ياله من دين (الإسلام والوباء ... الوقاية والحماية)

سامي بن محمد العمر
1441/07/10 - 2020/03/05 08:04AM
ياله من دين
(الإسلام والوباء ... الوقاية والحماية)

أما بعد:

فياله من دين.. 

ياله من دين أكمله مالك الملك، وأتم به نعمته، وارتضاه ديناً. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3]

ياله من دين .. بدأ بقومٍ الأدواءُ الأخلاقيةُ فيهم فاشية، والأمراضُ الاجتماعية متأصلة؛

فالخمر والربا والزنا والقمار، واحتقار الأنثى ووأدها حية خشية العار،

والعصبية القبلية، والحروب الدموية؛ في حياة كالشبكة المحبوكة من منكرات الأخلاق والأقوال والأفعال.

حتى بعث الله محمدَ بنَ عبد الله صلى الله عليه وسلم... "فنظر إلى العالم بعين الأنبياء فرأى إنساناً قد هانت عليه إنسانيته، رآه يسجد للحجر والشجر والنهر، وكل مالا يملك لنفسه النفع والضر.

رأى إنساناً معكوساً قد فسدت عقليته، فلم تعد تسيغ البديهيات، وتعقل الجليات، ... وفسد ذوقه فصار يستحلي المر ويستطيب الخبيث، ويستمرئ الوخيم، وبطل حسه فأصبح لا يبغض العدو الظالم، ولا يحب الصديق الناصح.

رأى مجتمعاً هو الصورة المصغرة للعالم، كل شيء فيه في غير شكله أو في غير محله، ... ورأى عادات فاسدة تستعجل فناء البشرية، وتسوقها إلى هوة الهلاك.

رأى معاقرة الخمر إلى حد الإدمان، والخلاعة والفجور إلى حد الاستهتار، وتعاطي الربا إلى حد الاغتصاب واستلاب الأموال ورأى الطمع وشهوة المال إلى حد الجشع والنهامة ورأى القسوة والظلم إلى حد الوأد وقتل الأولاد ([1]).

وهناك بعث اللهُ {الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157]

هناك حدث أعظم تغير عرفه التاريخ، وأغرب انقلاب مرّ بتاريخ البشر:

"وقد كان هذا الانقلاب غريباً في كل شيء: كان غريباً في سرعته وكان غريباً في عمقه وكان غريباً في سعته وشموله. وكان غريباً في وضوحه وقربه إلى الفهم. فلم يكن غامضاً ككثير من الحوادث الخارقة للعادة، ولم يكن لغزاً من الألغاز"([2]).

فياله من دين... يشهد له الأعداء الغربيون فيقول قائلهم:" إن محمدًا [صلى الله عليه وسلم] كان من أعظم عظماء التاريخ، فلقد أخذ على نفسه أن يرفع المستوى الروحي والأخلاقي لشعب ألقت به في دياجير الهمجية حرارةُ الجو وجدبُ الصحراء، وقد نجح في تحقيق هذا الغرض نجاحًا لم يدانه فيه أي مصلح آخر في التاريخ كله، وقلّ أن نجد إنسانًا غيره حقق ما كان يحلم به..".

 

وياله من دين... كمُل في تعاليمه، وتعالى في أحكامه، وتسامى في حكمه وأهدافه.. حتى إذا ما ابتلى الله العباد بشيء من البلاء، وعمهم منه خطر ووباء؛ فزعت البشرية بحثاً عن النجاة، وهبت الإنسانية طلباً لاستبقاء أسباب الحياة، وبدأت تستدفع أقدار الله بما أوتيت من الأسباب، وهَرَعت تستجلب ألطاف الله بما علَّمها من المخترعات؛ وقد كانت هي الداء ومنها البلاء وفيها الوباء..

 {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} سورة الروم41 {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} سورة السجدة21

فتلك إذن تنبيهات وتحذيرات {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} سورة الأنعام42 {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} سورة الشورى30.

