يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إيَّاكم والغُلُو . . فإنّهُ الهلاك . . ! .
رشيد بن ابراهيم بوعافية
1434/07/17 - 2013/05/27 21:53PM
الحمد لله ربّ العالمين ، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يُحبُّ ربُّنا ويرضَى ، نحمده سبحانه حمدَ الشاكرين الذاكرين ، و نعبُدُهُ سبحانه عبادةَ الطائعين الأوّابين ، لا مبدّلين ولا مغيّرين ، لا مقصّرين ولا غالين . .
و أشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأوّلين والآخرين ، هو الأوّلُ فليس قبله شيء ، وهو الآخر فليس بعده شيء ، وهو الظاهر فليس فوقه شيء ، وهو الباطن سبحانه فليس دونه شيء .
و أشهد أنَّ محمّدًا عبد الله ورسوله ، وصفيّهُ من خلقه و خليله ، بلّغ الرّسالة و ختمها ، وأدّى الأمانة و أتمّها ، وتركنا على بيضاءَ ناصعةٍ نقيّة ، لا شرقيّةٍ ولا غربيّة ،لا ترى فيها عِوَجًا ولا أمتَا ، ولا تجدُ فيها غلوًّا ولا تقصيرَا ، صلّى اللهُ عليهِ صلاةً دائمةً سرمديّةً و على آلهِ الطيّبين الطاهرين وصحابته والتابعين على منهجه الوسطيِّ الحقّ المُبين و سلَّم .
ثمَّ أمّا بعد : أيّها الأحباب ، أحبُّكم في الله ، ومن واجبِ المُحبّين النصيحةُ و محبَّةُ الخير للمنصوح ، ومن منطلقِ هذا الواجبِ و ذلكم الحُب نتذاكرُ وصيّةً غاليةً من وصايا الحبيب صلى الله عليه وسلم ، أوصى بها أصحابه رضي الله عنهم ، وما أدراكَ ما الصحابة ، فأرعوني أسماعكم و قلوبَكم ، ونسأل الله التوفيقَ إلى ما يحبّ ويرضَى :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غداةَ العقبة وهو على ناقته:" القُطْ لي حصًى" ، فلقطتُ له سبعَ حَصَيَاتٍ ، هنَّ حصَى الخَذْفِ ، فجعلَ ينفضُهُنَّ في كَفِّهِ ويقول : " أمثال هؤلاء فارمُوا " ، ثم قال : " يا أيها النَّاس إيَّاكم والغلوَّ في الدِّين ؛ فإِنَّما أهلكَ من كان قبلكم الغلُوُّ في الدِّينْ "[1].
أيها الأحبّةُ في الله :
إنَّ دين اللهِ تعالى قيِّمٌ مستقيمٌ معتدل لا اعوجاج فيه ، وإنَّما الاعوجاجُ في الحقيقة في أفهامِ النَّاس القاصرة التي تتناول الدِّين بالغلو والتقصير . . ، الدّينُ صراطٌ قيّمٌ لا إشكال فيه ، إنّما الإشكالُ في بعض صورِ التديّن التي هي السُّبُل الصارفة عن الصّراط المستقيم : قال الله تعالى :﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(الأنعام: 163) .
وإذا كان أمرُ المقصِّر - معشر الأحبّةِ - واضِحًا معلومًا ؛ فإنَّ أمرَ الغالي والمتشَدِّدْ غيرُ واضِحٍ ولا معلومٍ لدى كثيرٍ من النَّاس ؛ ذلك أنَّ المتشَدِّدَ يوهمُ نفسهُ أنَّه على عملٍ محمود ، وأنَّه في زيادة خيرٍ وزيادة صلاح. وكذلك يوهمُ غيره أنَّه على دينٍ متين ، وأنَّه على اجتهادٍ قويٍّ عظيم، وإنَّما قد استزَلَّهُ الشيطان ببعض ما كسب و هو لا يدري . . [FONT="]! [/FONT]
و الغلوُّ - عافاكم الله- هو الاجتهادُ بالزيادة عن الحدِّ المشروع ، كما أنَّ التساهل والتفريط هو النقصُ عن الحدِّ المشروع ، وهما على طرفي نقيض ، غير أنَّ الغلوَّ في الدِّين - معشر الأحبَّة - أشدُّ خطرًا على الفرد والأمَّة من التفريط والإضاعة ، فإنَّ من أضاع شيئًا يوشك أن يبحث عنه عند الانتباه والتذكر ، وأمَّا من يرى نفسه أنَّه على خير كبير ، واجتهادٍ في الدِّين عظيم فمن أين يرجع ؟ وعن أيِّ شيءٍ سيبحث . . ؟!
