يا أيَّها الموقرُ ! 1442/11/8هـ

يوسف العوض
1442/11/04 - 2021/06/14 12:00PM
الخطبة الاولى
 
 
الحمد لله، أعظَمَ للمتقين العاملين أجورَهم، وشرح بالهدى والخيراتِ صدورَهم، أشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وفّق عبادَه للطاعات وأعان، وأشهد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من علَّمَ أحكامَ الدِّين وأبان، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه أهلِ الهدى والإيمان،وعلى التابعين لهم بإيمانٍ وإحسانٍ ما تعاقب الزمانُ، وسلّم تسليمًا مزيدا.

 

 أيُّها المسلمون : إن اللهَ تعالى لم يخلقِ الخلقَ ولم يرسلِ الرسلَ ولم ينزلِ الكتبَ إلا من أجلِ تحقيقِ أسمى الغاياتِ ألا وهي عبادتُه سبحانه وتحكيمُ شرعِه ، ولا يمكن أن تصلَ العبادةُ إلى أعلى كمالِها إلا بتعظيمِ المعبودِ ؛ فقد ذكر المناوي في تعريفِ العبادةِ أنَّها فعلُ المكلفِ على خلافِ هوى نفسِه تعظيماً لربه ، وقيل أي العبادةُ هي تعظيمُ اللهِ وامتثالُ أوامرهِ ، فمن هذا التعريفِ تتضحُ أهميةُ تعظيمِ الله ، وأنها العبادةُ التي خلقَنا اللهُ لتحقيقِها .

 

 أيُّها المسلمون : ولقد جاءت النصوصُ الشرعيةُ من الكتابِ والسنةِ في بيانِ فضلِ تعظيمِ الله ؛ فمنها قولُه تعالى : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، قال القرطبي رحمه الله : ثم الآيةُ الرابعةُ جعلها اللهُ بينه وبين عبدِه ؛ لأنها تضمنت تذللَ العبدِ لربه وطلبَ الاستعانةِ منه ؛ وذلك يتضمنُ تعظيمَ اللهِ تعالى ، ومنها قولُه تعالى في معرضِ ذكرِ صفاتِ عبادِه المؤمنين : { وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ }، قال ابن جرير الطبري رحمه الله : ابتغاءُ وجهِ ربِهم أي طلباً لتعظيمِ اللهِ وتنزيهاً له أن يخالفَ في أمرِه أو يأتي أمراً كره إتيانَه فيعصيه به ، ومنها قولهُ تعالى في قصةِ نوحٍ عليه السلام مع قومِه : { مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً }، قال أبو السعود : أي ما لكم لا تُؤملون له تعالى توقيراً أي تعظيماً لمن عبدَه وأطاعَه ، ومنها قولُه تعالى لما ذكر قصةَ أصحابِ الجنةِ : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ }  ، قال الثعالبي : قيل هي عبارةٌ عن تعظيمِ اللهِ والعملِ بطاعتِه سبحانه ، ومنها حديثُ جبيرِ بنِ مطعمٍ رضي الله عنه حيث قال : أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌ ، فقال : يا رسولَ الله ! جُهدت الأنفسُ ، وضاعت العيالُ ، ونُهكت الأموالُ ، وهلكت الأنعامُ ، فاستسق اللهَ لنا ؛ فإنَّا نستشفعُ بك على اللهِ ونستشفعُ باللهِ عليك ، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : « ويحك أتدري ما تقولُ ؟ » ، وسبَّح رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فما زالَ يسبحُ حتى عُرفَ ذلك في وجوهِ أصحابهِ ، ثم قال : "ويحك إنَّه لا يُستشفعُ باللهِ على أحدٍ من خلقِه ، شأنُ اللهِ أعظمُ من ذلك  " (رواه أبو داوود ) فالأعرابي لمَّا قال : ( فإنَّا نستشفعُ باللهِ عليك ) جعل اللهَ في مقامِ الشافعِ عندَ رسولِه ، وهذا تنقيصٌ من قدرِه جلَّ وعلا ؛ ولهذا سبَّح الرسولُ صلى الله عليه وسلم ونبَّه الأعرابي إلى هذا الخطأِ الفادحِ لمَّا قال :« ويحك ! أتدري ما اللهُ ؟ إنَّ شأنَ اللهِ أعظمُ من ذلك » إلى آخر الحديث .

