وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
أبوزيد السيد عبد السلام رزق الأزهري
وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ
نعيش مع خلق عظيم من أخلاق الإسلام يربي القلوب علي المودة ويغرس في قلوب المؤمنين الرحمة إنه خلق الإيثار وهو أن تقدم حقوق الخلق علي حقك وأن تبذل ما تحتاجه لمن هو أحوج إليك منه وهو خلق أثني الله تعالي به علي الأنصار قال عز من قائل { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ } في صحيح مسلم عن عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ إِنِّى مَجْهُودٌ. فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِى إِلاَّ مَاءٌ. ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِى إِلاَّ مَاءٌ. فَقَالَ « مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ». فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ هَلْ عِنْدَكِ شَىْءٌ. قَالَتْ لاَ إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِى. قَالَ فَعَلِّلِيهِمْ بِشَىْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئِى السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِى إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ. قَالَ فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ « قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ ». فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ }قال بن كثير أي يقدمون المحاويج علي حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال إحتياجهم إلي ذلك .
وأعلي درجات الإيثار أن تؤثر حب الله تعالي ورسوله كل شيئ لتجد حلاوة الإيمان في قلبك في صحيح مسلم عن أَنَسٍ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبّ إِلَيْهِ مِمّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبّهُ إِلاّ لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُود فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النّارِ".ومن يؤثر محبة الله تعالي ورسوله علي ما سواهما ينعم بجوار الله ورسوله في جنة عرضها كعرض السماء والأرض عن أَنسٍ رضى الله عنه : أَنَّ أَعرابيًّا قَالَ لرسول اللَّه ﷺ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟ قَالَ: حُبُّ اللَّهِ ورسولِهِ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ. متفقٌ عَلَيهِ، وهذا لفظ مسلمٍ ،قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ))، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ أعْمَالَهَم. وفي رواية قال: بينما أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خارجانِ من المسجد، فَلَقِيَنَا رجلٌ عندَ سُدَّةِ المسجدِ؛ عند بابه، فقال يا رسول الله: متى الساعة؟ قال: ((ما أعْدَدْتَ لها؟)). فكأنَّ الرجُلَ اسْتَكَانَ؛ يعني أصابه خضوع واستِعظامٌ لهذا السؤال، فكأنَّ الرجلَ استكانَ، فقال: يا رسول الله ما أعددتُ لها كثيرَ صيام ولا صلاةٍ ولا صدقةٍ، ولكني أُحِبُّ اللهَ ورسولَهُ، قال عليه الصلاة والسلام: ((أنتَ معَ مَن أحبَبْتَ)). أخرجه البخاري ومسلم. . وعن ابنِ مسعودٍ رضى الله عنه قَالَ: جاءَ رَجُلٌ إِلى رسولِ اللَّه ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه، كَيْفَ تَقُولُ في رَجُلٍ أَحبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رسولُ اللَّه ﷺ: المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ متفقٌ عَلَيهِ.
وأفضل ما تنال به محبة الله تعالي قراءة القرآن بتدبر حسن الألباني في السلسلة الصحيحة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم قال " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُحِبَّ الله وَرَسُولَهُ فَلْيَقْرَأْ في المُصْحَفِ " ، يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن؟! أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا. وعن عباس بن دهقان قال قلت لبشر بن الحارث أحب أن أخلو معك قال إذا شئت فبكرت يوما فرأيته قد دخل قبة فصلى فيها أربع ركعات لا أحسن أن أصلي مثلها فسمعته يقول في سجوده اللهم إنك تعلم فوق عرشك أن الذل أحب إلي من الشرف اللهم إنك تعلم فوق عرشك أن الفقر أحب إلي من الغنى اللهم إنك تعلم فوق عرشك أني لاأوثر على حبك شيئا فلما سمعته أخذني الشهيق والبكاء فلما سمعني قال اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن هذا ههنا لم أتكلم " بشر بن الحرث قال عنه صاحبه عباس بن دهقان ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلا بشر بن الحرث أتاه رجل في مرض الموت فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه ولما مات إستعاروا له كفن يدفن به رضوان الله تعالي عليه .
