"ومن نفس لا تشبع"

عبدالمحسن بن محمد العامر
1444/05/07 - 2022/12/01 16:48PM

الحمدُ للهِ خلقَ النّفوسَ وسوَّاها، وألْهَمَهَا فجورَها وتقوَاها، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وَعَدَ بالفلاحِ مَنْ صانَ نفْسَهُ وزكّاها، وتوعّدَ مَنْ ضيّعَها بالخَيْبَةِ وعُقْبَاها، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ خيرُ البشريّةِ وأنْقَاهَا، صلى اللهُ وسلمَ عليهِ وعلى آلِه وصحبِه ومَنْ تبعَهمْ بإحسانٍ إلى آخرِ الدنيا ومُنْتَهاهَا ..

أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ، ففي التقوى كلُّ غنيمةٍ، وبها تكونُ النَّوايا سليمةً "إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ"

معاشرَ المؤمنينَ: عَن أبي هُرَيْرةَ رضيَ اللهُ عنه قالَ: كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يقولُ: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الأربعِ، مِن عِلمٍ لا ينفَعُ، ومِن قَلبٍ لا يخشَعُ، ومِن نَفسٍ لا تَشبعُ، ومِن دُعاءٍ لا يُسمَعُ" رواه أبو داودَ، وصحَّحَه الألبانيُّ، وهو جزءٌ من حديثٍ رواهُ الإمامُ مسلمٌ.

مِنَ المُتقَرِّرِ شرعاً وطبْعاً؛ أنَّ النَّفوسَ جُبلَتْ على حُبِّ الدنيا،، وحُبِّ التَّكَثُّرِ منها، وحُبِّ المالِ بمُخْتَلِفِ أنواعِه؛ كما قالَ تعالى "ألْهاكُمُ التّكَاثُرُ* حتّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ" ومعنى " زُرْتُمُ المَقَابِرَ" أي: صِرْتمْ مِنْ أهلِها، أي: مُتّمْ، ودُفِنْتُمْ فيها، فسمَّى اللهُ بقاءِ الناسِ في القبورِ زيارةً؛ لأنّهُ مؤقتٌ بزمنٍ وإنْ طالَ، ومِنْ ثَمَّ الانتقالُ إلى الدارِ ا لآخرةِ.

و النّفسُ لا تَشْبَعُ مِنَ الدنيا مهما استكثرتْ منها، ومهما جَمَعَتْ منها، قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: "لَوْ كانَ لاِبْنِ آدَمَ وادِيانِ مِن مالٍ لابْتَغَى وادِيًا ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ اللَّهُ علَى مَن تابَ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ

لا تَشْبَعُ النَّفْسُ مِنْ دُنْيَا تُجَمِّعُهَا *** وَبُلَغَةٌ مِنْ قِوَامِ العِيْشِ تَكْفِيْهَا

وقدْ حذّرَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلمَ؛ الصّحابيَّ الجليلَ حَكِيْمَ بنَ حِزامٍ رضيَ اللهُ عنه مِنَ التّكثُّرِ  مِنَ الدّنيا بَعْدَما سألَه ثلاثَ مراتٍ  فأعطاهُ، يقولُ رضيَ اللهُ عنه: "سَأَلْتُ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فأعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فأعْطَانِي، ثُمَّ قالَ: يا حَكِيمُ، إنَّ هذا المَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أَخَذَهُ بسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ له فِيهِ، ومَن أَخَذَهُ بإشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ له فِيهِ، كَالَّذِي يَأْكُلُ ولَا يَشْبَعُ، اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى، قالَ حَكِيمٌ: فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ لا أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شيئًا حتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا. فَكانَ أَبُو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه يَدْعُو حَكِيمًا إلى العَطَاءِ، فَيَأْبَى أَنْ يَقْبَلَهُ منه، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ، فأبَى أَنْ يَقْبَلَ منه شيئًا، فَقالَ عُمَرُ: إنِّي أُشْهِدُكُمْ يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ علَى حَكِيمٍ؛ أَنِّي أَعْرِضُ عليه حَقَّهُ مِن هذا الفَيْءِ فَيَأْبَى أَنْ يَأْخُذَهُ، فَلَمْ يَرْزَأْ حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تُوُفِّيَ" رواهُ البخاريُّ.

هنا نَجِدُ أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلّمَ صرّحَ بأنَّ الشَّرَهَ والتّشوَّقَ إلى أخذِ المالِ، والشُّحَّ في طلبِه؛ مَدْعَاةٌ إلى تكوُّنِ الطَّبْعِ السّيّءِ في النّفْسِ، وهو؛ عَدَمُ الشِّبعِ مَهْما أُعْطِيتْ.

