وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

الخطبة الأولى

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.

{ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَآء وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبا}.

أما بعد...

اتقوا الله -عز وجل- وتذكروا أن هذه الدنيا إنما هي دار ابتلاء، يبتلى الإنسان فيها بالضراء فيصبر، وبالسراء فيشكر، يبتلى فيها بالمر والأسقام، والحلو من المال والأهل والولد، لينظر الله في أفعال عباده، فيرفع في درجاتهم، أو يحبط أعمالهم، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
أيها المسلمون:

أعمارنا وأموالنا، وعلمنا وأجسادنا محطات للامتحان، وهي مسؤولية كل إنسان، مسؤول عنها لا محالة، ومحاسب عليها بين يدي الله.

عن أبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يسألَ عن عمرِهِ فيما أفناهُ ، وعن عِلمِهِ فيمَ فعلَ، وعن مالِهِ من أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ) رواه الترمذي وصححه الألباني.
ففي هذا الحديث النبوي العظيم بيان أن كل ما يكتسبه الإنسان وينفقه هو محل سؤال ومحاسبة، صغر أم كبر،  دق أم عظم، وما يكتسبه الإنسان إما أن يكون حلالا أو حراما، أو مشتبها، ولا يتجنب المشتبه إلا من استقامت فطرته وصلحت سريرته، ورق قلبه من خشية الله، وراقب الله في كل أحواله.

عن النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُول: (الحَلَالُ بَيِّنٌ، والحَرَامُ بَيِّنٌ، وبيْنَهُما مُشَبَّهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضِهِ، ومَن وقَعَ في الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أنْ يُوَاقِعَهُ، ألَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، ألَا إنَّ حِمَى اللَّهِ في أرْضِهِ مَحَارِمُهُ، ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألَا وهي القَلْبُ) رواه البخاري ومسلم.

قال ابن رجب –رحمه الله-:(من اتقى الأمور المشتبهة عليه التي لا تتبين له أحلال هي أم حرام، فإنه مستبرئ لدينه، بمعنى أنه طالب له البراءة والنزاهة مما يدنسه ويشينه).

أيها المسلمون:

النزاهة في الأموال واجتناب الفساد فيها علامة إيمان، في زمن قلت فيه النزاهة وفشت فيه الخيانة، مصداقا لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:(لَيَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ زَمانٌ، لا يُبالِي المَرْءُ بما أخَذَ المالَ، أمِنْ حَلالٍ أمْ مِن حَرامٍ). رواه البخاري
وإن من أعظم ما استودع الله العبد الأمانة، ولقد استعاذ النَّبِيُّ –- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:- من الخيانة، كما في جاء في دعائه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وأعوذُ بِكَ منَ الخيانةِ ، فإنَّها بئستِ البِطانةُ) رواه أبو داوود من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- وحسنه الألباني.
الفساد آفة خطيرة، وظاهرة مقيتة، وداء عضال، إذا استشرى بأمة ضاع ميزان العدل فيها، وأكل قويها ضعيفها، واعتلى السفهاء أكتاف عقلائها، وسرقت الأموال، ونهبت الخيرات والثروات، وضيعت الأمانات، وآثاره السلبية المدمرة تطال جميع مقومات الحياة، وتكون سببا في تراجع الأمم أخلاقيا واقتصاديا، ويجعل تعامل الأفراد بينهم لدافع المادية والمصلحة الذاتية، دون مراعاة للأوامر الشرعية، أو القيم المجتمعية.

أيها المسلمون:

كل انحراف بالوظيفة العامة أو الخاصة عن مسارها الذي وضعت له ووجدت لخدمته، فهو فساد وجريمة وخيانة، وكل اعتداء على المال العام بغير حق، أو الحقوق العامة، فهو موجب لغضب الله وعقابه.

