ومضات بهية من كلام خير البرية. 16/8/ 1433هـ عبدالله بن علي الطريف
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
1433/08/18 - 2012/07/08 08:08AM
ومضات بهية من كلام خير البرية. 16/8/ 1433هـ عبدالله بن علي الطريف
الحمد لله الذي هدنا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا أولوهيته، نحمده أن خصنا بنبوة خير البرية، ومعلم البشرية محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ولاه.. أما بعد فقد قال الباري جل في علاه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7] قال الشيخ السعدي رحمه الله على هذه الآية: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، هذا شامل لأصول الدين وفروعِه، ظاهرِه وباطنِه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به وإتباعه، ولا تحل مخالفته.. وأن نص الرسولِ صلى الله عليه وسلم على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح والدنيا والآخرة، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم، وبإضاعتها الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) على من ترك التقوى، وآثر إتباع الهوى.
أيها الأحبة: تعالوا بنا نتفيأ ظلال السنة الوارفة.. ونستلهم من حكمتها الوافية.. ونستنير بأنوارها الساطعة.. ونقتبس من قبساتها فقد زخرت بكل خير.. وفاضت بكل ما يُصلِح حياة المسلم من ذلك.. عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ..؟ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ. رواه مسلم
قال السعدي: البشارة في الدنيا التي يجعلها الله للمؤمنين نموذجاً وتعجيلاً لفضلة وتعرُّفاً لهم بذلك وتنشيطاً لهم على الأعمال.. فأعظمُها توفيقُه لهم للخير.. وعصمتُه لهم من الشرِّ ،كما قال صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ..).
فإذا كان العبد يجدُ أعمال الخير ميسرةً له، مسهلةً عليه، ويجد نفسه محفوظاً بحفظ الله عن الأعمالِ التي تضرُّهُ كان هذا من البشرى التي يَستدِلُّ بها المؤمن على عاقبة أمره، فإن الله أكرمُ الأكرمين وأجودُ الأجودين، وإذا ابتدأ عبداً بالإحسان أتَمَّه..
فأعظمُ مِنَّةٍ وإحسانٍ يَمُنُّ به عليه، إحسانُه الديني، فيُسرُّ المؤمن بذلك أكملَ سرور0 سرورٌ بمنِّة الله عليه بأعمال الخير، وتيسيرها.. لأن أعظم علامات الإيمان محبةُ الخير، والرغبةُ فيه، والسرورُ بفعله. وسرورٌ ثانٍ بطمعه الشديد بإتمام الله نعمَتَهُ عليه، فضلَهُ.
ومن ذلك: ما ذكره النبيُ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا عملَ العبد عملاً من أعمال الخير - وخصوصاً الآثارَ الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع - وترتَّب على ذلك محبةُ الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له، كان هذا من البُشرَى أنَّ هذا العمَلَ من الأعمالِ المقبولةِ، التي جعل الله فيها خيراً وبركة.
ومن البشرى في الحياة الدنيا، محبةُ المؤمنين للعبد لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا). [مريم:96] أي محبةً منه لهم، وتحبيباً لهم في قلوب العباد. ومن ذلك الثناءُ الحسنُ؛ فإن كثرة ثناءِ المؤمنين على العبدِ شهادةٌ منهم له، والمؤمنون شهداءُ الله في أرضه.
أيها الإخوة: ومن جوامع الأخبار هذا الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا.. وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا.. رواه مسلم. فيه: الحثُّ على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضلُ الداعي، والتحذيرُ من الدعاء إلى الضلالة والغيِّ، وعِظمُ جُرم الداعي وعقوبته.
والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح. فكل من علَّم علماً أو وجَّه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصُل لهم فيها علم، فهو داعٍ إلى الهدى..
وكلُّ من دعا إلى عملٍ صالح يتعلَّق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة، فهو داعٍ إلى الهدى..
وكل من أبدى نصيحةً دينية أو دنيوية يُتوسَّل بها إلى الدين، فهو داعٍ إلى الهدى..
وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتَدَى به غيره، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من تقدم غيرَه بعملٍ خيريِّ، أو مشروعٍ عام النفع، فهو داخل في هذا النص. وعكس ذلك كلَّه الداعي إلى الضلالة.
فالداعون إلى الهدى هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين.
والداعون إلى الضلالة هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
وكلُّ من عاون غيرَه على البر والتقوى، فهو من الداعين إلى الهدى.
وكل من أعان غيرَه على الإثم والعدوان، فهو من الداعين إلى الضلالة.
