ويَفْشُوَ مَوْتُ الْفُجْأَةِ
ياسر دحيم
1436/03/19 - 2015/01/10 22:10PM
[align=justify]
[/align]
الخطبة الأولى:
الحمد لله الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله، أرسله الله بالهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: حذر الله الرحيم عباده من فَجْأة الموت، وأمرهم بحسن الاستعداد له، فقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن خيار عبادِ الله هم الذين استعدوا للموت وعملوا لما بعده، فعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: جَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ أُولَئِكَ مِنَ الْأَكْيَاسِ" [حسنه الألباني].
إن المتأمل في حال كثير من الذين يموتون هذه الأيام يجد أن أكثرهم يموت فجأة, بغير مقدمات من شيخوخة أو مرض أو نحو ذلك، ترى بعضهم يخرج من بيته ومن بين أهله سالماً معافى فلا يعود إليهم، وترى بعضهم يكون بين أصدقائه فرحاً مسروراً وفجأة يسقط جثةً هامدة, فكم من أناسٍ ماتوا بالجلطة أو السكتة القلبية أو الذبحة الصدرية, ومنهم من يموت فجأة دون مقدماتٍ وبلا أسباب ظاهرة معروفة، وبعضهم يموت في حوادث مختلفة في مقتبل عمرهم, أما حوادث القتل فقد أصبحت في هذا الزمان ظاهرة يومية, قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- :"لا تقومُ الساعةُ حتى يُقبَضَ العلم... وتَظهَرَ الفِتَنُ، ويكثُرَ الهَرْجُ، وهوَ القَتلُ القتلُ" [رواه البخاري].
عباد الله: إن حلول الآجال, وساعة الانتقال, لا تميّز بين طفل وشاب وشيخ، كلٌّ له أجلُه المكتوب, وعمرُه المحسوب, فيالها من مفاجأة يُباغتُ فيها الإنسان فيؤخَذ على غِرة، يأتيه الموتُ على حين غفلة, دون أن يكون متأهباً له مستعداً.
تزَودْ من التقوى فإنكَ لا تدري ** إذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشَ إلى الفجر ؟
فكمْ من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ ** وكمْ من عليلٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكمْ من صغارٍ يرتجى طولَ عُمْرَهْم ** وقدْ أُدْخِلَتْ أجسادَهُمْ ظُلمَة القبرِ
وكمْ من عرُوسٍ زَينوها لِزَوجها ** وقدْ قُبضَتْ أَرْواحَهُم ليلةَ القدرِ
وكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا ** وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري
ساعة الموت مجهولة لا أحد يعلم متى سيموت, وهي حكمةٌ بالغة، ليبقى المؤمنُ طوالَ حياته مترقِبًا وداعَ الدنيا؛ مستعِدًّا للقاء ربه. رُوي أن مَلَكَ الموتِ دخل على داود -عليه السلام- فقال: من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعد! قال: يا داود، أين فلانٌ قريبك؟ أين فلانٌ جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرةٌ لتستعد؟!.
يا عبدالله: قد يكون ملك الموت بانتظارك ولم يبقَ من عمرك إلا دقائقُ معدودة، فما أنت فاعل؟! وهل أنت مستعد؟! هذه هي الحقيقةُ التي لا محيد لنا عنها ولا مهرب منها (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 19 - 22].
إن موت الفجأة هو جرس إنذار لنا؛ لنستيقظ من غفلتنا، ولننتبهْ من رقادنا, فلقد انشغلنا بالدنيا وشهواتها وملذاتها الزائلة, ونسينا الآخرة الباقية، نسينا أننا قادمون على الله, موقوفون بين يديه.
إن الذي يتابع أحوال الناس اليوم يلحظ انشغالاً كبيراً بملهيات الحياة، هذه الملهيات أشغلت الكثير، ولم تمنحهم وقتًا للتفكير في آخرتهم والاستعداد لها, هذه الملهيات أورثتهم غفلة خطيرة عما ينتظرهم, إلى أن يسقط أحدُهم فجأةً ميتًا فيستيقظ من غرور الدنيا وأحلامها, وبريقها الزائف (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100].
كثيرًا ما يفاجئك اتصالٌ أو رسالةٌ من قريب: أن فلانًا مات, وهو في كامل صحته وعافيته، لكن الموت لا يفرق بين صحيح ولا مريض, ومَنْ انتهى أجل حضرت ساعته, فيدهمه الموت بغتةً دون مقدمات, إنه مصداقُ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مِنَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ أَنْ يَفْشُوَ مَوْتُ الْفُجْأَةِ " [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
جميع البشر سيموتون, ويعلمون أنهم راحلون عن هذه الحياة، ولكن إقبالهم على الدنيا وانكبابهم على ملذاتها منعهم من الاستعداد للموت، كما قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) [الحجر: 3 - 5]. ملهيات مشغِلة, وأملٌ خادع, وتسويف مهلك, والنتيجة أن يندم الإنسان حين لا ينفع الندم!!, جاء الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خَطَّ النَّبِيُّ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: "هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا" [رواه البخاري].
يا حسرةً -عباد الله- على غفلة قد طمّت، ومهلةٍ قد ذهبت، أضعناها في المغريات، وقتلناها بالشهوات، وأهدرناها في التفاهات, حتى انقضت الأوقات، وبقيت التبعات, نسير في أودية الدنيا كأننا سنعمَّر فيها، ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعادا مؤجَّلا، كم قريب دفنا، وكم حبيب ودعنا؟، وعدنا من المقابر وعادت معنا الدنيا لنغرق في ملذاتها, وقد نسينا من دفنا من أحبابنا, من آبائنا وأمهاتنا, وأصدقائنا وجيراننا!!.
كم يسعى الإنسان ويتعب في هذه الحياة, قد ملأ قلبَه بالطموحات, وغرته الأمنيات, فانطلق مسرعاً يركض خلف مبتغاه, قد أطغاه حب الجاه, وأرهقه التطلع للمنصب, وأشغلُه همُّ الأولاد, وقصم ظهرَه اللهثُ وراء الأموال, كم للدنيا من فتن مغرية تأخذ بلب المرء وقلبه, وتهُدُّ من جسده وقوته, يظن أنه سيبلغ غايتَه, وينال مبتغاه, وفي لحظة من اللحظات لم يحسِب لها حسابًا, قد انغمس في عمله الدنيوي, غافلاً عن آخرته.
في هذه اللحظة وهو في غمرة السعادة بين أهله وذويه, أو بين أصحابه وأحبابه, يعيش نشوة الأموال, وانفتاح الدنيا, واستقرار الصحة والجسد, في تلك اللحظة وهو يبصر من حوله, ويسمع من يحدثه, ويحرك فيها جسده, لا مرضًا يشكو, ولا علة يعالج, فجأةً توقف فيها كلُ شيء, ماذا جرى لجسمه؟, ماذا حصل لعقله؟, ماذا حدث لصاحب الأموال والمنصب والجاه؟, ما هذه الصفرةُ التي سرتْ في جسده؟, أين ذهبتْ نضرةُ هذا الجسم المتُرَف؟, عجبًا لعينيه مالهما قد زاغتا؟!.
لقد ارتخى اللسان, وشخصت العينان, وتوقف الجسدُ عن الحركة, فلا حسٌّ ولا خبر, ولا نطقٌ ولا إجابة, لقد زاره ضيفٌ فاجأه بالزيارة؛ لأنه لم يكن مستعداً ولا متوقعاً له, زاره ملكٌ الموت فجأة, وأخذه من بين أولاده وأهله وأصحاب,ه وأمواله وتجارته ودكانه, ووظيفته ومنصبه, أخذه إلى قبرٍ موحشٍ.
قد مضى العمر وفات *** يا أسير الغفلات
حصّل الزاد وبادر *** مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي *** عن أمور واضحات
وإلى كم أنت غارق *** في بحار الظلمات
بينما الإنسان يسأل *** عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه *** سرعةً للفلوات
أهله يبكوا عليه *** حسرةً بالعبرات
أين من قد كان يفخر *** بالجياد الصافنات
وله مالٌ جزيل *** كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف *** للقبور الموحشات
فاغنم العمر وبادر *** بالتقى قبل الممات
أيها المؤمنون: إن المُقْدِمَ على الموت لمرضٍ عُضال أصابه أو نحوه, غالباً ما تتغير حياةُ أكثرهم في آخر أيامه، فيزهد في الدنيا وتَعْظُمُ عنده الآخرة، فيكونُ ما ألَمَّ به من مقدمات الموت خيراً له؛ فيجدد التوبة ويخرج من المظالم ويكفرُ الله مِنْ خَطَايَاهُ بما أصابه من مصيبة المرض، بل تجده كثير الاستغفار والطاعة والقرب من الله تعالى, بخلاف من كان صحيحاً معافى, تجده يغترُّ بصحته وعافيته وشبابه, ويستبعد الموت, لذا تكون غفلتُه أعظم, ولربما فاجأه الموتُ على معصية, أو وهو مقيم على ظلم العباد, أو آكلٌ لحقوق الناس, أو مرتكبٌ للموبقات والمهلكات, ولذا فأكثر ما ينبغي للمؤمن أن يخافه في الموت أن يباغته فجأة وهو لم يتهيأ له، ذلك أن من عادة الإنسان التسويفُ في التوبة والعمل الصالح، وطولُ الأمل والرغبةُ في الدنيا، نسأل الله حسن الختام.