عن حُذَيْفَةَ بنِ أُسَيدٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (من آذَى المسلمين في طُرُقِهم، وجبت عليه لعنتُهم). أخرجه الطبراني، وصححه الألباني.
وعن أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنَّ رَسولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:(اتَّقوا اللَّاعِنَينِ ، قالوا: وما اللَّاعنانِ يا رسولَ اللَّهِ ؟ قالَ الَّذي يتخلَّى في طريقِ النَّاسِ أو ظلِّهِم) رواه أبو داوود، وصححه الألباني
وإذا كان هذا التشديد في العقوبة على من تعرض للطريق العام أو الظل، فكيف بمن اعتدى على أموال المسلمين وحقوقهم، وأخذ منها بغير وجه حق، وكان ماله مالا سحتا حراما (إنَّهُ لا يربو لحمٌ نبتَ من سحتٍ إلَّا كانتِ النَّارُ أولى بِهِ) كما قال ذلك - عليه الصلاة والسلام – لكعب بن عجرة –رضي الله عنه- ، والحديث في الترمذي ، وصححه الألباني.

أيها المسلمون:

المال العام مسؤولية كل إنسان، وتعظم المسؤولية في حق من استرعاهم الله رعية، أو كانت أموال المسلمين ومصالحهم تحت أيديهم، ومن تولى وظيفة أيا كانت، فهو مسؤول أمام الله جل وعلا عن كل ما خول فيه، لا يجوز له أن يتصرف في صغير ولا كبير، ولا جليل ولا حقير، إلا وفق شرع الله، وما اقتضته الأنظمة التي نظمت لتحقيق المصالح العامة للأمة، والمنافع المتنوعة للكافة، والتفريط في ذلك مجرم في شريعتنا.

والاعتداء على المال العام حرمه الله على رسله وأنبيائه، وتوعد عباده بأنواع الوعيد الشديد لمن اقترف شيئا منه، ومات على ذلك ولم يتب، يقول عز وجل {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ۚ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}. ولذلك سلب من المعتدي على المال العام، والآكل منه بغير وجه حق وصف الإيمان، حتى وإن كان ظاهر أعماله من أعمال الصالحين والمتقين.
فعن ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما – قَالَ: لَمَّا كانَ يَوْمُ خَيْبَرَ، أقْبَلَ نَفَرٌ مِن صَحابَةِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فقالوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فُلانٌ شَهِيدٌ، حتَّى مَرُّوا علَى رَجُلٍ، فقالوا: فُلانٌ شَهِيدٌ، فقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: (كَلّا، إنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّها، أوْ عَباءَةٍ)، ثُمَّ قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: (يا ابْنَ الخَطَّابِ، اذْهَبْ فَنادِ في النَّاسِ، أنَّه لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا المُؤْمِنُونَ)، قالَ: فَخَرَجْتُ فَنادَيْتُ: ألا إنَّه لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إلَّا المُؤْمِنُونَ. رواه مسلم.
وفي الصحيحين من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ، ولَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا ولَا فِضَّةً، إنَّما غَنِمْنَا البَقَرَ والإِبِلَ والمَتَاعَ والحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى وادِي القُرَى، ومعهُ عَبْدٌ له يُقَالُ له: مِدْعَمٌ، أهْدَاهُ له أحَدُ بَنِي الضِّبَابِ، فَبيْنَما هو يَحُطُّ رَحْلَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ، حتَّى أصَابَ ذلكَ العَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا له الشَّهَادَةُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (بَلْ، والذي نَفْسِي بيَدِهِ، إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتي أصَابَهَا يَومَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عليه نَارًا)، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذلكَ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشِرَاكٍ -أوْ بشِرَاكَيْنِ- فَقَالَ: هذا شَيءٌ كُنْتُ أصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: (شِرَاكٌ -أوْ شِرَاكَانِ- مِن نَارٍ).

ولذلك سمي الغلول بهذا الاسم، لأنه يغل يد صاحبه كالأسير المغلولة يده بالحديد، حتى وإن كان هذا المال شيئا يسيرا، ما دام أنه أخذه بغير وجه حق.

عن عَدِي الكِنْدِي –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: (مَنِ استعْمَلْناهُ منكم علَى عملٍ ، فكتمَنَا مَخِيطًا فما فوقَهُ ، كان ذَلِكَ غُلُولًا يَأْتِي بِهِ يومَ القيامَةِ) رواه مسلم.
والمخيط هو الإبرة التي يخاط بها الثياب.