والإيثار يكون في الملبس والمأكل والمدفن فأما الإيثار في الملبس
في صحيح البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ أنَّ أمْرَأةً جَاءَتْ إِلَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ ، فَقَالَتْ : نَسَجْتُها بِيَدَيَّ لأَكْسُوكَهَا ، فَأَخَذَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجاً إِلَيْهَا ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَإنَّهَا إزَارُهُ ، فَقَالَ فُلانٌ : اكْسُنِيهَا مَا أحْسَنَهَا ! فَقَالَ : (( نَعَمْ )) فَجَلَسَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في المَجْلِسُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَواهَا ، ثُمَّ أرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ : فَقَالَ لَهُ الْقَومُ : مَا أحْسَنْتَ ! لَبِسَهَا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُحتَاجَاً إِلَيْهَا ، ثُمَّ سَألْتَهُ وَعَلِمْتَ أنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلاً ، فَقَالَ : إنّي وَاللهِ مَا سَألْتُهُ لألْبِسَهَا ، إنَّمَا سَألْتُهُ لِتَكُونَ كَفنِي . قَالَ سَهْلٌ : فَكَانَتْ كَفَنَهُ " وفي فصل الشتاء ومع برودة الجو وهبوب الرياح يتأكد الإيثار بالملبس والغطاء أن تؤثر من يفترشون الأرض ويلتحفون السماء بالغطاء الذي يكفيهم مؤنة الشتاء يقول عتبة بن غزوان رضي الله عنه: ( لقد رأيتنا بالشعب مع النبي صلى الله عليه وسلم وما منا أحد إلا وهو يعصب الحجر على بطنه من الجوع، ولقد خرجت ذات ليلة لقضاء بعض حاجتي فوقعت يدي على شيء، فإذا هو جبة فنفضتها فأتيت بها أصحابي، فاقتسمتها أنا و سعد بن مالك اتزرت بنصفها واتزر بنصفها، ثم والله الذي لا إله غيره لقد رأيت أولئك النفر وما منهم أحد إلا وهو وال على مصر من الأمصار ).
رأى رَجلٌ في الشَّامِ رؤيا عجيبةً في المنامِ، فجهَّزَ لها متاعَه ودابتَه، ثُمَّ انطلقَ إلى المدينةِ النَّبويةِ، يسيرُ الليلَ والنَّهارَ، ويقطعُ الفَيافيَ والقِفارَ، حتى إذا بَلغَ المدينةَ صارَ يقولُ للنَّاسِ: دُلُّوني على صفوانَ بنِ سُليمٍ، فقِيلَ له: وما حاجتُكَ بصفوانَ بنِ سُليمٍ؟، قالَ: رأيتُه في المنامِ وقد دَخلَ الجَنَّةَ، فقيلَ له: بأيِّ شيءٍ؟، قالَ: بقَميصٍ كَساهُ إنسانًا.. فسُئلَ صَفوانُ -رحمَه اللهُ- عن قِصَّةِ القَميصِ، فقَالَ: “خرجتُ من المسجدِ في ليلةٍ بارِدةٍ فإذا رجُلٌ عُريانٌ، فنزعتُ قَميصي فكسوتُه“.
رأى مسعر أعرابيا يتشرق في الشمس و هو يقول :
جاء الشتاء و ليس عندي درهم … و لقد يخص بمثل ذاك المسلم
قد قطع الناس الجباب و غيرها … و كأنني بفناء مكة محرم
فنزع مسعر جبته فألبسه إياها .