النبي صلى الله عليه و سلم يقول : " فإنَّما أهلكَ من كان قبلكم الغلُو في الدِّين " :
و هذا عينُ ما حصل ؛ فالنصارى غلَوا في عيسى عليه السلام ، حتى أخرجوه عن دائرة البشرية إلى دائرة الربوبية ، واليهود غلَوا في "عُزَيْر" حتى أخرجوه عن دائرة البشرية إلى دائرة الربوبية ، كما قال سبحانه :﴿ وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾(التوبة:30) .
كذلك غَلَوا في العلماء ، وجعلوا كلامهم شرعًا ملزِمًا للنَّاس ولو كان مخالِفًا صراحةً لدين الله تعالى ،كما قال سبحانه :﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾(التوبة:31) ، و العلماءُ - أحبّتي - وسائل هادية ، وتحكيم الرجال من غير التفاتٍ إلى كونِهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعًا ضلالٌ كما قال الشاطبي ( الاعتصام 2 / 355 ) .
وفي الحديث أنَّ عديَّ بنَ حاتم سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأُ قول الله سبحانه :﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه﴾،فقال : إنهم لم يكونوا يعبدونهم ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :"ألم يكونوا يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون لهم الحلال فيحرمونه،فتلك عبادتهم لهم "(حسن : الألباني في غاية المرام ص:19) .
أيها الإخوة في الله : يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إيَّاكم والغُلُو . . فإنّهُ الهلاك . . !
حين يفرِّطُ النَّاسُ في السُّنَنِ الشرعية يبتليهم اللهُ بالسُّنَنِ الكونية القدرية المؤلمة ، فيسري عليهم ما سرى على الأمم من قبل بما كسبت أيديهم ، ولا فرق أمام تلك السُّنن المؤلمة بين مؤمن وكافر ، بين من ينتسب إلى صالحٍ أو ينتسبُ إلى فاسِدٍ طالح ، لا فرق في ميزان السُّنَن ، كما قال الله سبحانه و تعالى:﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾(النساء:123).
مظاهر كثيرة للغلو في الدّين في حياة المتَشَدّدين لو أرجعتها إلى أصولها لعلمت أنَّها من اتّباع سنن الذين من قبلنَا من اليهود والنَّصارى ، فإنَّ سُنَنَهم لتستعِرُ في القلوب والعقول والأوضاع :
و انظُر على سبيل المثال إلى ما وردَ في الآيةِ السّابقة :﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه﴾، فكانوا يُحلون لهم الحرام بدون حُجَّة شرعية، ويُحرّمون عليهم الحلال بدون حُجَّة شرعية ، فعبدوهم بالتَّحليل والتحريم من دون الله جلّ جلاله . .
وانظروا - معشر الأحباب - إلى حال الكثيرين من الغُلاةِ المتعصّبين مع بعض المنتسبين إلى العلم ، ما أشبهَ حالهم بحال النَّصارى مع علمائهم ، لا يسألونَهم لمَ ؟ فضلاً عن : لاَ ! ، يُكفِّرون بدون حُجَّةٍ شرعية ، ويُبَدِّعون بدون حُجَّةٍ شرعية ، يضَلِّلون بدون حجَّةٍ شرعية ، يُسقِطون ويهدِمون بدون حجَّةٍ شرعية ، بل لمجرد الظنِّ المريض ، ووصول الأمر الطويل العريض، دون بيِّنَةٍ أو حجَّةٍ واضحَةٍ . . بيِّنَة . . يلقى بها المسلِمُ ربَّهُ تعالى . . !
فتنَةٌ عظيمة سببُها مخالفة أمر اللهِ تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بالغلوِّ في العلماءِ بالزّيادة عن الحدّ المشروع الواجبِ في حقّهم ، :﴿ فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمْ ﴾(النور:63) .
و يا للأسف . . خالفنا الأمر ، فجاءت الفِتَنْ [FONT="]! : [/FONT]
- امتحانٌ للنَّاس بالذَّواتِ والجهات والأقوال دون عرض ذلك على سلطان الحجة الرسالية والبحث العلمي، ثم الموالاة والمعاداة والتباغض والتقاتل على مجرد ذلك . . [FONT="]![/FONT]
- فتنةٌ نجم عنها صهاريجُ جديدة للعصبية الحزبية . . ومراكزُ احتكارٍ للإسلام والخير . . كل حزب بما لديهم فرحون . . [FONT="]![/FONT]
- فتنةٌ صارَ فيها الإسلامُ العظيمُ يتمحورُ حول أشخاص معدودين لا يرى إلا من خلالهم ، هم المتحدثون باسم الله تعالى كما كان يعتقد رجال الكنيسة في القرون الوسطى في أحبارهم ورهبانهم . . فنعوذ بالله من الظلم والتعصب . . !
