يَا بَاغِيَ الخيرِ أقبِلْ.
أ.د عبدالله الطيار
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عليْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ إلى يوم الدينِ أمَّــا بَعْـدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، فالتَّقْوَى هي الغَنِيمَةُ البَاقِيَةُ، وَالمُتَّقُونَ هُمُ الأَعْلَوْنَ في الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى:{تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}القصص: [83].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إنّ أنفسَ مَا تُقْضَى فِيهِ الأَعْمَارُ وتُصْرَفُ فِيهِ الأوقاتُ والآجَالُ، عِبَادَةُ اللهِ وَطَاعَتُهُ والتَّزَوُّدُ لِلِقَائِهِ وَالْفَوْزُ بِرَحْمَتِهِ والظَّفرُ بِجَنَّتِهِ قالَ سُبْحَانَهُ:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) آل عمران: [133].
عِبَادَ اللهِ: وهذهِ المطَالِبُ السَّامِيَةُ، والأَهْدَافُ الْعَالِيَةُ تَحْتَاجُ إلى حِنْكَةٍ وَدِرَايَةٍ وَفِطْنَةٍ وَكَيَاسَةٍ، وَقَائِدٍ لَبِيبٍ، وَخِرِّيتٍ دَقِيقٍ، يُبَصِّرُ بِأَجْوَدِ الطُّرُقِ الممْكِنَةِ، وَأَنْسَبِ الشُّهُورِ والأَزْمِنَةِ، والمتَأَمِّلُ في كِتَابِ اللهِ عزَّ وجلَّ وسُنَّةَ نَبِيِّهِ ﷺ يَجِدُهَا قَدْ حَدَّدَتْ هَذِهِ السُّبَلَ بِعِنَايِةٍ وَدِقَّةٍ، فَحَثَّتْ عَلَى أَفْضَلِهَا، وَنَدَبَتْ إِلَى أَسْنَاهَا، وَأَرْشَدَتْ إلى أَعْلاهَا، قَالَ تَعَالَى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) المائدة: [15].
عِبَادَ اللهِ: أيَّامٌ قَلِيلَةٌ، وَيُظِلّكم شهرٌ كريمٌ مباركٌ، اختَصَّكُم به رَبُّكُم، وفَتَحَ لَكُمْ فيهِ مِنْ أبوابِ الخيرِ مَا يَسَعُكُمْ، وَبَشَّرَكُمْ بِهِ نَبِيُّكُمْ ﷺ بِقَوْلِهِ: (أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرضَ اللهُ عليكمْ صِيَامَه، تُفَتَّحُ فيهِ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وتُغلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ) أخرجه النسائي (4/129) وصححه الألباني في صحيح الجامع (55) وَحولَ اسْتقْبَالِ شهرِ رمضَانَ لي وَقَفَاتٌ وَهِيَ:
الوَقْفَةُ الأولَى: اعْلَمْ -رعاكَ اللهُ- أنّ إدْرَاكَ رَمَضَانَ مِنَّةٌ عُظْمَى، وَنِعْمَةٌ كُبرَى وَفُرْصَةٌ ثَمِينَةٌ لا يُضَيِّعُهَا إلا مُفْلِسٌ أو مَغْبُونٌ، أمَّا المؤمنُ الفَطِنُ، فإنَّهُ يَتَلَقَّاهَا بِالْقَبُولِ، وَيَجِدُّ لَهَا بِنَشَاطٍ لَيْسَ مَعَهُ فُتُورٌ وَيَسْأَل ربَّهُ فيهَا الإخْلاصَ والْقَبُولَ، فَيَبْلُغَ بِإِخْلاصِهِ المأْمُولَ ويَنَالَ مِنْ الأَجْرِ وَالمَنْزِلَةِ مَا لا تَكُونُ إلا للشُّهَداءِ والصَّالِحِينَ، فَنِعْمَ السِّبَاقُ وَنِعْمَتِ الْجَائِزَةُ قالَ ﷺ: (مَن آمَنَ باللَّهِ ورَسولِهِ وأَقامَ الصَّلاةَ وصامَ رَمَضانَ كانَ حَقًّا على اللَّهِ أنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ هاجَرَ في سَبيلِ اللَّهِ أوْ جَلَسَ في أرْضِهِ الَّتي وُلِدَ فيها) أخرجه البخاري (7423).
الوقفةُ الثَّانِيَةُ: اسْتِثَارَةُ الشَّوْقِ إلى اللهِ بِاسْتِقْبَالِ رَمَضَانَ فَمَعَ تَتَابُع الأَيَّامِ والشُّهُورِ يحتاجُ المرْءُ لِتَفَقُّدِ الإِيمَانِ في قَلْبِهِ، قالَ عَبْدُالله بنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: (إنَّ الإيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كَما يَخلَقُ الثّوبُ) وهُنَا لابدَّ للمسلمِ منْ سِرْبَالٍ إيمانيٍّ يجدِّدُ بِهِ عِبَادَتَهُ ويُوقِظُ بِهِ همّتَهُ فكانَ رَمَضَانُ خيرُ باعثٍ للطَّاعَةِ ومُوقِدٍ للشَّوْقِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.