أيها الإخوة: ومن أقوله صلى الله عليه وسلم الجامعة ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وهو صحيح الإسناد. قال الإمام البغوى: (يُغِلُّ) برواية ضم الياء من الإغلال، وهو الخيانة. والمعنى أن هذه الثلاث تُسْتَصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر.. وقوله: (فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) أي لا يُقَصرَنَّ أحدٌ في لزوم جماعتهم؛ فإن دَعْوتَهم تُحِيطُ من ورائهم أَي تحُوطُهم وتكْنُفُهم وتَحْفَظُهم، عن كيد الشيطان وعن الضلالة، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم.. يريد أهلَ السُّنّة دون البِدْعة.
قال ابن القيم في مدارج السالكين والمعنى: أي لا يبقى في القلب غلٌّ، ولا يحملُ الغلَّ مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غلَّه، وتنقِّيه منه، وتُخرجه عنه، فإن القلبَ يُغِلُّ على الشرك أعظم غل، وكذلك يُغِلُّ على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلال. فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا. ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه، بتجريدِ الإخلاصِ والنصح، ومتابعةِ السنة. انتهى.
وفي اللفظ الذي رواه جُبير بن مُطعم رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال هذه الخصال في خُطبته بمسجد الخَيْفِ بمِنى.. وهذا دليل على أهميتها..
وقال الشيخ السعدي: أي فمن أخلص أعماله كلَّها لله، ونصح في أموره كلِّها لعباد الله، ولزم الجماعة بالائتلافِ، وعدمِ الاختلافِ، وصار قلبُهُ صافياً نقيّاً، صار لله وليّاً، ومن كان بخلافِ ذلك، امتلأ قلبُهُ من كلِّ آفةٍ وشرٍّ.
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يمنَّ علينا بالفقه في دينه وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إنه جواد كريم.. أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم...
الخطبة الثانية
ومن جوامع الأخبار ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ رواه أبو داود. قال أهل العلم معنى الحديث مما تواترت به النصوص.
قال الشيخ السعدي: يا له من حديث حكيم، فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة؛ فإن الحكمة وضعُ الأشياءِ مواضعَها، وتنزيلُها منازلَها، والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره، وحكيم في شرعه وأمره ونهيه، وقد أمر عبادَه بالحكمة، ومراعاتها في كلِّ شيء، وأوامرُ النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته كلُّها تدور على الحكمة.
فمنها: هذا الحديث الجامع، إذ أمر صلى الله عليه وسلم أن نُنزل الناس منازلهم.. وذلك في جميع المعاملات، وجميع المخاطبات، والتعلُّم والتعليم.
فمن ذلك أن الناس قسمان: قسمٌ لهم حقٌ خاصٌّ، كالوالدين والأولاد والأقارب، والجيران والأصحاب والعلماء، والمحسنين بحَسبِ إحسانِهم العامِ والخاصِ..
فهذا القسم تنزيلُهم منازلهم: بالقيام بحقوقهم المعروفة شرعاً وعرفا، من البرِّ والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة، وجميع ما لهم مِنَ الحقوق، فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة.
وقسم ليس لهم مزية اختصاصٍ بحق خاص: وإنما لهم حق الإسلام وحق الإنسانية، فهؤلاء حقهم المشترك: أن تمنع عنهم الأذى والضرر بقول أو فعل، وأن تحب للمسلمين ما تحب لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكره لها من الشر، بل يجب منعُ الأذى عن جميع نوع الإنسان وإيصال ما تقدر عليه لهم من الإحسان.
ومما يدخل في هذا: أن يعاشر الخلق بحسب منازلهم، فالكبير له التوقير والاحترام، والصغير يعامله بالرحمة والرقة المناسبة لحاله، والنظير يعامله بما يجب أن يعامله به، وللأم حق خاص بها، وللزوجة حقٌّ آخر، ويعامل من يُدِلُّ عليه ويثق به، ويتوسع معه، ما لا يعامل به من لا يثق به ولا يدل عليه.. ويتكلم مع الملوك وأرباب الرئاسات بالكلام اللين المناسب لمراتبهم، ولهذا قال تعالى لموسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:الآيتان 43 ، 44]
ويعاملُ العلماء بالتوقير والإجلال والتعلم والتواضع لهم، وإظهار الافتقار والحاجة إلى علمهم النافع، وكثرة الدعاء لهم، خصوصا وقت تعليمهم وفتواهم الخاصة والعامة.
أسأل الله أن يرزقنا حسن الإتباع وحسن العمل.. وصلوا وسلموا...