الإيثار بالمأكل يتجلى في قبيلة الأشعريين
لقد مدح النبي صلوات الله تعالي عليه قبيلة الأشعريين لتكاتفهم في الأزمات ومواساة بعضهم البعض في الكربات وعند الملمات والنبي يقول ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلي جنبه وهو يعلم ويقول كم من جار متعلق بجاره يوم القيامة يقول يارب سل هذا لم أغلق عني بابه ومنعني فضله في الصحيحين عن أَبِي مُوسى الأشعري قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ،" أي: فَرَغَ زَادُهُمْ أَوْ قَارَبَ الفَرَاغَ وَأَصْله مِنْ الرَّمْلِ كَأَنَّهُمْ لَصِقُوا بِالرَّمْلِ مِنْ الْقِلَّةِ " أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ، فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ " وفي رواية لمسلمٍ عن جابر - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ : (( طَعَامُ الوَاحِدِ يَكْفِي الاثْنَيْنِ ، وَطَعَامُ الاثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ ، وَطَعَامُ الأَرْبَعَة يَكْفِي الثَّمَانِية ) وكـجعفر بن أبي طالب الذي يقول فيه أبو هريرة : ( ما رأيت رجلاً أكرم من جعفر بن أبي طالب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنا نذهب إليه يطعمنا ما عنده، فإذا لم يجد شيئاً يعصر القربة التي فيها السمن حتى يستخرج كل ما فيها، ثم يقطع لنا القربة حتى نلعق ما بداخلها، من شدة الجوع الذي أصابنا) قال الله تعالي " وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا " قال الفخر الرازي وَجَزَاهُمُ اللهُ بِصَبْرِهِمْ عَلَى الإِيْثَارِ ، وَمَا يُؤَدِّي إِلَيهِ مِنَ الجُوعِ وَالعُرْيِ ، جَنَّةً لَهُمْ فِيهَا مَنْزِلٌ رَحْبٌ ، وَعَيْشٌ رَغْدٌ ، وَلِبَاسٌ مِنْ حَرِيرٍ جزاهم الله تعالي بالإيثار بستاناً فيه مأكل هنيء وحريراً فيه ملبس بهي
الإيثار بالمدفن
في صحيح البخاري عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْ يَقْرَأُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَلَيْكِ السَّلَامَ ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيَّ قَالَتْ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي فَلَأُوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ مَا لَدَيْكَ قَالَ أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ مَا كَانَ شَيْءٌ أَهَمَّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ فَإِذَا قُبِضْتُ فَاحْمِلُونِي ثُمَّ سَلِّمُوا ثُمَّ قُلْ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَادْفِنُونِي وَإِلَّا فَرُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ "
الإيثار بالموت
في شعب الإيمان عَنْ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ، قَالَ: " انْطَلَقْتُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمِيَ، وَمَعِي شَنَّةٌ مِنْ مَاءٍ، أَوْ إِنَاءٍ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْتُهُ مِنَ الْمَاءِ، وَمَسَحْتُ بِهِ وَجْهَهُ، فَإِذَا أَنَا بِهِ يَنْشَعُ،يتصبب جبينه عرقا من السكرات وشدة الموت فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ ؟ فَأَشَارَ: أَيْ نَعَمْ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: آهٍ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِيَ أَنْ أَنْطَلِقَ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ أَخُو عَمْرٍو، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَسْقِيكَ ؟ فَسَمِعَ آخَرَ فَقَالَ: آهٍ، فَأَشَارَ هِشَامٌ: أَنْ أَنْطَلِقَ بِهِ إِلَيْهِ، فَجئْتُهُ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْتُ إِلَى ابْنِ عَمِيَ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ فماتوا جميعا ولم يشربها أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم .
الإيثار بالجوع
ذكروا أن الوزير المهلبي (في دولة بني بويه) قد كان في شدة عظيمه قبل توليه الوزارة، ويذكر لنا التاريخ أنه كان فقيراً معدماً لا يملك قوت يومه، حتى أنه سافر ذات مرة مع صديق له يدعى بـ(أبو عبد الله الصوفي) فأخذ يتمنى الموت من شدة فقره وجوعه، وأنشد يقول:
ألا موتٌ يُباعُ فأشتريه ** فهذا العيشُ ما لا خَيرَ فيهِ
ألا موتٌ لذيذُ الطعمِ يأتي ** يُخَلِّصَنِي من العيشِ الكَريهِ
إذا أبصرتُ قبراً مِن بعيدٍ ** وددتُ لو أنني مما يليهِ
ألا رَحِمَ المهيمنُ نَفْسَ حُرٍ ** تصدَّقَ بالوفاةِ على أخيهِ!
فلما سمع صاحبه الأبيات اشترى له لحما و طبخه و أطعمه و تفارقا.
ثم إن الأحوال تنقلت بالمهلبي فتولى الوزارة و ضاقت الأحوال بصاحبه الذي اشترى له اللحم، فقصده، فبعث برقعةٍ إلي الوزير المهلبي مكتوب فيها :
ألا قل للوزير فدته نفسي *** مقالة مُذَكِّرٍ ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيشٍ *** ألا موت يباع فأشتريه؟
فلما قرأ الرقعة تذكره، وهزته أريحية الكرم، فأمر له في عاجل الحال بسبعمائة درهم، ووقع تحت رقعته: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة : 261]، ثم قلَّده عملاً يرتفق به ويرتزق منه.
هذا وصلى الله وسلم على البشير النذير والسراج المنير