وفجأة الموت ربما تفوّت على الإنسان أشياءَ كثيرة؛ كالوصية وإبراء الذمة من حقوق الناس, والاستعداد للآخرة، وقد يكون منهمكاً في عمل الدنيا بعيداً عن ذكر الآخرة، فيفوّتُ عليه أن يكون آخر كلامِه "لا إله إلا الله".
أيها الإخوة: ومع كثرة موت الفجأة إلا أن أكثرنا في لهوٍ وغفلة، وكأن الأمر لا يعنيه ولن يأتيه أو يقرب من داره, قال ابن الجوزيّ: "الواجب على العاقل أخذ العدّة لرحيله؛ فإنّه لا يعلم متى يفجؤه أمرُ ربّه، ولا يدري متى يُستدعى، وإنّي رأيت خلقًا كثيرًا غرّهم الشّباب, ونسوا فقدان الأقران، وألهاهم طول الأمل".
فيا نائماً في غفلة، إلى متى هذه الغفلة، أتزعم أنك ستترك سُدى، وأن لا تحاسبَ غداً، أم تحسَبُ أن الموت يقبل الرِشا، كلا؛ والله لن يدفعَ عنك الموت مالٌ ولا بنون، ولا ينفع أهلَ القبور إلا العملُ المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، ونهى النفس عن الهوى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)
فإلى متى الغفلة -يا عباد الله-؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له, (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي تفرَّد بالحياة والبقاء، وكتب على عباده الموت والفناء، والصلاة والسلام على من خُتمت به الرسل والأنبياء وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأولياء.
عباد الله: ماذا بعد الصحة إلا السقم؟! وماذا بعد البقاء إلا الفناء؟! وماذا بعد الشباب إلا الهرم؟! وماذا بعد الحياة إلا الممات؟! وماذا عند الموت إلا السكرات؟. إن السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ، والشقي من وعظ بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَاعَة وَاحِدَة، وَإِن امتد الْعُمر، يا هذا أين الذي جمعته من الأموال، وأعددته للشدائد والأهوال؟، لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صُفراً، وبدلت من بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً، أو ما علمت ياهذا: أنه لا بد من الارتحال، إلى يوم شديد الأهوال، وليس تنفعك إذ ذاك إلا ما عملت من صالح الأعمال.
يا مُطلقًا نفسه فيما يشتَهِي ويريد، اذكُر عند خُطواتك المُبدئ المعيد، وخَفْ قُبح ما جرَى فالله عليك شهيد (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
كم من ظالمٍ تعدَّى وجار!, فما راعى الأهل ولا الجار، وبينما هو في قبائحه حلَّ به الموت، فحلَّ من ثيابه الأزرار, (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
خرج من الدنيا وما صَحِبَه سِوى الكفَن, إلى بيت الدود والبِلَى والعفَن، لو رأيتَه وقد حلَّت به الشدائدُ والمحن، وشين ذلك الوجهُ الحسن، فلا تسل عن حاله كيف صار, (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
سالَ في اللحد صديدُه، وبُلي في القبر جديدُه، وهجَرَه نسيبُه وقريبُه، وتفرَّق حَشَمُه وعبيدُه, فأين مجالسه الهانية؟ وأين عيشتُه الصافية؟ وأين لذَّاته الحالية؟ تقطَّعت به جميعُ الأسباب، وهجَرَه القرناءُ والأتراب، وصار فرشه التراب، وعلاه الطينُ والأحجار, (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ). (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ ** متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
نؤَمِّلُ آمالاً وَنرجو نِتاجَها ** وَعلَّ الرَدى مِمّا نُرَجّيهِ أَقرَبُ
أيها الناس: أين أحبابُكم الذين سلفوا؟ أين أترابكم الذين رحَلوا وانصرَفُوا؟ أين أرباب الأموال وما خلفوا؟. عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ دخل المقبرة وأنشد:
أَتَيْتُ الْقُبُورَ فَنَادَيْتُهَا ** أَيْنَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُحْتَقَرْ
وَأَيْنَ الْمُدِلُّ بِسُلْطَانِهِ ** وَأَيْنَ الْمُزَكِّي إِذَا مَا افْتَخَرْ
قَالَ: فَنُودِيتُ مِنْ بَيْنِهَا وَلَمْ أَرَ أَحَدًا:
تَفَانَوْا جَمِيعًا فَمَا مُخْبِرٌ ** وَمَاتُوا جَمِيعًا وَمَاتَ الْخَبَرْ
تَرُوحُ وَتَغْدُو بَنَاتُ الثَّرَى ** فَتَمْحُو مَحَاسِنَ تِلْكَ الصُّوَرْ
فَيَا سَائِلِي عَنْ أُنَاسٍ مَضَوْا ** أَمَا لَكَ فِيمَا تَرَى مُعْتَبَرْ
فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم.
ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم والقائد الكريم, الذي أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
الحمد لله الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ, يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله، أرسله الله بالهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
عباد الله: حذر الله الرحيم عباده من فَجْأة الموت، وأمرهم بحسن الاستعداد له، فقال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن خيار عبادِ الله هم الذين استعدوا للموت وعملوا لما بعده، فعن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: جَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" قَالَ: فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَكْيَسُ؟ قَالَ: "أَكْثَرُهُمْ لِلْمَوْتِ ذِكْرًا وَأَحْسَنُهُمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ أُولَئِكَ مِنَ الْأَكْيَاسِ" [حسنه الألباني].
إن المتأمل في حال كثير من الذين يموتون هذه الأيام يجد أن أكثرهم يموت فجأة, بغير مقدمات من شيخوخة أو مرض أو نحو ذلك، ترى بعضهم يخرج من بيته ومن بين أهله سالماً معافى فلا يعود إليهم، وترى بعضهم يكون بين أصدقائه فرحاً مسروراً وفجأة يسقط جثةً هامدة, فكم من أناسٍ ماتوا بالجلطة أو السكتة القلبية أو الذبحة الصدرية, ومنهم من يموت فجأة دون مقدماتٍ وبلا أسباب ظاهرة معروفة، وبعضهم يموت في حوادث مختلفة في مقتبل عمرهم, أما حوادث القتل فقد أصبحت في هذا الزمان ظاهرة يومية, قالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- :"لا تقومُ الساعةُ حتى يُقبَضَ العلم... وتَظهَرَ الفِتَنُ، ويكثُرَ الهَرْجُ، وهوَ القَتلُ القتلُ" [رواه البخاري].
عباد الله: إن حلول الآجال, وساعة الانتقال, لا تميّز بين طفل وشاب وشيخ، كلٌّ له أجلُه المكتوب, وعمرُه المحسوب, فيالها من مفاجأة يُباغتُ فيها الإنسان فيؤخَذ على غِرة، يأتيه الموتُ على حين غفلة, دون أن يكون متأهباً له مستعداً.
تزَودْ من التقوى فإنكَ لا تدري ** إذا جنَّ ليلٌ هلْ تعيشَ إلى الفجر ؟
فكمْ من صحيحٍ ماتَ من غيرِ علةٍ ** وكمْ من عليلٍ عاشَ حينًا من الدهرِ
وكمْ من صغارٍ يرتجى طولَ عُمْرَهْم ** وقدْ أُدْخِلَتْ أجسادَهُمْ ظُلمَة القبرِ
وكمْ من عرُوسٍ زَينوها لِزَوجها ** وقدْ قُبضَتْ أَرْواحَهُم ليلةَ القدرِ
وكمْ من فتىَ أمسى وأصبحَ ضاحكًا ** وقدْ نُسِجَتْ أكفَانَهْ وَهوَ لا يدري
ساعة الموت مجهولة لا أحد يعلم متى سيموت, وهي حكمةٌ بالغة، ليبقى المؤمنُ طوالَ حياته مترقِبًا وداعَ الدنيا؛ مستعِدًّا للقاء ربه. رُوي أن مَلَكَ الموتِ دخل على داود -عليه السلام- فقال: من أنت؟ فقال ملك الموت: أنا من لا يهاب الملوك، ولا تمنع منه القصور، ولا يقبل الرشوة، قال: فإذًا أنت ملك الموت، قال: نعم، قال: أتيتني ولم أستعد بعد! قال: يا داود، أين فلانٌ قريبك؟ أين فلانٌ جارك؟ قال: مات، قال: أما كان لك في هؤلاء عبرةٌ لتستعد؟!.
يا عبدالله: قد يكون ملك الموت بانتظارك ولم يبقَ من عمرك إلا دقائقُ معدودة، فما أنت فاعل؟! وهل أنت مستعد؟! هذه هي الحقيقةُ التي لا محيد لنا عنها ولا مهرب منها (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 19 - 22].
إن موت الفجأة هو جرس إنذار لنا؛ لنستيقظ من غفلتنا، ولننتبهْ من رقادنا, فلقد انشغلنا بالدنيا وشهواتها وملذاتها الزائلة, ونسينا الآخرة الباقية، نسينا أننا قادمون على الله, موقوفون بين يديه.
إن الذي يتابع أحوال الناس اليوم يلحظ انشغالاً كبيراً بملهيات الحياة، هذه الملهيات أشغلت الكثير، ولم تمنحهم وقتًا للتفكير في آخرتهم والاستعداد لها, هذه الملهيات أورثتهم غفلة خطيرة عما ينتظرهم, إلى أن يسقط أحدُهم فجأةً ميتًا فيستيقظ من غرور الدنيا وأحلامها, وبريقها الزائف (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100].
كثيرًا ما يفاجئك اتصالٌ أو رسالةٌ من قريب: أن فلانًا مات, وهو في كامل صحته وعافيته، لكن الموت لا يفرق بين صحيح ولا مريض, ومَنْ انتهى أجل حضرت ساعته, فيدهمه الموت بغتةً دون مقدمات, إنه مصداقُ حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مِنَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ أَنْ يَفْشُوَ مَوْتُ الْفُجْأَةِ " [رواه الطبراني وحسنه الألباني].
جميع البشر سيموتون, ويعلمون أنهم راحلون عن هذه الحياة، ولكن إقبالهم على الدنيا وانكبابهم على ملذاتها منعهم من الاستعداد للموت، كما قال تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) [الحجر: 3 - 5]. ملهيات مشغِلة, وأملٌ خادع, وتسويف مهلك, والنتيجة أن يندم الإنسان حين لا ينفع الندم!!, جاء الصحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خَطَّ النَّبِيُّ خَطًّا مُرَبَّعًا، وَخَطَّ خَطًّا فِي الوَسَطِ خَارِجًا مِنْهُ، وَخَطَّ خُطَطًا صِغَارًا إِلَى هَذَا الَّذِي فِي الوَسَطِ مِنْ جَانِبِهِ الَّذِي فِي الوَسَطِ، وَقَالَ: "هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ وَهَذَا الَّذِي هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا" [رواه البخاري].
يا حسرةً -عباد الله- على غفلة قد طمّت، ومهلةٍ قد ذهبت، أضعناها في المغريات، وقتلناها بالشهوات، وأهدرناها في التفاهات, حتى انقضت الأوقات، وبقيت التبعات, نسير في أودية الدنيا كأننا سنعمَّر فيها، ونغفل كأن بيننا وبين الموت ميعادا مؤجَّلا، كم قريب دفنا، وكم حبيب ودعنا؟، وعدنا من المقابر وعادت معنا الدنيا لنغرق في ملذاتها, وقد نسينا من دفنا من أحبابنا, من آبائنا وأمهاتنا, وأصدقائنا وجيراننا!!.
كم يسعى الإنسان ويتعب في هذه الحياة, قد ملأ قلبَه بالطموحات, وغرته الأمنيات, فانطلق مسرعاً يركض خلف مبتغاه, قد أطغاه حب الجاه, وأرهقه التطلع للمنصب, وأشغلُه همُّ الأولاد, وقصم ظهرَه اللهثُ وراء الأموال, كم للدنيا من فتن مغرية تأخذ بلب المرء وقلبه, وتهُدُّ من جسده وقوته, يظن أنه سيبلغ غايتَه, وينال مبتغاه, وفي لحظة من اللحظات لم يحسِب لها حسابًا, قد انغمس في عمله الدنيوي, غافلاً عن آخرته.