الحمد لله الذي هدنا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ولا أولوهيته، نحمده أن خصنا بنبوة خير البرية، ومعلم البشرية محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن ولاه.. أما بعد فقد قال الباري جل في علاه: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7] قال الشيخ السعدي رحمه الله على هذه الآية: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)، هذا شامل لأصول الدين وفروعِه، ظاهرِه وباطنِه، وأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين على العباد الأخذ به وإتباعه، ولا تحل مخالفته.. وأن نص الرسولِ صلى الله عليه وسلم على حكم الشيء كنص الله تعالى، لا رخصة لأحد ولا عذر له في تركه، ولا يجوز تقديم قول أحد على قوله، ثم أمر بتقواه التي بها عمارة القلوب والأرواح والدنيا والآخرة، وبها السعادة الدائمة والفوز العظيم، وبإضاعتها الشقاء الأبدي والعذاب السرمدي، فقال: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) على من ترك التقوى، وآثر إتباع الهوى.
أيها الأحبة: تعالوا بنا نتفيأ ظلال السنة الوارفة.. ونستلهم من حكمتها الوافية.. ونستنير بأنوارها الساطعة.. ونقتبس من قبساتها فقد زخرت بكل خير.. وفاضت بكل ما يُصلِح حياة المسلم من ذلك.. عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ..؟ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ. رواه مسلم
قال السعدي: البشارة في الدنيا التي يجعلها الله للمؤمنين نموذجاً وتعجيلاً لفضلة وتعرُّفاً لهم بذلك وتنشيطاً لهم على الأعمال.. فأعظمُها توفيقُه لهم للخير.. وعصمتُه لهم من الشرِّ ،كما قال صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ..).
فإذا كان العبد يجدُ أعمال الخير ميسرةً له، مسهلةً عليه، ويجد نفسه محفوظاً بحفظ الله عن الأعمالِ التي تضرُّهُ كان هذا من البشرى التي يَستدِلُّ بها المؤمن على عاقبة أمره، فإن الله أكرمُ الأكرمين وأجودُ الأجودين، وإذا ابتدأ عبداً بالإحسان أتَمَّه..
فأعظمُ مِنَّةٍ وإحسانٍ يَمُنُّ به عليه، إحسانُه الديني، فيُسرُّ المؤمن بذلك أكملَ سرور0 سرورٌ بمنِّة الله عليه بأعمال الخير، وتيسيرها.. لأن أعظم علامات الإيمان محبةُ الخير، والرغبةُ فيه، والسرورُ بفعله. وسرورٌ ثانٍ بطمعه الشديد بإتمام الله نعمَتَهُ عليه، فضلَهُ.
ومن ذلك: ما ذكره النبيُ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: إذا عملَ العبد عملاً من أعمال الخير - وخصوصاً الآثارَ الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع - وترتَّب على ذلك محبةُ الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له، كان هذا من البُشرَى أنَّ هذا العمَلَ من الأعمالِ المقبولةِ، التي جعل الله فيها خيراً وبركة.
ومن البشرى في الحياة الدنيا، محبةُ المؤمنين للعبد لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا). [مريم:96] أي محبةً منه لهم، وتحبيباً لهم في قلوب العباد. ومن ذلك الثناءُ الحسنُ؛ فإن كثرة ثناءِ المؤمنين على العبدِ شهادةٌ منهم له، والمؤمنون شهداءُ الله في أرضه.
أيها الإخوة: ومن جوامع الأخبار هذا الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا.. وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا.. رواه مسلم. فيه: الحثُّ على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضلُ الداعي، والتحذيرُ من الدعاء إلى الضلالة والغيِّ، وعِظمُ جُرم الداعي وعقوبته.
والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح. فكل من علَّم علماً أو وجَّه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصُل لهم فيها علم، فهو داعٍ إلى الهدى..
وكلُّ من دعا إلى عملٍ صالح يتعلَّق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة، فهو داعٍ إلى الهدى..
وكل من أبدى نصيحةً دينية أو دنيوية يُتوسَّل بها إلى الدين، فهو داعٍ إلى الهدى..
وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتَدَى به غيره، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من تقدم غيرَه بعملٍ خيريِّ، أو مشروعٍ عام النفع، فهو داخل في هذا النص. وعكس ذلك كلَّه الداعي إلى الضلالة.
فالداعون إلى الهدى هم أئمة المتقين، وخيار المؤمنين.
والداعون إلى الضلالة هم الأئمة الذين يدعون إلى النار.
وكلُّ من عاون غيرَه على البر والتقوى، فهو من الداعين إلى الهدى.
وكل من أعان غيرَه على الإثم والعدوان، فهو من الداعين إلى الضلالة.