 

 أيُّها المسلمون : التعظيم يولِّدُ في النفسِ الخوفَ من المعظَّم ، ولهذا ما فتئ علماءُ الأمةِ يجتهدونَ في تذكيرِ الناسِ بمسألةِ تعظيمِ اللهِ ؛ فها هو شيخُ الإسلامِ محمدُ بنُ عبد الوهاب رحمه اللهُ يصنفُ كتابَ التوحيدِ ، ويقررُ فيه مسائلَ العقيدةِ ثم يختمُ كتابَه بأبوابٍ عديدةٍ كلِها تتعلقُ بتعظيمِ اللهِ ، مثل : بابٌ فيمن لم يقنع بالحلفِ باللهِ و بابٌ التسمي بقاضي القضاةِ وبابٌ احترام أسماءِ اللهِ وباب لا يردُ من سألَ باللهِ وباب قوله : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } ، وهذا آخرُ بابٍ ذكره الشيخُ في كتابِه القيم ، لكن هل نحن معظمون للهِ أم لا ؟ للإجابة عن هذا التساؤلِ لا بدَّ أن ننظرَ إلى حالِنا عند الإقدام ِعلى فعلِ طاعةٍ من الطاعات : هل نؤديها رغبةً ورهبةً ، خوفاً وطمعاً ؟ أم أنَّ الطاعةَ أصبحت عادةً من العاداتِ نعملُها كلَّ يومٍ دونَ استشعارِ الهدفِ من أدائِها ؟ وهل المرأةُ حين تلبسُ الحجابَ الشرعي تلبسُه لأنَّه شرعٌ من الله أم أنَّه تراثٌ وتقاليدُ ؟ كذلك ننظرُ إلى حالنا عند فعلِ المعصيةِ : هل نُحسَّ كأننا تحتَ جبلٍ يكادُ أن يسقط َعلينا أم كذبابةٍ وقعت على أنفِ أحدِنا فقال بها هكذا ؟ كذلك لننظر إلى حالنا أثناءَ أداءِ الصلاةِ والقيامِ لربِّ العالمين هل نستشعرُ عظمةَ من نقابله فنخشعُ في صلاتنا أم تشغلُنا الأفكارُ والهواجسُ ؟ وهل إذا قابلنا ملكاً من ملوك الدنيا صنعنا عنده مثلَ ما نصنعُ في صلاتنا ؟ إذا أجبنا عن هذه التساؤلاتِ بكلِّ تجردٍ فسنعرفُ يقيناً هل نحن معظمون للهِ أم لا ؟   الخطبة الثانية

 

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ وآلِه وصحبِه ومن اهتدى بهداه، وبعد:

 

 أيُّها المسلمون :  تأملوا حالَ أولئك المعظمين للهِ تعالى عندَ قيامِهم للصلاةِ ، فقد قال مجاهدٌ رحمه الله : كان إذا قام أحدُهم يصلي يهابُ الرحمنَ أن يشدَ بصرَه إلى شيءٍ ، أو أن يلتفتَ أو يقلبَ الحصى ، أو يعبثَ بشيءٍ أو يحدثَ نفسَه من شأنِ الدنيا إلا ناسياً ما دامَ في صلاتِه ، وكان ابنُ الزبيرِ إذا قامَ في الصلاةِ كأنه عودٌ من الخشوعِ ، وكان يسجدُ فأتى المنجنيقُ فأخذَ طائفةً من ثوبِه وهو في الصلاةِ لا يرفعُ رأسَه ، وكان مسلمةُ بنُ بشار يصلي في المسجدَ فانهدم طائفةٌ منه فقامَ الناسُ وهو في الصلاةِ لم يشعر ، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاةُ يتزلزل ويتلون وجهُه ، فقيل له : ما لك ؟ فقال : جاءَ واللهِ وقتُ أمانةٍ عرضها اللهُ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتُها ، وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموعُ من خدَّيه على لحيته ، وكان شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله إذا دخل في الصلاةِ ترتعدُ أعضاؤه وهذا غيضٌ من فيضٍ من أخبارِ وأحوالِ ولئك المعظمين لله ، اللهمَّ كما رزقتَهم تعظيمَك فارزقنا إيَّاه يا سميعُ الدعاءِ .
المشاهدات 951 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا