يا أسفى على ولدي
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي خَشعتْ له القُلوبُ وخَضعتْ، ودَانتْ له النُّفوسُ ورَقَّتْ، وعَنتْ له الوجوهُ وذَلَّتْ، لا تَنقصُ ينابيعُ فَضلِه، ولا تَضطربُ مَوازينُ عدلِه، أكرمُ مَسؤولٍ، وأَعظمُ مَأمولٍ، لا إلهَ إلا هو عَلَّامُ الغيوبِ، الذي تَطمئنُ بذكرِه القُلوبُ، مُجيبُ دَعوةِ المُضطَّرِ المَكروبِ، أَعزُّ مَطلوبٍ وأَشرفُ مَرغوبٍ، وأَشهدُ أنَّ نَبيَّنا محمداً عَبدُه ورسولُه، أَخشى النَّاسِ لربِّه وأَتقى، دَلَّ على سبيلِ الهُدى، وحَذَّرَ من طَريقِ الرَّدى، صلى اللهُ وسلمَ وبَاركَ عليهِ وعلى آلِه وأصحابِه، مَعالمِ الهُدى، ومَصابيحِ الدُّجى، والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ ومن سَارَ على نَهجِهم واقتفى، أما بعد:
أيُّها الآباءُ والأمَّهاتُ ..
أخبروني عن حُبِّكم لأبنائكم وبناتِكم؟ .. أخبروني عن مشاعرِكم تُجاهَ فلذةِ أكبادِكم؟ .. أخبروني عن الحبِّ والحنانِ .. أخبروني عن الشَّفقةِ والإحسانِ .. أتذكرونَ كيفَ استقبلتُم خبرَهم بالبِشرِ والانشراحِ؟ .. واستقبلتُم ولادتَهم بالدُّموعِ والأفراحِ .. وكيفَ تلهجُ ألسنتِكم لهم بالدُّعاءِ والصَّلاحِ؟.
أتذكرُ تلكَ اللَّحظاتِ وأنتَ تحملُه رضيعاً بينَ يديكَ؟ .. أتذكرُ الفرحةَ إذا رأيتَه يبتسمُ إليكَ؟ .. أتذكرُ كيفَ كانَ في بدايةِ خُطاهَ عندما يمشي فيطيحُ؟ .. عندَها يكادُ القلبُ أن يطيرَ مع الرِّيحِ .. أتذكرُ عندما بدأَ في تعلُّمِ الكلماتِ؟ .. فما أجملَ الحروفُ وهي تخرجُ من فمِه مُتَبعثراتٌ.
أتذكرُ ألعابَه اللَّطيفةَ .. ومواقفَه الظَّريفةَ؟ .. أتذكرُ عندما اشتريتَ له شنطةَ المدرسةِ؟ .. ووضعتُ له فيها الأقلامَ والدفاترَ والألوانَ والهندسةَ .. كم كانَ يُحدِّثُكَ عن أمنياتِه إذا أصبحَ كبيراً .. وأنَّه سيكونُ ضابطاً أو مهندساً أو معلماً قديراً .. فما أجملَها من ذِكرياتٍ قد حَفَرتْ في قلبِ الوالدينِ أنهاراً .. وما أجملَ تلكَ اللَّحظاتِ وهم يرونَه ينمو أمامَ أعينِهم ليلاً ونهاراً.
والآن .. تخيَّلْ لو أنَّ هذا الابنُ أو البنتُ قد خُطِفَ منكَ صغيراً .. وأصبحتَ للأحزانِ والآلامِ أسيراً .. ولا تدري أحيٌّ هو فيُرجى؟ .. أو ميتٌ هو فيُنسى؟ .. فلا تزالُ صورتُه أمام عينيكَ .. ولا يزالُ صوتُه يتجلجلُ في أذنيكَ .. إنَّها مشاعرُ لا يعلمُها إلا اللهُ تعالى علامُ الغيوبِ، وانظر كيفَ وصفَ بعضَها في كتابِه صفاً تذوبُ له القلوبُ.