وشُحُّ النَّفسِ مِنْ أخْطَرِ أمْراضِ القلوبِ، ومِنْ أسْوءِ السُّلوكِ والأخلاقِ البَشَريّةِ؛ قالَ صلى اللهُ عليه وسلّمَ: " اتَّقُوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يَومَ القِيامَةِ، واتَّقُوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَّ أهْلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ علَى أنْ سَفَكُوا دِماءَهُمْ واسْتَحَلُّوا مَحارِمَهُمْ" رواهُ مسلمٌ.

فالشُّحُّ أصْلُ المَعاصي؛ ولذا قال تعالَى: "وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"

والنّبيُّ المشفقُ على أُمَّتِه لَمْ يَخْشَ على أُمَّتِهِ الفقرَ، وإنَّما خَشِيَ عليها مِنَ الدُّنيا، فعَنْ عمروِ بنِ عوفٍ المزنيِّ رضيَ اللهُ عنه: "أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : بَعَثَ أبَا عُبَيْدَةَ بنَ الجَرَّاحِ إلى البَحْرَيْنِ يَأْتي بجِزْيَتِهَا، وكانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ هو صَالَحَ أهْلَ البَحْرَيْنِ وأَمَّرَ عليهمُ العَلَاءَ بنَ الحَضْرَمِيِّ، فَقَدِمَ أبو عُبَيْدَةَ بمَالٍ مِنَ البَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأنْصَارُ بقُدُومِ أبِي عُبَيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلَاةَ الفَجْرِ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا له، فَتَبَسَّمَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: أظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أنَّ أبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بشيءٍ قالوا: أجَلْ يا رَسولَ اللَّهِ، قَالَ: فأبْشِرُوا وأَمِّلُوا ما يَسُرُّكُمْ، فَوَ اللَّهِ ما الفَقْرَ أخْشَى علَيْكُم، ولَكِنِّي أخْشَى أنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كما بُسِطَتْ علَى مَن كانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا، وتُهْلِكَكُمْ كما أهْلَكَتْهُمْ" رواه البخاريُّ

معاشرَ المؤمنينَ: عندما يدعو المسلِمُ بهذا الدعاءِ " ومِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ" فيَجْدُرُ به أنْ يسْتشْعِرَ أنّهُ دعاءٌ عامٌّ في كلِّ ما تَطْلُبُه نَفْسُهُ وتَشْتَهيهِ؛ وإنْ كانَ حلالاً، فليسَ التَّعوذُ مِنَ النَّفْسِ التي لا تَشْبَعُ مَنَ الحرامِ فقط، فإنَّ النَّفْسَ إنْ أُعْطِيتْ الحلالَ وابتُليتْ بعدمِ الشِّبَعِ منه؛ فإنها تكونُ وبالاً على صاحبِها، ونقمَةً عليه، وشقاءً وعَناءً لا ينقطِعُ، فمهما كانَ الحلالُ سواءً مِنَ المطْعَمِ، أو المشْرَبِ، أو المنْكَحِ، أو الملبَسِ، أو المنْصِبِ، أو مِنْ سائرِ الأموالِ باختلافِ أنواعِها؛ فإذا ابْتُليَتْ النَّفْسُ بعدمِ الشِّبعِ منه، كانَ ذلك صارفاً لها عن العبادةِ للهِ، وعنِ التزوِّد مِنَ الطاعاتِ، وعنِ الاستعدادِ للدارِ الآخرةِ، وحقيْقَةُ النَّفْسِ التي لا تَشْبَعْ؛ أنَّها تُعذِّبُ صاحبَها في الدنيا قبلَ الآخرةِ، فالقناعةُ والرضا بالمقسومِ، وبما أعْطى اللهُ العبدَ؛ مِنْ أعظمِ النِّعمِ، وأجلِّ المِنَنِ، وأكبرِ أسبابِ الرَّاحةِ والطمأنِيْنّةِ والسّعادَةِ.

معاشرَ المؤمنينَ: النّفوسُ التي لا تَشْبَعُ؛ ليستْ نفوسُ الأغنياءِ والتّجارِ، ولا نفوسُ الذينَ جرَّبوا الدّنيا وكَسِبُوا فيها، وغنموا واستكثروا مِنَ المتاعِ والنّعيمِ فقط، وإنما هناكَ نفُوسُ فقراءٍ لا تّشْبعُ ولا تَقْنَعُ بما عنْدها وبما يأتيها مِنَ المحسنينَ؛ فهم دائمو السُّؤالِ والطَّلَبِ، والتَّشكِّي والتَّذمُّرِ، فالعِلَّةُ في النَّفسِ وَمَدَى قناعتِها، وغِنَاهَا الذّاتيَّ، قالَ صلى اللهُ عليه وسلَّم: " ليسَ الغِنَى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ" رواه البخاريُّ ومسلمٌ.