وإلى اللهِ العظيمِ المشتكى من هذا الغًلًوِّ في الدِّينْ . . !
في سنواتٍ قليلةٍ تمَّ القضاءُ السَّريعُ بسبب ذلك على أغلب الأُطُرِ العلمية والدعوية الصادقة للأمة . . وتم تربية جيلٍ كامل من الشباب على فِكْرٍ ضَحْلٍ ، وعلمٍ هزيلْ . . بسبب الانشغال بالسِّباب والتَّجهيل عن الطلب والتحصيل. . والمعصوم من عصمه الله عز وجل . . [FONT="]![/FONT]
هذا - أحبّتي - من الغلوِّ في أمر العلماء بالدِّينْ ، ورثناه عن النَّصارى الذين اتَّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربَابًا من دون اللهِ تعالى ، و إنّما العلماءُ وسائل هادية لهم مكانتهم عند الله وعند الناس ، و لكنَّ تحكيم الرجال من غير التفاتٍ إلى كونِهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلالٌ وغلو كما قال الشاطبي في ( الاعتصام 2 / 355 ) . .
نسأل اللهَ العظيم أن يوفِّقنا إلى ما يُحِبُّ ويرضى ، أقول قولي هذا وأستغفر اللهَ العظيم أي ولكم من كلِّ ذنبٍ إنَّه غفورٌ رحيم .
الخطبة الثانية :
رحم الله شيخ الإسلام ، ما ترك لنا ما نقول بعد هذا التأصيل والكلام إلا التذكير بفقه قول الله تعالى:﴿ وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾(آل عمران:152).
أيها الإخوة في الله : يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم : إيَّاكم والغُلُو . . فإنّهُ الهلاك . . !
و من صورِ الغلُوِّ في الدِّين الخروجُ عن نظام الشرع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كأن يُنكِرَ العاميُّ في المسائل التي لا يستطيع فهمها إلاَّ العلماء ، وهي محل اجتهادٍ بينهم :
قال الإمام النووي-رحمه الله-[3] : " ثم إنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة ،كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وما يتعلق بالاجتهاد ،لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره ، بل ذلك للعلماء ، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه ، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه . . لكن إن ندبه على وجه النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق . . ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين " .
فانظروا - أحبابي - الفرقَ بين الإنكار والمناصحة .. فرقٌ كبيرٌ جدًّا !
مظاهر الغلو - أحبّتي - لا حصر لها ، ومن ضبطَ فقهَ الباب فهمَ من أين يأتي المرضُ والدّاء . .
هذا ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى ، اللهم حبب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا،وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان،واجعلنا من الراشدين ، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه و التابعين .
[FONT="][1][/FONT][FONT="] - صحيح: سنن ابن ماجه(3029).[/FONT][FONT="] [/FONT]
[FONT="][2][/FONT][FONT="] [/FONT][FONT="]- المجموع(3/245-246) . [/FONT][FONT="][/FONT]
[FONT="][3][/FONT][FONT="] - شرح صحيح مسلم(ص155)-طبعة دار ابن حزم.[/FONT][FONT="][/FONT]
المشاهدات 3234 | التعليقات 2
آمين أستاذ مبارك ، ولك بمثل ما دعوت أخي العزيز .
وبالعلم الصحيح و الصبر الفسيح والحلم الواسع والتربية الرشيدة نرُدُّ إخوانَنا إلى الطريق المستقيم بإذن الله .
مبارك الجزائري
و يا للأسف . . خالفنا الأمر ، فجاءت الفِتَنْ [font="]! :
- امتحانٌ للنَّاس بالذَّواتِ والجهات والأقوال دون عرض ذلك على سلطان الحجة الرسالية والبحث العلمي، ثم الموالاة والمعاداة والتباغض والتقاتل على مجرد ذلك . . [font="]![/font]
- فتنةٌ نجم عنها صهاريجُ جديدة للعصبية الحزبية . . ومراكزُ احتكارٍ للإسلام والخير . . كل حزب بما لديهم فرحون . . [font="]![/font]
- فتنةٌ صارَ فيها الإسلامُ العظيمُ يتمحورُ حول أشخاص معدودين لا يرى إلا من خلالهم ، هم المتحدثون باسم الله تعالى كما كان يعتقد رجال الكنيسة في القرون الوسطى في أحبارهم ورهبانهم . . فنعوذ بالله من الظلم والتعصب . . !
[/font]
تعديل التعليق