وعن زَيْدِ بنِ خَالدِ الجُهَنِيّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلًا من أصحابِ النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ توفي يومَ خيبرَ، فذكروا ذلك لرسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فقال: (صلوا على صاحبِكم)، فتغيرت وجوهُ الناسِ لذلك، فقال: (إن صاحبَكم غلَّ في سبيلِ اللهِ)، ففتشنا متاعَه، فوجدنا خرزًا من خرزِ يهودٍ؛ لا يساوي درهمين. رواه الإمام أحمد، وصححه الألباني
وليس الأخذ من المال العام فقط بغير وجه حق هو المحذور والمنهي عنه، بل إن أي استغلال للوظيفة العامة تؤدي لأن يتعامل صاحبها بغير العدل أخذا أو عطاء هي من الاعتداء المحرم، وهو من كبائر الذنوب وقبائح الأمور.

في البخاري من حديث خَوْلَةَ بنتِ قَيْسٍ الأنْصَارِيّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُول: (إنَّ الدُّنيا خَضِرةٌ حُلوةٌ وإنَّ رجالًا يَتخوَّضونَ في مالِ اللَّهِ ورسولِهِ بغَيرِ حقٍّ لَهُمُ النَّارُ يومَ القيامةِ).
قال ابن حجر -رحمه الله- : (أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل).

وقد نص فقهاء المسلمين على جعل المال العام بمنزلة مال اليتيم، في وجوب المحافظة عليه، وشدة تحريم الأخذ منه، والحرص الشديد على صرفه في مصارفه الحقيقية التي تقتضيها المصالح، وعلى عدم التهاون في صرفه، بأي وجه من وجوه التفريط.

ومن صور الاستغلال والاعتداء الغش، فتقدم المصالح الشخصية على المصالح العامة، وتتم محاباة المعارف والأقربين، فلا عدل في التوظيف وتكافؤ الفرص، ولا ترسية في المنافسات والمناقصات إلا للأقارب والأحباب، أو وفق المصالح الخاصة والشخصية، وهذا كله من غش الدولة، ومن الجور على الناس، والخيانة في الأمانة.

عن عَبْدِاللهِ بنِ عَمْرو –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- أنَّ رَسولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (الدنيا حلوةٌ خضرةٌ، فمنْ أخذَها بحقِّها بوركَ لهُ فيها، و رُبَّ مُتَخَوِّضٍ فيمَا اشتهتْ نفسُهُ ليسَ لهُ يومَ القيامةِ إلا النارُ) أخرجه الطبراني.
ومن صور الاستغلال والاعتداء الرشوة، وكل مال يأخذه المسؤول من الناس بغير وجه حق هو من الرشوة التي جاءت الشريعة بالتحذير منها ولعن أصحابها، كما روى الإمام أحمد من حديث ثَوبَانَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَنَ الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي وَالرَّائِش الذِي يَمشِي بَيْنَهُما.

ومن أعظم ما جاء في أخبار الرشوة ما جاء في حديث أبي حُمَيْدِ السَّاعِدِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اسْتَعْمَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَجُلًا علَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، يُدْعَى ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قالَ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: فَهَلَّا جَلَسْتَ في بَيْتِ أبِيكَ وأُمِّكَ، حتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إنْ كُنْتَ صَادِقًا ثُمَّ خَطَبَنَا، فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: أمَّا بَعْدُ، فإنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنكُم علَى العَمَلِ ممَّا ولَّانِي اللَّهُ، فَيَأْتي فيَقولُ: هذا مَالُكُمْ وهذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، أفلا جَلَسَ في بَيْتِ أبِيهِ وأُمِّهِ حتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ، واللَّهِ لا يَأْخُذُ أحَدٌ مِنكُم شيئًا بغيرِ حَقِّهِ إلَّا لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَومَ القِيَامَةِ، فَلَأَعْرِفَنَّ أحَدًا مِنكُم لَقِيَ اللَّهَ يَحْمِلُ بَعِيرًا له رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أوْ شَاةً تَيْعَرُ ثُمَّ رَفَعَ يَدَهُ حتَّى رُئِيَ بَيَاضُ إبْطِهِ، يقولُ: اللَّهُمَّ هلْ بَلَّغْتُ بَصْرَ عَيْنِي وسَمْعَ أُذُنِي. رواه البخاري ومسلم
 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولك من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا وحده لا شريك تعظيما لشأنه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين. أما بعد ...