ها هم أخوةُ يوسفَ عليه السَّلامُ يأتونَ أباهم عِشاءً يبكونَ، وقد (جَاءُوا عَلَىٰ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ)، فماذا قالَ لهم: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ)، فهو يعلمُ أنَّ الذِّئبَ لم يأكلْ ابنَه بما عَلمَ من تأويلِ الرُّؤيا التي رآها، ولكن أينَ ذهبوا بِقُرَّةِ الأعيانِ؟ .. وكيفَ هو حالُه الآنَ؟ .. هل هو جائعٌ أو شبعانٌ؟ .. هل هو كاسٍ أو عُريانٌ؟ .. ولسانُ حالِه الأبِّ الولهانِ:
سِنينَ عديدةً معَ ألمِ الفِراقِ والحِرمانِ، ثُمَّ رجعوا إليهِ بخبرٍ يُجدِّدُ الأسى والأحزانَ، قالوا: (يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)، وحيثُ أنَّ لهم تاريخاً في الكَذبِ، (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)، وهكذا لا يَزالُ يعقوبُ عليهِ السَّلامُ مُحافظاً على الصَّبرِ الجميلِ، وهو الصبرُ الذي لا شَكوى معه إلا للهِ تعالى، ثُمَّ قالَ: (عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، فلا إلهَ إلا اللهُ .. لا يزالُ يعقوبُ ينتظُر قُدومَ يوسفَ، وكأنَّه يقولُ هذا الابنُ فُقِدَ كبيراً، ونعرفُ أنَّه في مِصرَ أسيراً، ولكن أينَ يوسفُ الذي ذهبَ صَغيراً؟، ولا ندري ما الذي حدثَ له، (وَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ)، فأعرضَ عنهم وسمعوه يُتمتمُ وهو منصرفٌ عنهم: (وَقَالَ يَا أَسَفَىٰ عَلَىٰ يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)، (قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ)، لا تزالُ تذكرُ يوسفَ، (حَتَّىٰ تَكُونَ حَرَضًا)، قد ذهبَ بصرُكَ وتسوءُ صحتُكَ ويزولُ عقلُك، (أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ)، فأخبرَهم أنَّ هذه الشَّكوى ليستْ لهم، (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، فما الذي يعلمُه يعقوبُ من ربِّه؟.
بعدَ فترةٍ من الزَّمانِ، (قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ)، أي: تظنُّونَ أنَّي قد أُصبتُ بالجُنونِ والخَرَفِ، (قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ)، لا تزالُ تائهاً في أوهامِ رجوعِ يوسفَ إليكَ، (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)، هنا ذكَّرَهم يعقوبُ بما قد قالَه لهم من قبلُ: (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، أعلمُ من اللهِ تعالى حُسنَ الظَّنِّ بهِ الذي لا يُخلفُه أبداً.
أَستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كُلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
اللهمَّ لك الحمدُ، أنت المستعانُ على كلِّ نَائبةٍ، وأنتَ المقصودُ عندَ كلِّ نَازلةٍ، لك عَنتْ وجوهُنا وخَشعتْ لك أصواتُنا، أنتَ المدعو في المُهماتِ، وإليك المفزعُ في المُلماتِ، لا يَندفعُ منها إلاّ ما دَفعتَ، ولا ينكشفُ منها إلا ما كَشفتَ، ونُصلي ونُسلمُ على أَشرفِ رُسلِك وعلى الآلِ والصَّحبِ ومن تَبعَهم بإحسانٍ .. أما بعدُ:
هل سمعتُم كيفَ كانَ حالُ الأبِّ عندما فَقدَ ابنَه؟ .. والآن تعالوا لنعلمَ شيئاً من حالِ الأمِّ.
