ويحك .. أتدري ما الله؟!

عبدالله اليابس
1439/07/04 - 2018/03/21 17:54PM

ويحك أتدري ما الله ؟          الجمعة 6/7/1439هـ  

الحمد لله الرقيب، الذي يسمع دعاء من دعاه وهو منه قريب, يعلم خائنة الأعين وما يخفيه صدر المريب, وأشهد أن لا إله إلا الله الحسيب، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين الأريب، صلى الله وسلم عليه وعلى كل صاحب وحبيب.

أما بعد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. أمر من الله عظيم .. وتوجيه رباني كريم .. من عمل به ارتقى إلى مراتب الإحسان.. ومن خالفه استحق الذل والهوان ..

يحتاج إليه الصغير والكبير.. والغني والفقير..

هو أصل عظيم من أصول العمل الصالح .. وقف عنده الصادقون.. ودندن حوله العارفون .. زينة الأعمال .. وغاية الصدق في الأقوال والأفعال ..

إنه مراقبة الله سبحانه وتعالى ..

روى أبو داوود في سننه من حديث جبير بن مطعم أن أعرابياً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ، جُهِدَتِ الْأَنْفُسُ، وَضَاعَتِ الْعِيَالُ، وَنُهِكَتِ الْأَمْوَالُ، وَهَلَكَتْ الْأَنْعَامُ، فَاسْتَسْقِ اللَّهَ لَنَا فَإِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِكَ عَلَى اللَّهِ وَنَسْتَشْفِعُ بِاللَّهِ عَلَيْكَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا تَقُولُ؟» وَسَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا زَالَ يُسَبِّحُ حَتَّى عُرِفَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَيْحَكَ إِنَّهُ لَا يُسْتَشْفَعُ بِاللَّهِ عَلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، شَأْنُ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيْحَكَ أَتَدْرِي مَا اللَّهُ).

نعم إنه الله تبارك تعالى .. فيا من يستخفي عن الناس بالمعاصي ويبارز الله بالآثام .. ويحك أتدري ما الله؟!

{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.

يعلم كل شيء .. يعلم ما في البر .. يعلم مافي البحر.. أرأيت تلك الغابات الملتفة .. بتلك المساحات الشاسعة .. انظر إلى شجرةٍ منها.. إن سقطت ورقة منها على الأرض فإن الله يعلمها .. بل يعلم حال الحبة التي في باطن الأرض .. بل يعلم حال كل رطوبة أو يُبوسة .. أتظنك باستخفائك عن الناس تخفى على الله .. ويحك .. أتدري ما الله؟!

جاء في حديث معاذ رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله؛ أوصني"، قال: «اعبد الله كأنك تراه».

قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: «الخاسر من أبدى للناس صالح عمله، وبارز بالقبيح من هو أقرب إليه من حبل الوريد! ».

وإذا خلوت بريبـةٍ في ظلمة  *** والنفس داعـية إلى الطغيان

فاستح من نظر الإله وقل لها  ***  إن الذي خلق  الظلام يراني

أيها الأخ الحبيب .. إذا دعتك نفسك للمعصية .. وتزين الإثم لك.. وتركتَ هذا الذنبَ لله.. أتعلم ما جزاؤك؟

إن من راقب الله تعالى كان مع السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.. فإن منهم: (رَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ).. كل هؤلاء راقبوا الله .. فظللهم بظله يوم لا ظل إلا ظله.

إن من راقب الله .. وترك ملاذ نفسه المحرمة لأجل الله وحده .. جازاه الله بمغفرة الذنوب ودخول الجنة.. {إنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}.

خرج عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما إلى مكة، فنزل في بعض الطريق، فانحدر عليه راع من الجبل، فقال له: يا راعِ، بعني شاة من هذه الغنم؟ فقال: إني مملوك. فقال: قلْ لسيدك أكلها الذئب. قال الراعي: فأين الله؟! فبكى ابن عمر رضي الله عنهما، ثم غدا إلى المملوك، فاشتراه من مولاه وأعتقه. واشترى تلك الغنم وأعطاها إياه, وقال: أَعتَقَتكَ في الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تُعتقك في الآخرة!

