وليمة الإخوان (الغيبة)
هلال الهاجري
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إلهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)، أَمَّا بَعْدُ:
أيُّها العبدُ المُباركُ، تخيَّلْ أنكَ قد دُعيتَ إلى وجبةِ عشاءٍ عند أحدِ الأصدقاءِ أو الجيرانِ، فتحدَّثَ الحاضرونَ طويلاً في مواضيعَ كثيرةٍ، تكلموا عن جارِهم وما يتحلَّى به من سوءِ الصِّفاتِ الخَلْقية والخُلُقيةِ، وذكروا المسئولَ الفُلانيَّ وما يمتازِ به من السُّلوكياتِ السَّلبيةِ، وعابوا على أحدِ جماعةِ المسجدِ ما فيه من سِرعةِ العصبيةِ، ولم ينسوا صديقَاً قَديماً لهم وتصرفاتِه الغبيةَ، وفي غمرةِ حديثِهم الماتعِ دعاهم صاحبُ البيتِ إلى القيامِ إلى الطَّعامِ، ولكن .. عندما دخلَ الضُّيوفُ إلى مكانِ العَشاءِ، وجلسوا على الصُّحونِ، رأيتَ شيئاً غريباً.
رأيتَ الصَّحنَ الأولَ وقد وُضعَ عليه الجارُ مَشويَّاً، والصَّحنُ الثَّاني قد وُضعَ عليه المسئولُ مَقليَّاً، والثَّالثُ عليه صاحبُ المسجدِ مَحشيَّاً، والرَّابعُ عليه الصَّديقُ القَديمُ مَسلوقاً، والعَجيبُ أن الحضورَ يأكلونَ من لحومِ أجسادِ إخوانِهم ويتلذَّذونَ ويستمعتونَ وكأنَّ الأمرَ طبيعيٌّ لا حرامَ فيه ولا حرجَ، فما هو موقفُكَ من هذه الوليمةِ؟.
ما العجبُ أيُّها الأحبةُ في هذا الموقفِ؟ .. واللهُ سبحانَه وتعالى يقولُ في كتابِه: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)، فما الفرقُ بينَ ما كانوا يفعلونَه في المجلسِ وما يفعلونَه في غرفةِ الطَّعامِ؟، أليسَ ما حدثَ في المجلسينِ، هو أكلٌّ لِلَّحمِ الإخوانِ، ومعصيةٌ للعزيزِ الرَّحمنِ؟.
ولو قالَ قائلٌ: نحنُ لم نتحدَّثْ إلا بالواقعِ، وكلُّ ما ذكرناه في هؤلاءِ فهو حقيقةٌ بشهادةِ الجميعِ، فنقولُ: هذهِ واللهِ الغِيبةُ بعَيْنِها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)، قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:(ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟، قَالَ:(إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ) فالغيبةُ هو ذِكرُكَ لما في أخيكَ من الصِّفاتِ والأفعالِ والألقابِ مما يكرهُه في غيابِه، وأما إن لم يكن فيه ما ذكرتَ، (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ)، والبُهتانُ: أشدُّ الكذبِ، وهذا أَكبرُ وأَعظمُ.
تقولُ عائشةُ رضيَ اللهُ عنها: قلتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -وأشارت يَعْنِي قَصِيرَةً-، فاسمع ماذا قالَ عن هذه الإشارةِ التي قالتْها بسببِ الغَيرةِ بين الضرائرِ، فَقَالَ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ)، فلا إلهَ الإ اللهُ .. كلمةٌ لو خُلِطتْ بماءِ البحرِ لغيَّرتْ طعمَه ولونَه وريحَه، فماذا عسى أن يُقالَ فيما هو أعظمُ من ذلكَ من السُّخريةِ والهَمزِ، ومن العيبِ واللَّمزِ، ومن الطَّعنِ بالأحسابِ، والتنابزِ بالألقابِ.
لماذا أصبحتْ كثيرٌ من مجالسِنا مجازرَ تُنحرُ فيه رقابُ المسلمينَ، وتُسلخُ جلودُهم، وتُقطَّعُ لحومُهم؟.