في هذه اللحظة وهو في غمرة السعادة بين أهله وذويه, أو بين أصحابه وأحبابه, يعيش نشوة الأموال, وانفتاح الدنيا, واستقرار الصحة والجسد, في تلك اللحظة وهو يبصر من حوله, ويسمع من يحدثه, ويحرك فيها جسده, لا مرضًا يشكو, ولا علة يعالج, فجأةً توقف فيها كلُ شيء, ماذا جرى لجسمه؟, ماذا حصل لعقله؟, ماذا حدث لصاحب الأموال والمنصب والجاه؟, ما هذه الصفرةُ التي سرتْ في جسده؟, أين ذهبتْ نضرةُ هذا الجسم المتُرَف؟, عجبًا لعينيه مالهما قد زاغتا؟!.
لقد ارتخى اللسان, وشخصت العينان, وتوقف الجسدُ عن الحركة, فلا حسٌّ ولا خبر, ولا نطقٌ ولا إجابة, لقد زاره ضيفٌ فاجأه بالزيارة؛ لأنه لم يكن مستعداً ولا متوقعاً له, زاره ملكٌ الموت فجأة, وأخذه من بين أولاده وأهله وأصحاب,ه وأمواله وتجارته ودكانه, ووظيفته ومنصبه, أخذه إلى قبرٍ موحشٍ.
قد مضى العمر وفات *** يا أسير الغفلات
حصّل الزاد وبادر *** مسرعاً قبل الفوات
فإلى كم ذا التعامي *** عن أمور واضحات
وإلى كم أنت غارق *** في بحار الظلمات
بينما الإنسان يسأل *** عن أخيه قيل مات
وتراهم حملوه *** سرعةً للفلوات
أهله يبكوا عليه *** حسرةً بالعبرات
أين من قد كان يفخر *** بالجياد الصافنات
وله مالٌ جزيل *** كالجبال الراسيات
سار عنها رغم أنف *** للقبور الموحشات
فاغنم العمر وبادر *** بالتقى قبل الممات
أيها المؤمنون: إن المُقْدِمَ على الموت لمرضٍ عُضال أصابه أو نحوه, غالباً ما تتغير حياةُ أكثرهم في آخر أيامه، فيزهد في الدنيا وتَعْظُمُ عنده الآخرة، فيكونُ ما ألَمَّ به من مقدمات الموت خيراً له؛ فيجدد التوبة ويخرج من المظالم ويكفرُ الله مِنْ خَطَايَاهُ بما أصابه من مصيبة المرض، بل تجده كثير الاستغفار والطاعة والقرب من الله تعالى, بخلاف من كان صحيحاً معافى, تجده يغترُّ بصحته وعافيته وشبابه, ويستبعد الموت, لذا تكون غفلتُه أعظم, ولربما فاجأه الموتُ على معصية, أو وهو مقيم على ظلم العباد, أو آكلٌ لحقوق الناس, أو مرتكبٌ للموبقات والمهلكات, ولذا فأكثر ما ينبغي للمؤمن أن يخافه في الموت أن يباغته فجأة وهو لم يتهيأ له، ذلك أن من عادة الإنسان التسويفُ في التوبة والعمل الصالح، وطولُ الأمل والرغبةُ في الدنيا، نسأل الله حسن الختام.
وفجأة الموت ربما تفوّت على الإنسان أشياءَ كثيرة؛ كالوصية وإبراء الذمة من حقوق الناس, والاستعداد للآخرة، وقد يكون منهمكاً في عمل الدنيا بعيداً عن ذكر الآخرة، فيفوّتُ عليه أن يكون آخر كلامِه "لا إله إلا الله".
أيها الإخوة: ومع كثرة موت الفجأة إلا أن أكثرنا في لهوٍ وغفلة، وكأن الأمر لا يعنيه ولن يأتيه أو يقرب من داره, قال ابن الجوزيّ: "الواجب على العاقل أخذ العدّة لرحيله؛ فإنّه لا يعلم متى يفجؤه أمرُ ربّه، ولا يدري متى يُستدعى، وإنّي رأيت خلقًا كثيرًا غرّهم الشّباب, ونسوا فقدان الأقران، وألهاهم طول الأمل".