إن مراقبة الله تعالى سبب لحفظ العبد وتوفيقه في الدنيا والآخرة, قال ابن القيم رحمه الله: "وأرباب الطريق مُجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر سبب لحفظها في حركات الظواهر، فمن راقب الله في سره حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته".

من استشعر معية الله له: كيف يعصي الله؟

يقول عامر بن عبد القيس رحمه الله: "ما نظرتُ إلى شيء إلا رأيتُ الله تعالى أقرب إليه مني".

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

نعم .. سينبؤهم بما عملوا يوم القيامة .. اعمل اليوم بما شئت .. فسوف تُنبأ به غدًا .. وسترى كل شيء .. ولو كان مثقال ذرة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.

نعم والله .. ستراه غدًا.. تراه رأي العين.. {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَاوَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ ولا تَحسبنَّ الله يَغفل ساعةً *** ولا أن ما تُخفيه عنه يغيبُ

لَهَونَا عن الأيام حتى تتابعت *** ذنوب على آثارهن ذنوبُ

فياليت أن الله يَغفِرُ ما مضى **** ويأذنُ في توباتنا فنتوبُ

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .

فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. من استخفى عن الناس اليوم بالمعاصي ولم يستشعر مراقبة الله .. سينصدم غدًا .. حين يُفلس من الحسنات!

عن ثَوْبَانَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا، فَيَجْعَلُهَا الله عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا». قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ الله صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا؛ أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ. قَالَ: «أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ، وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ، وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا» رواه ابن ماجة.

يا الله .. إنهم من قوَّام الليل طاعة لله تعالى .. لكنَّ حسناتهم تكون هباءً منثورًا .. مشكلتهم أنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها!

اسأل نفسك أيها الأخ الكريم .. هل أنت ممن إذا خلى بمحارم الله حفظها أو انتهكها؟

إذا جلست مع هاتفك ودعتك نفسك لتصفح بعض المقاطع أو الصور أو المواقع .. هل تطيعها وتنتهكُ محارم الله؟ أم تُذكِّرُ نفسَك بقول الله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}.

والله إن الله يرى .. والله إن الله يعلم .. ونسأله ألا نأتي غدًا مفاليس.

قال ابن دقيق العيد رحمه الله: "ما تكلمت بكلمة ولا فعلتُ فعلاً، إلا أعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل".

إن من راقب الله تعالى في أموره، ألقى الله محبته في قلوب العباد، وعكسُه الذي لا يراقب الله تعالى؛ تُبغضه القلوب ..

قال أبو الدرداء رضي الله عنه: «ليَتَّقِ أحدُكم أن تلعنه قلوب المؤمنين وهو لا يشعر! يخلو بمعاصي الله؛ فيُلقي اللهُ له البغضَ في قلوب المؤمنين».

رُوي أن رجلاً كان يرابي في السرِّ، لا يعلم به أحدٌ، فمرَّ ذاتَ يومٍ بصبيانٍ يلعبون فقال بعضُهم لبعضٍ: جاء آكلُ الرِّبا! فنكَّسَ رأسَه، وقال في نفسِه: ربِّ أفشيت سِرِّي إلى الصبيانِ. فتابَ من ذنبِه، وجمعَ مالَه، وقال: ربِّ إني أسِيرٌ، وإني قد اشتريتُ نفسي منك بهذا المالِ فأعتِقْني، وتصدَّقَ بمالِه كلِّه واستقامَ سرُّه وإعلانُه، فمرَّ ذاتَ يومٍ بأولئك الصِّبيَةِ، فلما رأوه قال بعضُهم لبعضٍ: اسكتوا فقد جاءَ فلانٌ العابدُ، فبكى ذلك الرجلُ.

فيا أيها المحب .. أما آن لله الرجوعُ والخضوع .. أما أن تُسكَب على مامضى من العينين الدموع..  أما آن أن تُطَلِّق حياة الخيانة لمحارم الله .. وتنظم إلى المحسنين .. المراقبين الله في السر والعلن ..

{ قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}.

اللهم اقبل التائبين .. واعف عن المذنبين .. وأصلح أحوالنا أجمعين .. يا رب العالمين ..

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

الله-6-7-1439

الله-6-7-1439

المشاهدات 3436 | التعليقات 0