أيها الإخوة: ومن أقوله صلى الله عليه وسلم الجامعة ما رواه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ، إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وهو صحيح الإسناد. قال الإمام البغوى: (يُغِلُّ) برواية ضم الياء من الإغلال، وهو الخيانة. والمعنى أن هذه الثلاث تُسْتَصلح بها القلوب فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدغل والشر.. وقوله: (فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ) أي لا يُقَصرَنَّ أحدٌ في لزوم جماعتهم؛ فإن دَعْوتَهم تُحِيطُ من ورائهم أَي تحُوطُهم وتكْنُفُهم وتَحْفَظُهم، عن كيد الشيطان وعن الضلالة، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم.. يريد أهلَ السُّنّة دون البِدْعة.
قال ابن القيم في مدارج السالكين والمعنى: أي لا يبقى في القلب غلٌّ، ولا يحملُ الغلَّ مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غلَّه، وتنقِّيه منه، وتُخرجه عنه، فإن القلبَ يُغِلُّ على الشرك أعظم غل، وكذلك يُغِلُّ على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلال. فهذه الثلاثة تملؤه غلا ودغلا. ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه، بتجريدِ الإخلاصِ والنصح، ومتابعةِ السنة. انتهى.
وفي اللفظ الذي رواه جُبير بن مُطعم رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال هذه الخصال في خُطبته بمسجد الخَيْفِ بمِنى.. وهذا دليل على أهميتها..
وقال الشيخ السعدي: أي فمن أخلص أعماله كلَّها لله، ونصح في أموره كلِّها لعباد الله، ولزم الجماعة بالائتلافِ، وعدمِ الاختلافِ، وصار قلبُهُ صافياً نقيّاً، صار لله وليّاً، ومن كان بخلافِ ذلك، امتلأ قلبُهُ من كلِّ آفةٍ وشرٍّ.
نسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يمنَّ علينا بالفقه في دينه وإتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم إنه جواد كريم.. أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم...
الخطبة الثانية
ومن جوامع الأخبار ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ رواه أبو داود. قال أهل العلم معنى الحديث مما تواترت به النصوص.
قال الشيخ السعدي: يا له من حديث حكيم، فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة؛ فإن الحكمة وضعُ الأشياءِ مواضعَها، وتنزيلُها منازلَها، والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره، وحكيم في شرعه وأمره ونهيه، وقد أمر عبادَه بالحكمة، ومراعاتها في كلِّ شيء، وأوامرُ النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته كلُّها تدور على الحكمة.
فمنها: هذا الحديث الجامع، إذ أمر صلى الله عليه وسلم أن نُنزل الناس منازلهم.. وذلك في جميع المعاملات، وجميع المخاطبات، والتعلُّم والتعليم.
فمن ذلك أن الناس قسمان: قسمٌ لهم حقٌ خاصٌّ، كالوالدين والأولاد والأقارب، والجيران والأصحاب والعلماء، والمحسنين بحَسبِ إحسانِهم العامِ والخاصِ..
فهذا القسم تنزيلُهم منازلهم: بالقيام بحقوقهم المعروفة شرعاً وعرفا، من البرِّ والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة، وجميع ما لهم مِنَ الحقوق، فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة.
وقسم ليس لهم مزية اختصاصٍ بحق خاص: وإنما لهم حق الإسلام وحق الإنسانية، فهؤلاء حقهم المشترك: أن تمنع عنهم الأذى والضرر بقول أو فعل، وأن تحب للمسلمين ما تحب لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكره لها من الشر، بل يجب منعُ الأذى عن جميع نوع الإنسان وإيصال ما تقدر عليه لهم من الإحسان.
ومما يدخل في هذا: أن يعاشر الخلق بحسب منازلهم، فالكبير له التوقير والاحترام، والصغير يعامله بالرحمة والرقة المناسبة لحاله، والنظير يعامله بما يجب أن يعامله به، وللأم حق خاص بها، وللزوجة حقٌّ آخر، ويعامل من يُدِلُّ عليه ويثق به، ويتوسع معه، ما لا يعامل به من لا يثق به ولا يدل عليه.. ويتكلم مع الملوك وأرباب الرئاسات بالكلام اللين المناسب لمراتبهم، ولهذا قال تعالى لموسى وهارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) [طه:الآيتان 43 ، 44]
ويعاملُ العلماء بالتوقير والإجلال والتعلم والتواضع لهم، وإظهار الافتقار والحاجة إلى علمهم النافع، وكثرة الدعاء لهم، خصوصا وقت تعليمهم وفتواهم الخاصة والعامة.
أسأل الله أن يرزقنا حسن الإتباع وحسن العمل.. وصلوا وسلموا...