وما أدراك ما ليلة القدر؟!

راكان المغربي
1442/09/18 - 2021/04/30 01:34AM

أما بعد:

بينما نحن نستقبل التبريكات، ونتبادل التهنئات، ونتواصى باستثمار كل لحظة من لحظات الشهر..

إذا بالشهر قد تصرمت لياليه وانقضت أيامُه..

يا لله! أحقا قد انقضى قرابةُ ثلثي الشهر؟!

أحقا ما بقي من الشهر هو أقل مما مضى؟!

أما بالنظر إلى أيام الشهر في التقويم فنعم، ما بقي أقل مما مضى..

وأما بالنظر في حقائق الشرع، وكراماتِ الكريم، فلا وألف لا!

لئن مضى من الشهر ثمانيةُ عشر ليلة بأيامها، فإن ما بقي منه هو أكثرُ من ألف شهر..

(إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ۝١ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا لَیۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ ۝٢ لَیۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَیۡرࣱ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرࣲ)

نعم والله!

ما بقي من الشهر لهو من الله أعظمُ بركةً، وأكثرُ إحسانا، وأشدُّ تضعيفا وإكراما..

ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر!

هي الليلة التي وصفها الله بالليلة المباركة، لكثرة ما فيها من البركة والخير (إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةࣲ مُّبَـٰرَكَةٍۚ)..

هي الليلة التي أضاء فيها العالم بإنزال القرآن (هُدࣰى لِّلنَّاسِ وَبَیِّنَـٰتࣲ مِّنَ ٱلۡهُدَىٰ وَٱلۡفُرۡقَانِۚ)..

هي الليلة التي يحصل فيها التقدير السنوي، فيقدر الله فيها مقادير العام (فِیهَا یُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِیمٍ)

هي الليلة التي يكون فيها الملائكة كما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الملائِكةَ تلْكَ الليلةَ في الأرْضِ أكثَرُ من عدَدِ الحَصَى)، وذلك مصداقا لقول الله تعالى: (تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرࣲ)..

ولذلك كانت تلك الليلة (خَیۡرࣱ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرࣲ)، يعني أن أجر من تعبد الله في ساعاتها القليلة المعدودة، فإنه ينال أكثر من أجر من يعبد الله في أكثر من ثلاثة وثمانين سنة..

فضل وإنعام وبركات من أكرم الأكرمين وأجود الأجودين..

فهل تحركت نفسك لتنالَ من بركاتها، وتنهلَ من خيراتها؟!

فإن كان هذا حالك فاعلم أن خير من استثمرها، وخيرَ من عبد الله فيها هو نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم.. فالزم غرزه، وتلمس خطاه، واتبع هديه..

كان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يتحرى تلك الليلة في العشر الأواخر من رمضان..

فقد كان يبين لأصحابه أنها في تلك الليالي قطعا فكان يقول لهم: (التَمِسُوها في العَشرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ)..

ولذلك فقد كان كما تقول زوجه عائشة رضي الله عنها (يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ، ما لا يَجْتَهِدُ في غيرِهِ) و(كان إذا دخَل العشرُ أيقَظ أهلَه وأحيا ليله وشدَّ مئزره -أي اعتزل النساء-)، الوقت وقت الجد لا وقت اللهو والكسل والهزل..

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر كاملة، من غروب شمس أول لياليها إلى انقضائها بإعلان ليلة العيد، وذلك ليكون مغتنما كل لحظة من لياليها بمكثه في المسجد الذي هو بيت الله، والله أكرم الأكرمين، وضيوفه في بيته هم أجدر الناس بالإنعام والتكريم..

فإن كان الاعتكاف غيرَ متاح للتدابير الاحترازية، وللمصالح العامة، فالنية الصالحة متاحة، والمؤمن يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إنَّ بالمَدِينَةِ لَرِجَالًا ما سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إلَّا شَرِكُوكُمْ في الأجْر، حَبَسَهُمُ العذر)..

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في قيام تلك الليالي الفاضلة، فقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة القيام ثلاث ليال، قام بهم الليلةَ الأولى إلى ثلث الليل، وقام بهم الليلةَ الثانية إلى نصف الليل، ثم قام بهم الليلةَ الثالثة حتى خافوا أن لا يدركوا السُّحور، ثم ترك الصلاة بهم في القيام خشية أن تفرض عليهم، وكان يقوم بعدها منفردا..

وكان يرغب أصحابه في قيام ليلة القدر ويقول لهم: (من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه)..

وكان يوصي فيها بالدعاء، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ : يا رسولَ اللهِ أرأيتَ إنْ علِمتُ أيَّ ليلةٍ هي ليلةُ القدرِ، ما أقولُ فِيها؟ قال : قُولي : (اللهمَّ إنكَ عفوٌ ، تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي)

وأما علاقته بالقرآن فقد كانت مستمرة، وكان جبريل يدارسه القرآن في كل ليلة من لياليها كما هو الحال في كل ليالي رمضان..

تحرٍ والتماسٌ لليلة القدر، واعتكاف -بالنية إن لم تستطع-، وقيام وصلاة، وقراءة قرآن ودعاء..

تلك هي الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعملها، فهي أعظمُ ما يؤهلك لتنال أجر هذه الليلة، وتحقيقَ الفوز فيها..

ولا يقتصر العمل على تلك الأعمال، فكل عمل صالح تعمله فيها مهما كان، فالأجر مضاعف، وكرم الكريم حاضر، لا يحصيه المحصون ولا يعده العادون..

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(إِنَّاۤ أَنزَلۡنَـٰهُ فِی لَیۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ ۝١ وَمَاۤ أَدۡرَىٰكَ مَا لَیۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ ۝٢ لَیۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَیۡرࣱ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرࣲ ۝٣ تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَٱلرُّوحُ فِیهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرࣲ ۝٤ سَلَـٰمٌ هِیَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ ۝٥)

بارك الله لي ولكم..

الخطبة الثانية:

أما بعد:

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم)..

ليلة القدر قد تكون بالنسبة لك هي ليلة العمر، ليس فقط على ما ستحصله من الحسنات المضاعفات، وإنما لما قد تحدثه فيك تحول الحال، وحسن الإقبال، وقرب الكريم المنان..

فيا ترى هل ستكون العشر الأواخر، وتلك الليلة هي نقطةُ التحول، وتعديلِ المسار؟!

نعم يمكن ذلك بإذن الله، وذلك لمن أقبل فيها فاغتسل من ذنوبه، وتحرر من قيوده، وأقبل على ربه، وسارع فيما بقي من شهره..

إخواني في الله..

السباق في آخر مراحله، وختام لحظاته..

فسارعوا وسابقوا، وجدوا واجتهدوا، وعند الصباح يحمد القوم السُّرى..

 

 

 

 

 

المشاهدات 1229 | التعليقات 0