يقولُ اللهُ تعالى لموسى عليه السَّلامُ: (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى* إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى* أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ)، ولكم أن تتخيلوا والتَّابوتُ يطفو على الماءِ، وتتلاعبُ بهِ نسماتُ الهواءِ، فها هي الأمُّ تنظرُ إليه وهو يبتعدُ بطيئاً بعيونٍ تَدمعُ، وقلبٍ يتقطَّعُ، ولسانُ حالِها يقولُ:
وَلَيسَ الَّذي يَجري مِنَ العَينِ ماؤُها *** وَلَكِنَّها نَفسٌ تَذوبُ وَتَقطُرُ
هذا وقد وعدَها اللهُ تعالى بأن يردَّه إليها، (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ)، وبشرَها بأنَّه سيكونُ رسولاً، (وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)، وأخبرَها أنَّه سيلتقطُه فرعونُ وسيعتني به، (يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ)، وأنَّه سُيلقي محبتَه في قلبِ زوجتِه لتُشفقَ عليهِ، (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي)، ومع ذلكَ، كيفَ وصفَ اللهُ تعالى حالَها:
(وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَىٰ فَارِغاً)، أصبحَ فارغاً من كلِّ شيءٍ إلا من ذِكرِ موسى .. من كانَ يستطيعُ أن يَصِفَ ما في قلبِها إلا اللهُ، ومن يستطيعُ يُثبِّتها في هذا الموقفِ العصيبِ إلا اللهُ، (إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ)، هل رأيتم يوماً أمَّاً نظرتْ حولَها فلم تجدْ ولدَها لحظةً، فأخذت تبحثُ عنه، هل رأيتُم حالَها؟، هل سمعتُم صوتَها؟، العقلُ كادَ أن ينخلعَ، والقلبُ كادَ أن ينصدعَ.
ولمَّا كانتْ مشاعرُ الأمِّ الغاليةُ، عندَ اللهِ لها مكانةٌ عاليةٌ، ردَّهُ إليها في آخرِ النَّهارِ، (فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، فإذا كانَ هذه رحمةُ اللهِ تعالى بمشاعرِ الأمِّ، فكيفَ بمن يخطفُ ولداً سنينَ عديدةً، ويحرمُ أمَّاً وأباً طعمَ الحياةِ السَّعيدةِ، فاللهمَّ رُحماكَ.
اللهمَّ كما رددتَ يوسفَ لأبيهِ فرجعَ إليه بصرُه، وأرجعتَ موسى لأمِّه كي تقرَّ عينُها ولا تحزن، اللهمَّ رُدَّ كلَّ ضالٍ إلى والديه، اللهمَّ أقِرَّ أعينَهم برؤيتِه، وأسعدْ حياتَهم بلقائه، اللهم اربط على قلوبِهم، وارزقهم صبرَك الجميلَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ وَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الأَبْدَانِ، وَالأَمْنَ فِي الأَوْطَانِ، وَالْفَوْزَ بِالنَّعِيمِ وَالرِّضْوَانِ.
المرفقات
يا-أسفى-على-ولدي
هلال الهاجري
المرفقات.
المرفقات
https://khutabaa.com/forums/رد/357527/attachment/%d9%8a%d8%a7-%d8%a3%d8%b3%d9%81%d9%89-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%88%d9%84%d8%af%d9%8a
https://khutabaa.com/forums/رد/357527/attachment/%d9%8a%d8%a7-%d8%a3%d8%b3%d9%81%d9%89-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%88%d9%84%d8%af%d9%8a
https://khutabaa.com/forums/رد/357527/attachment/%d9%8a%d8%a7-%d8%a3%d8%b3%d9%81%d9%89-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%88%d9%84%d8%af%d9%8a-1
https://khutabaa.com/forums/رد/357527/attachment/%d9%8a%d8%a7-%d8%a3%d8%b3%d9%81%d9%89-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%88%d9%84%d8%af%d9%8a-1
تعديل التعليق