لماذا أصبحتْ الغيبةُ فاكهةُ المجالسِ، وحديثُ المُؤانِسِ؟، فأينَ الرحمةُ والإحسانُ، بينَ الأحبةِ والإخوانِ؟.
اسمع إلى وصيةِ حبيبِك صلى اللهُ عليه وسلمَ في أعظمِ مقامٍ، في البلدِ الحرامِ، في اليومِ الحرامِ، في الشَّهرِ الحرامِ، أمامَ أكثرِ من مائةِ ألفٍ، قالَ في خطبتِه يومَ النَّحرِ: (فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا)، فَأَعَادَهَا مِرَارً،ا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:(اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟).
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيْمِ، وَنَفَعَنِي وَاِيِّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيْمِ، أقُوْلُ قَوْلِي هَذاوَأسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيْمَ لَيْ وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إنَّهُ هُوَ الْغَفُوْرُ الرَّحِيْمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا، أما بعد:
اسمعوا إلى عذابِ المغتابينَ في القبورِ، ودماءُهم تَنزفُ على وجوهِهم والصَّدورِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَمَّا عُرِجَ بِي، مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُم، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلاءِ يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَؤُلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ)، ثُمَّ يُحشرونَ مَفاليسَ، في يومِ الحِسابِ والمَقاييسِ، (إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَ،ا وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)، نَعوذُ باللهِ، حسناتُ السِّنينَ، تذهبُ في لمحِ العَينِ.
فيا أيُّها المُغتابُ تحلَّلْ اليومَ قبلَ أن تذهبَ حسناتُكَ، فإذا عَلمتَ أنه قد يغضبُ منكَ وقد تقعْ بينكم خصومةٌ وقطيعةٌ، فامدَحهُ في المجالسِ التي اغتَبتَهُ فيها، وأكثرْ له من الاستغفارِ، لعله يعفو عنكَ يومَ لا درهمَ ولا دينارَ.
وأنتَ يا صاحبَ المجلسِ، ويا رئيسَ القومِ، ويا كبيرَ العائلةِ، قولوا للمغتابِ اسكتْ، وقولوا للهمَّازِ اصمتْ، واحفظوا مجالسَكم من لحومِ المسلمينَ، واملأوها بذكرِ ربِّ العالمينَ، تَكنْ بركةً وخيراً على المجتمعِ والبلادِ والنَّاسِ أَجمعينَ، وقَد جاءَ في الحديثِ أن: (مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ فِي الْغِيبَةِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ).
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنَا خَطأَنَا وعَمْدَنَا، وهَــزْلَنا وجِدَّنَا، وكُلَّ ذلِك عِنْدَنَا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنَا ما قَدَّمْنَا وما أخَّرْنَا، وما أسْرَرْنَا وما أعْلَنَّا، وما أنْتَ أعْلَمُ بهِ مِنَّا، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُك خَشْيَتكَ في الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وكلِمَةَ الحقِّ في الرِّضَا والغَضَبِ، والقَصْدَ في الفَقْرِ والغِنَى، ونَسْألُك نَعِيْماً لا يَنْفَدُ، وقُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُك إيْمَانًا دَائِمًا، وقَلْبًا خَاشِعًا، وعِلْمًا نَافِعا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا، ودِيْنًا قَيِّمًا، ونَسْألُكَ العَافِية، اللَّهُمَّ آمِنَّا في أوطَانِنا، وأَصلِحْ أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، واجْعلْ ولايتَنا فِيمنْ خَافَكَ واتَّقاكَ واتَّبعَ رِضاكَ يا ربَّ العَالمينَ، اللَّهُمَّ وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وتَرضَاهُ من الأقوَالِ والأعمَالِ يا حَيُ يا قَيومُ، اللَّهُمَّ أصلِحْ لَهُ بِطانتَهُ يَا ذَا الجَلالِ والإكرَامِ، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.
المرفقات
1645590778_وليمة الإخوان - الغيبة.docx
1645590785_وليمة الإخوان - الغيبة.pdf