ولكن.. ياله من دين..   سبق أهل الحضارات كلَّهم في الأخذ بأسباب الوقاية، وسبق أهل المعارف كلَّهم في طرق النجاة وأساليب الحماية.

ياله من دين... يرى أن العدوى أمر حاصل بإذن الله فقط؛ ينتقل في الناس بأمره ومشيئته؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) أي لا عدوى تنتقل بنفسها كما كان يعتقده أهل الجاهلية؛ وعندها فليعزل المصابون عن الأصحاء أخذاً بالأسباب، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم:(لا يورد ممرض على مصح) وقوله:( وفرَّ من المجذوم فرارك من الأسد).

وياله من دين... يسهم بتعاليمه في عدم إنشاء بؤر الوباء من أصلها، ويحارب أسبابها في مهدها، فهو يعتني بإفرازات الجسم من لعاب ومخاط ونحوهما أيما عناية، ويطهرها أيما تطهير؛ ففيه حث دائم على الوضوء ومن المضمضة والاستشاق:

 عن لقيط بن صبرة رضي الله عنه، قال: قلت: يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال:"أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائمًا" رواه أبو داود، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

وفي هذا الدين حث على غسل اليدين عند الأكل وبعده؛ قالت عائشة رضي الله عنها:

«وكان - أي رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يأكل وهو جنب غسل يديه» أبو داود 223

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نام وفي يده غمر، ولم يغسله فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه» سنن أبي داود (3/ 366)

وياله من دين... يراعي أدق تفاصيل الأكل، ويعتني بكل أسباب التوقي والحذر، ومن ذلك:

"أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه" رواه أبو داود.

"وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عطس غطى وجهه بيديه أو بثوبه وغض بها صوته"رواه الترمذي.

وكان صلى الله عليه وسلم يحذر من التهاون بأمر النخامة ويأمر بالاحتياط لشأنها ودفنها فعن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عُرِضت عليَّ أعمال أمتي حسنها وسيئها، فوجدت من محاسن أعمالها الأذى يماط عن الطريق، ووجدت من مساوئ أعمالها النخاعة تكون في المسجد لا تُدْفَن) رواه البخاري.

"وكان صلى الله عليه وسلم يأكل التمر ويلقي النوى بين أصبعيه ويجمع السبابة والوسطى" ثم يلقيه خارج الطبق، لأن النوى قد خالط الريق ورطوبة الفم فلا يمسه بأصابعه ثم يأخذ من الطبق تمرًا آخر فيلوثه على الناس.

أرأيتم دقة في الوقاية أعظمَ من هذا؟

 بارك الله لي ولكم ..

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فياله من دين... علم البشرية إدارة الأوبئة منذ ما ينيف على الألف وأربعمئة عام؛

فقد روى أسامة بن زيد رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الوَجَعَ فَقَالَ: «رِجْزٌ، أَوْ عَذَابٌ، عُذِّبَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ، ثُمَّ بَقِيَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ، فَيَذْهَبُ المَرَّةَ وَيَأْتِي الأُخْرَى، فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ يُقْدِمَنَّ عَلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ بِأَرْضٍ وَقَعَ بِهَا فَلاَ يَخْرُجْ فِرَارًا مِنْهُ» صحيح البخاري (9/ 27).

وفتح باب الأمل لأهل البلاء في وجود الدواء عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» صحيح البخاري (7/ 122)

وأطاب قلوب الصابرين بالشهادة من رب العالمين فقد قال َسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" صحيح البخاري (4/ 24).

وحث أهل الإسلام على دوام اللجوء إلى الله مسبب الأسباب، وكاشف المصاب، وامتثال ما كان يدعو به نبي الهدى صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الْأَسْقَامِ" رواه الإمامُ أحمدُ وأبو داودَ وصححه الألبانيُّ.

فياله من دين؛ لو كان له رجال يطبقون أحكامه ويعملون بتعاليمه.

 

 

المشاهدات 1057 | التعليقات 0