فيا نائماً في غفلة، إلى متى هذه الغفلة، أتزعم أنك ستترك سُدى، وأن لا تحاسبَ غداً، أم تحسَبُ أن الموت يقبل الرِشا، كلا؛ والله لن يدفعَ عنك الموت مالٌ ولا بنون، ولا ينفع أهلَ القبور إلا العملُ المبرور، فطوبى لمن سمع ووعى، ونهى النفس عن الهوى (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى * وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى)
فإلى متى الغفلة -يا عباد الله-؟! فأكثروا من تذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد له, (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي تفرَّد بالحياة والبقاء، وكتب على عباده الموت والفناء، والصلاة والسلام على من خُتمت به الرسل والأنبياء وعلى آله وأصحابه وأتباعه الأولياء.
عباد الله: ماذا بعد الصحة إلا السقم؟! وماذا بعد البقاء إلا الفناء؟! وماذا بعد الشباب إلا الهرم؟! وماذا بعد الحياة إلا الممات؟! وماذا عند الموت إلا السكرات؟. إن السعيد من وعظ بِغَيْرِهِ، والشقي من وعظ بِنَفسِهِ، وَإِنَّمَا هِيَ سَاعَة وَاحِدَة، وَإِن امتد الْعُمر، يا هذا أين الذي جمعته من الأموال، وأعددته للشدائد والأهوال؟، لقد أصبحت كفك منه عند الموت خالية صُفراً، وبدلت من بعد غناك وعزك ذلاً وفقراً، أو ما علمت ياهذا: أنه لا بد من الارتحال، إلى يوم شديد الأهوال، وليس تنفعك إذ ذاك إلا ما عملت من صالح الأعمال.
يا مُطلقًا نفسه فيما يشتَهِي ويريد، اذكُر عند خُطواتك المُبدئ المعيد، وخَفْ قُبح ما جرَى فالله عليك شهيد (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).
كم من ظالمٍ تعدَّى وجار!, فما راعى الأهل ولا الجار، وبينما هو في قبائحه حلَّ به الموت، فحلَّ من ثيابه الأزرار, (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
خرج من الدنيا وما صَحِبَه سِوى الكفَن, إلى بيت الدود والبِلَى والعفَن، لو رأيتَه وقد حلَّت به الشدائدُ والمحن، وشين ذلك الوجهُ الحسن، فلا تسل عن حاله كيف صار, (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ).
سالَ في اللحد صديدُه، وبُلي في القبر جديدُه، وهجَرَه نسيبُه وقريبُه، وتفرَّق حَشَمُه وعبيدُه, فأين مجالسه الهانية؟ وأين عيشتُه الصافية؟ وأين لذَّاته الحالية؟ تقطَّعت به جميعُ الأسباب، وهجَرَه القرناءُ والأتراب، وصار فرشه التراب، وعلاه الطينُ والأحجار, (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ). (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ).
هُوَ المَوتُ ما منهُ ملاذٌ وَمهربُ ** متى حُطَّ ذا عن نَعشهِ ذاكَ يَركبُ
نؤَمِّلُ آمالاً وَنرجو نِتاجَها ** وَعلَّ الرَدى مِمّا نُرَجّيهِ أَقرَبُ
أيها الناس: أين أحبابُكم الذين سلفوا؟ أين أترابكم الذين رحَلوا وانصرَفُوا؟ أين أرباب الأموال وما خلفوا؟. عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ دخل المقبرة وأنشد:
أَتَيْتُ الْقُبُورَ فَنَادَيْتُهَا ** أَيْنَ الْمُعَظَّمُ وَالْمُحْتَقَرْ
وَأَيْنَ الْمُدِلُّ بِسُلْطَانِهِ ** وَأَيْنَ الْمُزَكِّي إِذَا مَا افْتَخَرْ
قَالَ: فَنُودِيتُ مِنْ بَيْنِهَا وَلَمْ أَرَ أَحَدًا:
تَفَانَوْا جَمِيعًا فَمَا مُخْبِرٌ ** وَمَاتُوا جَمِيعًا وَمَاتَ الْخَبَرْ
تَرُوحُ وَتَغْدُو بَنَاتُ الثَّرَى ** فَتَمْحُو مَحَاسِنَ تِلْكَ الصُّوَرْ
فَيَا سَائِلِي عَنْ أُنَاسٍ مَضَوْا ** أَمَا لَكَ فِيمَا تَرَى مُعْتَبَرْ
فتذكروا -رحمكم الله- حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟! وتذكروا: كم ودعتم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم.
ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم والقائد الكريم, الذي أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.