فإن المال فتنة، والعاقل من لقي الله وقد برئت ذمته، وسلم من تعلق الناس برقبته، وإن على المسلم أن يراقب الله في كل حين، وأن يدعو الله بالثبات عن الفتنة وتربص المغريات.

وعلى المسلم أن يربي نفسه في كل حين على التعفف وترك المشتبه من المال حتى لا يقع في الحرام، وإذا اتصف المسلم بخلق النزاهة أثمر لصاحبة القناعة والورع، فكان من المتقين، وحفظ نفسه عن الانزلاق والانحراف، وتحصل على مرضات ربه ونال محبته، واقتدى بخلق نبيه –صلى الله عليه وسلم- الذي يقول: (إنِّي لأنقَلِبُ إلى أَهلي فأجدُ التَّمرةَ ساقطةً على فِراشي فلا أدري أمِن تمرِ الصَّدقةِ أم مِن تمرِ أَهلي فَلا آكلُها) متفق عليه من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-.
وعلى المسلم أن يحرص على الدعاء، لأن الله هو المعين، وقد روى مسلم في صحيحه، من حديث جَابِر بنِ عَبْدِاللهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  كان يدعو في صلاته: (اهدني لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدني لأحسنِها إلَّا أنتَ).
والواجب على من سولت له نفسه، فأخذ مالا من المال العام بغير وجه حق، أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يتخلص من هذا المال ويعيده إلى مصالح المسلمين بالوجه المشروع، وقد أخرج أصحاب السنن وأحمد من حديث سَمُرَةَ بن جٌنْدُب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنَّ رَسولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (على اليَدِ ما أخَذَتْ حتى تُؤدِّيَه)، وأجمع أهل العلم على أن من أتلف شيئا من المال العام أو أفسد شيئا منه أنه يضمنه، ومن أخذ شيئا بغير حقه أنه يرده إلى بيت مال المسلمين.
وإن من نعم الله علينا في هذه البلاد أن أعان ولاة أمرنا على محاربة كافة هذه الأنواع من الاعتداء على المال العام، من خلال أجهزة رقابية معنية بمكافحة الفساد، فالواجب علينا جميعا التعاون مع هذه الأجهزة، والاحتساب في النصيحة ثم التبليغ عند الاطلاع على ممارسات مالية يعود ضررها للمجتمع بأكمله، كالغش والتزوير والرشوة واستغلال النفوذ والسلطة، فإن هذا من التناصح في الخير، ومن التعاون على البر والتقوى.

وليسع المسلم أن تكون حياته قائمة على الحلال ليكتب له القبول في الأرض والسماء، وتكتب له النجاة يوم القيامة؛ وليبارك له في أهله وماله وولده.

جاء في صحيح مسلم عن أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنَّ رَسولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:(يا أيُّها النَّاسُ إنَّ اللَّهَ طيِّبٌ لا يقبلُ إلَّا طيِّبًا ، وإنَّ اللَّهَ أمرَ المؤمنينَ بما أمرَ بِه المرسلينَ فقالَ يَا أيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقالَ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ قالَ وذَكرَ الرَّجلَ يُطيلُ السَّفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَه إلى السَّماءِ يا ربِّ يا ربِّ ومطعمُه حرامٌ ومشربُه حرامٌ وملبسُه حرامٌ وغذِّيَ بالحرامِ فأنَّى يستجابُ لذلِك)
 

أسأل الله عز وجل أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وأن يكفينا بفضله عمن سواه، وأن يطهر ألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، وقلوبنا من النفاق

اللهم صل وسلم وزد وبارك، على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم وسلك طريقتهم إلى يوم الدين.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

المرفقات

1733329059_وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.docx

1733329067_وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.pdf

المشاهدات 862 | التعليقات 0