بارك الله لي ولكم بالكتابِ والسنَّة، ونفعنا بما صرّفَ فيهما مِنَ العِبرِ والحِكْمَةِ.

أقولُ قوْلي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروهُ إنه كانَ غفّارا.

 

الخطبةُ الثانيةُ:

 

الحمدُ للهِ على نعْمَةِ الإسلامِ وأكْرِمْ بها نعمةً، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ وسلّم عليه وعلى آله وأصحابِه ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ..

أمّا بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ، فمَنْ أوتي التقوى، فقدْ هداهُ اللهُ  " وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ"

معاشرَ المؤمنينَ: على المسلمِ أنْ يَعِيَ حقيقةَ النَّفسِ التي لا تَشْبَعُ، وأنَّ جَمْعَ حُطامِ الدنيا مهما كثُرَ، فمُفَارقتُهُ مصِيرٌ محتُومٌ، والارتِهَانُ في القُبُورِ بالعَمَلِ فقط، فَلَنْ يَذهبَ معهُ مالٌ ولا غيرُه، قال تعالى: "اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًاوَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ"

 وصاحِبُ النَّفْسِ الشَّرِهَةِ الجَشِعَةِ التي لا تَشبَعْ، ممقوتٌ، مكروهٌ، لا تتقبّلُه القلوبُ، ولا ترضى عنه النّفوسُ، قالَ ابنُ القيّمِ رحمَهُ اللهُ: (إنَّ عُقلاءَ الأُممِ مُطْبِقُونَ على ذمِّ الشَّرِهِ في جَمْعِ المالِ الحَرِيْصِ عليه وتَنَقُّصِهِ والازراءِ بهِ)

أيها المؤمنونَ: النّفسُ بالّتعوُّدِ والأَطْرِ، وبالزَّجْرِ والقَهْرِ؛ تنْحَسِرُ عنْ هذه العادةِ المَقِيْتَةِ، وتتخلّى عنْ هذا الخُلُقِ

الذَّمِيْمِ، وتتراجعُ عنْ هذا السُّلوكِ المكروهِ بإذنِ الله تعالى، قالَ الشّاعِرُ:

وَالنَفسُ راغِبِةٌ إِذا رَغَّبتَها ** فَإِذا تُرَدُّ إِلى قَليلٍ تَقنَعُ

وقالَ الآخرُ:

وَهَذِهِ الدَّارُ لا تَغْرُرْكَ زَهْرَتُهَا ** فَعَنْ قَرِيْبٍ تَرَى مُعْجِبكَ ذَاوِيْهَا
فَارْبَأ بنَفْسُكَ لا يَخْدَعكَ لامِعُهَا ** مِنَ الزَّخَارِفِ وَاحْذَرْ مِنْ دَوَاهِيْهَا
خَدَّاعَةٌ لَمْ تَدُمْ يَوْمًا عَلَى أَحَدٍ ** وَلا اسْتَقَرَّتْ عَلَى حَالٍ لَيَالِيْهَا
فَانْظُرْ وَفَكَّرْ فَكَمْ غَرَّتْ ذَوي طَيْشِ ** وَكَمْ أَصَابَتْ بِسَهْم المَوْتِ أَهْلِيْهَا
اعْتَزَّ قَارُون في دُنْيَاهُ مِنْ سَفَهٍ ** وَكَانَ مِنْ خَمْرِهَا يَا قَوْمُ ذَاتِيْهَا
يَبِيْتُ لَيْلَتَهُ سَهْرَانَ مُنْشَغِلاً ** في أَمْرِ أَمْوَالِهِ في الهَمِّ يَفْدِيْهَا
وَفي النَّهَارِ لَقَدْ كَانَتْ مُصِيْبَتُهُ ** تَحُزُّ في قَلْبِه حَزًّا فَيُخْفِيْهَا
فَمَا اسْتَقَامَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَلا قَبِلتْ ** مِنْهُ الودَادَ وَلَمْ تَرْحَمْ مُجِبِّيْهَا

هذا وصلوا وسلموا على مَنْ أمركمْ بالصلاةِ والسلامِ عليهِ اللهُ حيث يقولُ: إنّ اللهَ وملائكتَهُ يُصَلُّونَ على النبيِّ ....

 

المشاهدات 1146 | التعليقات 0