَّا فيه على الصِّيامِ والقيامِ، واجْعلنا ممن يَصومه ويَقومه إيماناً واحتساباً يا ربَّ العالمينَ، اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشِركَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أعداءَ الدِّينِ، واجعل هذا البلدَ آمناً مُطمئناً وسائرَ بِلادِ المسلمينَ، وأيِّد بالحقِّ إمامنا ووليَّ أمرِنا، اللهم انصر به دينَك وأعلِّ به كلمتَك، وأعزَّ به أولياءَك، اللهم ارزقُه البِطانةَ الصالحةَ التي تَدلُه على الخيرِ وتُعينُه عليه، اللهم وَفِّق جميعَ ولاةَ المسلمينَ لاتباعِ كِتابِك وتَحكيمِ سُنَّةِ نَبيِّك صلى اللهُ عليه وسلمَ، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادِك المؤمنينَ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ.
المرفقات
1680091341_يا باغي الشر أقصر.docx
1680091347_يا باغي الشر أقصر.pdf