ونزل الثلج .. وقفات وعظات

شعيب العلمي
1437/04/07 - 2016/01/17 12:23PM
عناصر الخطبة :
بيان خلق العجلة في الإنسان ومن مظاهره : استعجال استجابة دعاء الاستسقاء/ضرورة حسن الظن بالله في إجابة الدعاء عموما والاستسقاء خصوصا/الغيث فتنة من قبل ومن بعد/نزول الغيث رغم الإصرار على العصيان/التفكر والاعتبار بآية الثلج.

الخطبة الأولى :

..............
في سورة الأنبياء قال الله :
[font="]﴿[/font]خُلق الإنسان من عجل، وفي الإسراء [font="]: ﴿[/font]وكان الإنسان عجولا﴾، لأنّه يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، ومن عجلته، أنّه ما إن لـملم الصّيف أوراقه، وحطّ الخريف رحاله، حتى تعالت عبارات القنوط وتوالت الشّكوى، إنّها سنة الجفاف، وعام البلوى، فسبحان من خلق الذكر والأنثى .
استسقى الناس ـ بل بعض الناس ـ وانتظروا يوما ويومين، وأسبوعا وأسبوعين، وما نزل من الغيث ما يُزيل القنوط حتى خُشي أن يمضى الشهرُ والشهران؛ لكن الله خيّب ظنّ القانطين، وكان عند حسن ظنّ الظانين؛ فـ :
﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ .
ليعلمنا الله درسا عظيما ـ بل دروسا : ليس من أقلّها أنّ الله لا يخلف الميعاد، أمرنا أن ندعوه ووعدنا أن يستجيب، ﴿ وقال ربكم أدعوني استجب لكم
، غير (أنّ الإجابةَ تتنوَّع ـ كما قال ابن حجر رحمه وغفر له ـ فتارة يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارة يقع ولكن يتأخَّر لحكمةٍ، وتارة قد تقع الإجابةُ ولكن بغير عين المطلوب)، وفي مثل هذا روى البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: « ما مِن مسلمٍ يدعو بدعوةٍ ليس فيها إثمٌ ولا قطيعةُ رحِم؛ إلاَّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن يُعجِّل له دعوتَه، وإمَّا أن يدَّخِرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرفَ عنه من السوء مثلَها، قالوا: يا رسول الله إذاً نُكثر، قال: الله أكثر »، ألا فادعوا ربكم في استجلاب حوائجكم وأكثروا، وتيقّنوا الإجابة من باريكم ولا تستعجلوا، ففي المتفق عليه من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي» .
عباد الله : اعلموا رحمني الله وإياكم أنّ هذا الغيث الذي طلّ، وذلك الثلج الذي حلّ، إنّه لبلاء وفتنة، من قبلُ ومن بعدُ، ولم آت ببدع من القول إنما هو المسطور، في وحي ربّنا الغفور:﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾ .
ابتلانا الله بالشرّ : فأخّر عنّا القطر، وحبس عنّا المطر؛ ليتوب تائب ويؤوب آيبويستغفر مستغفر ويستعتب مستعتب، ابتلانا الله بالمنع ليرى لمن لجَأُنا؟ فلجأ أقوام لربهم، فحققوا التوحيد، واستسقت ثلة بالخرافة والأهواء، وآخرون ذبحوا القرابين للقبور والأولياء، فوقعوا في شراك الشرك والتنديد.
ابتلانا الله بالمنع ليرى كيف صبرنا؟ فصبر أقوام وأحسنوا الظن بربهم، وأملوا الخير من رازقهم، وسخط آخرون فأساءوا الظن بربهم، وقنطوا من رحمة خالقهم. وها هو ذا جل وعلا يبتلينا بالعطاء والخير، فأنزل الغيث وأزال عنّا الضير، ليرى حمدنا؟ وكيف شكرنا؟ ﴿
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا [أي : فيشكروا له] فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً﴾، لا جعلني الله وإياكم من الكافرين نعمه علينا، بل جعلنا الله من الشاكرين، الحامدين كماله المثنين عليه آناء الليل وأطراف النهار: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ* لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، فهلا تشكرون ربكم على إنزال الماء العذب لنفعكم، ولا يسع المؤمن إلا أن يقول : بلى والله، والحمد لله .
عباد الله : عبارة ترددت يوم الاستسقاء على منابرنا وتكررت في المجالس على ألسنتنا؛ مفادها: (أنّ ما عشناه من شحّ المطر، وتأخّر القطر، إنما هو بسبب الذنوب والمعاصي وما منها انتشر) فهل أخطأ الأئمة والخطباء ؟ كلا ، وهل كذب العامّة و الدهماء؟ حاشا، بل هو حقّ واقع، ماله من دافع :
قال ربّ البرية جل وعلا : ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، وقال خير البرية صلى الله عليه وسلم في القوم :« وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ[ أي بالقحط ]وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ »[ صحيح ابن ماجه].
ولقد وعد ربنا العباد : ﴿أَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً
فها هو الماء قد نزل ، وها هو الثلج قد حل ، فيا ترى هل كان ذلك جزاء استقامتنا؟ وهل كان ذلك مقابل توبتنا وطاعاتنا؟ من يتجرأ أن يجزم بذلك؟ليس إلا مغرور بنفسه، وآمن من مكر ربّه هالك .
ولو جزم جازم أن رحمة الله التي أدركتنا، ورأفته التي شمتلنا، إنما هي بسب البهائم فلعله لم يكن من الكاذبين، كيف لا والصادق المصدوق يقول : «ولولا البهائم لم يمطروا»
[صحيح ابن ماجه].
ألسنا نرى الجهل قد طمّ والمنكر قد عمّ، شهواتٌ ومُتَع، وهوًى متَّبع، وأجيالٌ تربّت على العبَث، ومجتمعاتٌ فشت فيها قنواتُ الخبَث، أضرحةٌ تُعبَد، وقبورٌ تُقصَد، لها ينذر ومن أصحابها يطلب المدد، أضحى الربا والزنا والغناء، ومشاهد العهر والعري والخنا، كالأمر المباح، الذي لا حرج فيه ولا جناح، صار تبرج النساء عاديّا، وتشبه الشباب بالكفار أمر حتميّا، همُّ الواحد منهم مظهره، ووجهه وشعره،ضيعوا الصلوات، وعقّوا الآباء والأمهات، وانشغلوا بالتفاهات، ولم يقبلوا النصائح والتذكرات، زاد الظلم والبطر، وكثر البطش و القهر، وتُرك الحكم بما أنزل الله، ومَنَعَ قومٌ من أموالهم حقَّ الإله، فهل تُرى نقول بعد ذا لقد سُقينا ماء غدقا!
عباد الله : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، تقول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وعن أبيها ولعن الله مبغضيها : يا رسول الله، أرى الناسَ إذا رأَوا الغيمَ فرِحوا رجاءَ أن يكونَ فيه المطَر، وأراكَ إذا رأيتَه عرفتُ في وجهِك الكراهيةَ!! فقال: ((يا عائشة، ما يؤمِّنُني أن يكونَ فيه عذاب، قد عُذِّب قومٌ بالرّيح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هذا عارضٌ ممطِرنا)) [مسلم]، هذا رسول الله وما أدراك ما رسول الله، وما أدراك بمن مع رسول الله من الصحابة الأطهار والصالحين الأخيار، غير أنه لم يأمن مكر الله، ألسنا أحقَّ بأن تُرى الكراهية في وجوهنا منه صلى الله عليه وسلم؟ لكننا نفرح ونحن المذنبون المقصرون، الذين على معاصيهم مصرون؟ بلى والله نحن الأحق ...
وإنا لنخشى والحال من السّوء ما نسمع ونرى أن يصدُق فينا ما رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَتِ السَّنَةُ [أي القحط]بِأَنْ لَا تُمْطَرُوا، وَلَكِنِ السَّنَةُ أَنْ تُمْطَرُوا وَتُمْطَرُوا، وَلَا تُنْبِتُ الْأَرْضُ شَيْئًا» ؟ فلا تحصل بركة مما نزل .
إنّا لنخشى والحال من السوء ما نسمع ونرى
أن يحقّ علينا ما رواه أحمد وصححه الألباني عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج " ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .

الخطبة الثانية :
............

دخل بلال على النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة، فرآه يبكي، فقال: يا رسول الله، تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر! قال: [font="]«أفلا أكون عبدا شكورا؟! لقد أُنزلت عليَّ الليلة آية، ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾[/font][font="]»، إنها دعوة للتفكر في ملكوت الأرض والسموات واليل والنهار وسائر الآيات فهلا أطلقنا لفكرنا العنان، يهيم في ملكوت الرحمن؛ لعلّه يتجدّدُ به الإيمان، ويُنال به رضا الديّان، ﴿إِنَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُون تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ [/font]نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ .
تأمل في تلك الثلوج، تفكر في بياضها، وتذكر حوض نبيك المورود في عرصات القيامة، بعد العطش الشديد من قرب الشمس من الخلائق قدر ميل، الحوض
الذي قال عنه عليه الصلاة والسلام : « إِنَّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ » وجاء في وصفه : « من شرب لم يظمأ أبدًا، وليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم منّي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن بدّل بعدي »، قال ابن عبد البر - رحمه الله : (كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء)، وقال أيضًا : (وكذلك الظلمة المسرفون في الجور وطمس الحق المعلنون بالكبائر) ا.هـ فإياكم والبدع، إياكم والمحدثات في الدين، في المعتقدات والأقوال والأعياد والأفعال .
تأمل تلك الثلوج وتفكر في جمالها على الجبال ضافية، وللأشجار كاسية، فكيف بجمال خالقها، أما «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ، كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ، لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ـ وهما الْعَصْرَ وَالْفَجْرَ ـ فَافْعَلُوا» واستعينوا على غضّ أبصاركم عن محارم الدّنيا بذكر محاسن وجمال خالقها وخالق جمالها .
تأمّل تلك الثّلوج وتفكّر في بردها وتذكّر بلفحاته عذاب جهنّم، فقد جاء في صحيح مسلم : «
[font="]قَالَتِ النَّارُ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ، فَأُذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ، أَوْ زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ » .
وتذكّر بلفحاته إخواناً لك لا يجدون مسكنا يأويهم، ولا كساء أو فراشا يحميهم، ولا طعاماً يُقوِّي عودهم، ولا يملكون مدافئ تقيهم، فمن كانت له يد في عونهم فلا يحرمنّ إخوانه العون، ولا يحرمنّ نفسه الأجر.[/font]
اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار، وعذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة القبر، ومن شر فتنة الغنى، ومن شر فتنة الفقر، ومن شر المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد، وأنق قلبي من الخطايا كما أنقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب ...
المشاهدات 3557 | التعليقات 2

بوركت بوركت ياشيخ جزاك الله خيرا وجعلها في ميزان حسناتك يوم القيامة
خطبة جامعة ورائعة بحق

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه

بارك الله فيك.


عبد الغني;30147 wrote:
بوركت بوركت ياشيخ جزاك الله خيرا وجعلها في ميزان حسناتك يوم القيامة
خطبة جامعة ورائعة بحق

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه

بارك الله فيك.
آمين وفيكم بارك الله وخيرا جزاكم الله