الوقفةُ الثَّالِثَةُ: الإِعْدَادُ لِلطَّاعَةِ في رَمَضَانَ عَلامَةُ صِدْقِ الْعَبْدِ، وَأَمَارَةُ الإخلاصِ في الْقَصْدِ قالَ تَعَالَى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) التوبة: [46]. ومتَى رَأَى اللهُ عزَّ وجلَّ مِنْ عَبْدِهِ الصِّدْقَ في الْعَزْمِ، والإِخْلاصَ في الْقَصْدِ، جَعَلَ لَهُ مِنْ نِيَّتِهِ نَصِيبًا قالَ ﷺ: (إِنْ تَصْدُقِ اللَّهَ يَصْدُقْكَ) أخرجه النسائي (4/60) وصححه الألباني (1952).
الوقفةُ الرَّابِعَةُ: اعلمْ رعاكَ اللهُ أنَّكَ متَى شَمَّرْتَ عنْ سَاعِدِ الْجِدِّ، وأَحْسَنْتَ الإِعْدَادَ والاسْتِعْدَادَ، ويَمَّمْتَ قَلْبَكَ وقَالِبَكَ للإِقْبَالِ على اللهِ عزَّ وجلَّ في رمضَانَ، فلَنْ تُعْدَمَ اللُّصُوصَ والْعَقَبَات والشَّوَاغِلَ والملهِيَاتِ الّتِي تُفْسِدُ سَيْرَكَ وَتُعَكِّرُ صَفْوَكَ ومِنْهَا: مَجَالِسُ اللَّهْوِ، وَكَلامُ اللَّغْوِ، وَالملْهِيَاتُ الإِلِكْتُرُونِيَّةُ والْقَضَايَا الْجَانِبِيَّةُ الَّتي تَأْخُذُ مِنْ وَقْتِكَ وَلا تَخْدِمُ هَدَفَكَ، فَاحْذَرْهَا ولا تَغْفَلْهَا وَاعْلَمْهَا ولا تَجْهَلْهَا قالَ ﷺ: (احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ باللَّهِ وَلا تَعْجِزْ) أخرجه مسلم (2664).
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) البقرة: [183-184].
بَارَكَ اللهُ لَي ولكم فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْآَيَاتِ وَالْحِكْمَةِ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وَتُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَة:
الْحَمْدُ للهِ ربِّ الْعَالمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ خاتمُ المرْسَلِينَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أجمعين أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ: واعلمُوا أنَّ مِنْ فَضَائِلِ شَهْرِ رَمَضَانَ مَا يلي:
أولًا: جَاءَ في السُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: (إذا كانَت أوَّلُ ليلةٍ من رمَضانَ صُفِّدتِ الشَّياطينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ وغلِّقتْ أبَوابُ النَّارِ فلم يُفتَحْ منها بابٌ وفُتِحت أبوابُ الجنَّةِ فلم يُغلَقْ منها بابٌ ونادى منادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ ويا باغيَ الشَّرِّ أقصِر وللَّهِ عتقاءُ منَ النَّارِ وذلِك في كلِّ ليلةٍ) أخرجه الترمذي (682) وابن ماجه (1642) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1339) ولا يَنْشَطُ في رَمَضَانَ إلا أَهْلُ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ، وَلِذَا اخْتُصُّوا بِالنِّدَاءِ دُونَ غَيْرِهِم لِسَبْقِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ: (ونادى منادٍ يا باغيَ الخيرِ أقبِلْ)
ثانيًا: ومن غَنَائِمِ شهرِ رمضانَ: عِبَادَةُ الصَّوْمِ قالَ ﷺ: (مَن صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ) رواه البخاري (38)
والصَّوْمُ عِبَادَةٌ جَلِيلَةٌ، عِمَادُهَا الإِخْلاصُ، وَثَمَرَتُهَا التَّقْوَى، وَسَبِيلُهَا: طَاعَةُ اللهِ عزَّ وجلَّ وامْتِثَالُ أَمْرِهِ، أَبْهَمَ اللهُ عزَّ وجلَّ أَجْرَهَا؛ لِعَظِيمِ فَضْلِهَا، قالَ ﷺ: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إلى سَبْع مِائَةِ ضِعْفٍ قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ؛ فإنَّه لي وَأَنَا أَجْزِي به، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِن أَجْلِي لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ وَلَخُلُوفُ فيه أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ) رواه مسلم (1151).
أَسْأَلُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يُبَلِّغْنَا رَمَضَانَ، وَأَنْ يُعِينَنَا فِيهِ عَلى الصِّيَامِ وصَالِحِ الأَعْمَالِ.
اللَّهمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه ووَلِيَّ عَهْدِهِ وإِخْوَانَهُ وَوُزَرَاءَهُ إلَى كُلِّ خَيْرٍ، واحْفَظْهُمْ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَشَرٍّ.
اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللَّهُمَّ احْفَظْهُمْ مِنْ بينِ أيديهِم ومِنْ خَلْفِهِمْ وعنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ، وَنَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ يُغْتَالُوا مِنْ تَحْتِهِمْ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخَنَا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ في فلسطينَ وفِي كُلِّ مَكَانٍ، اللَّهُمَّ واجْعَلْ شَهْرَ رَمَضَانَ شَهْرَ نَصْرٍ وَتَمْكِينٍ وَعِزَّةٍ للإِسْلامِ وَالمُسْلِمِينَ. وصلَّى اللهُ وسلَّمَ على نَبِيِّنَا محمدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
الجمعة 1445/8/27هـ