وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةً
عبدالرحمن اللهيبي
أَمَّا بَعدُ ، فَـ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ “
أيها المسلمون: هذا هلالُ الصوم قد دنَت وِلادتُه، واقتربَت إطلالتُه، الأعناقُ ترقبُه، قلبُ المؤمن له يتوق، وإلى صيامه وقيامه في رغبة وشوق، فاستقبلوه يا مسلمون بما يليقُ به من التعظيم والإجلال، والنية الصالحة والعزيمة الصادقة على حسن الطاعة والعبادة
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: هَا هِيَ السَّاعَاتُ تَتَسَابَقُ فما هي إلا ثلاثة أيام أو أربعة ، ويحل علينا شهر الرحمة والغفران ، وليالي العتق من النيران، فَهَل نَحنُ عَلَى استِعدَادٍ لاستِقبَالِهِ ؟
وهَل هَيَّأنَا النُّفُوسَ لاغتِنَامِه عند َحُلُولِهِ؟
والله يا مسلمون إنَّ إِدرَاكَ شَهرِ رَمَضَانَ لنِعمَةٌ عَظِيمَةٌ ومنة جسيمة، فهنيئا لمن سيدرك منا شهرَ الرحمة والغفران
فهو موسم جليل عظيم كريم تتضاعف فيه الحسنات وترفع فيه الدرجات وتغفر فيه الزلات وتعتق فيه الرقاب وتعظم فيه الرحمات
يا عباد الله ألا ترون أنَّ الزَّمَنَ يَجرِي بنا بلا تَوَقَّفُ ، والعُمُرُ يمضي بنا سريعا وَما مضى منه لا يَعُودُ ، قد رحل رمضان الماضي قريبا وكنا نبكي على رحيله وها هو الآن يعود ، فالمسلم العاقل الحصيف يَغتَنِمُ أزمنة الخير والرحمات، وَمَوَاسِمَ الفضل والبركات، فهي أيام قليلة معدودات لا يُفَرِّطُ فيها عن التقرب لرب البريات إلا محروم مخذول
ومن أوائل ما يجب أن يقوم به المسلم عند استقباله للشهر المبارك أَن يَبدَأَ بِأَشرَفِ أَعضَائِهِ ، وهو قلبِه فَيُطَهِّرَهُ مِمَّا يَحُولُ بَينَهُ وَبَينَ رَبِّهِ ، فحسن إقبال المرء على طاعة ربه مبني على سَلامَةِ قَلبِهِ ، فصَلاح أَمرِ المرء بِصَلاحِ فُؤَادِهِ ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ ” أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلا وَهِيَ القَلبُ ” رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ .
فها أنتم في آخر جمعة من شعبان فتأهَّبُوا لاستِقبالِ شهر رمضان ، بالتوبة والإنابة فهو شهر المغفرة والرضوان، فأقبِلوا على الله البر الكريم، اسألوه إقالة العثَرات، وتذلَّلوا بين يدَي مولاكم ليمحُو عنكم الزلاَّت؛ فسلامة العبد من الخطيئات وطهارة قلبه من السيئات من أكبر الوسائل المعينة على حسن الإقبال على الله في شهر الرحمات والبركات؟!
وَعَلَى هَذَا – أَيُّهَا المُسلِمُونَ – فَإِنَّ المُسلِمَ العَاقِلَ يَحرِصُ عَلَى أَلاَّ يَدخُلَ عَلَيهِ شَهرُ رَمَضَانَ إِلاَّ وَقَد أَصلَحَ قَلبَهُ مِنَ الأَمرَاضِ الَّتِي تُعيق سَيرَهُ إِلى رَبِّ البريات ، كامتِلاءِ القُلُوبِ بأمراض الغِلِّ وَالحِقدِ وَالحَسَدِ والكبر وغيرها من الآفات ، أَو عُقُوقِ الوَالِدَينِ أَوِ التَّهَاجُرِ وَالتَّدَابُرِ مع الأقارب والقريبات، فَعَلَى المُسلِمِ قَبلَ دُخُولِ الشَّهرِ أن يُطَهِّرَ قَلبَهُ مِن كُلِّ هَذِهِ الأمراض والآفات.. وذلك لأجل أن تَخِفَّ نَفسُهُ فتنشطَ للعبادة وتجتهدَ في الطاعات ، فمَن كَانَ قَلبُهُ مريضا فَاسِدًا، فَأَنَّى لَهُ التَّوفِيقُ لِصَلاحِ العَمَلِ في رَمَضَانَ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ ، ها هو رَمَضَانُ عَلَى الأَبوَابِ قد حل أوانه وأوشك زمانه ، فَمَنْ سيدركه منا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَلْيُعَمِّرْ وَقْتَهُ بِطَاعَةِ مولاه ؛ فَكَمْ فِي الْقُبُورِ مِنْ أُنَاسٍ يَتَمَنَّوْنَ الرَّجْعَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِلتَّزَوُّدِ مِنَ الْخَيْرات، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ هيهات.
والله لو خُيِّر أهل القبور لتمنى الواحد منهم أن يعود للدنيا لا لينال من أموالها وحطامها وإنما ليصلي ركعتين لله أو ليصوم يوما واحدا في سبيل الله أو ليدرك لحظة واحدة من شهر رمضان فينال بها رضوان الله
فيا حسرة على العباد الذين اعْتَادُوا تضييع رَمَضَانَ عَلَى اتِّبَاعِ الشهوات ، مِنَ المعاصي والسيئات، والإقبال على ما يزينه لهم إبليس وأعوانه من الآثام والخطيئات، وَلَاسِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْمُلْهِيَاتُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ ، تتَنَافَسُ في ذلك وسائل الشر والإفساد من الْفَضَائِيَّات
فها أنت ترى من المسلمين من يَصُومُ نَهَارَهُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ والمفطرات ، ثم يَقْضِي لَيْلَهُ عَلَى مُشَاهَدَةِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ من الخطيئات، وَهَذَا وَاللَّهِ مِنْ الخذلان وقَضَاءِ الْعُمرِ فِي سُوءِ الْعَمَلِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ وَالْهِدَايَةِ.
فَيَا عبد الله يا مَن طَالَت عَن رَبِّهِ غَيبَتُهُ .. وَامتَدَّ عن مولاهُ إعراضه وصدته .. وَيَا مَن تَكَرَّرَت في الماضي خَسَارَتُهُ ، هَا هي قَد قَرُبَت أَيَّامُ المُصَالَحَةِ مع الله ..
مخذول والله من كره الله طاعته فثبطه عن القربات ((وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لَأَعَدُّواْ لَهُۥ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ ٱقْعُدُواْ مَعَ ٱلْقَٰعِدِينَ))
أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ، واعلموا بأنكم قد خلقتم في هذه الدنيا لعبادته ، وممتحنون فيها بطاعته ، ومجزيون في الآخرة على أعمالكم بمثقال الذر بعدله وبرحمته.. ” يَا قَومِ إِنَّمَا هَذِهِ الحَيَاةُ الدُّنيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ القَرَارِ .
أقول قولي هذا...
أَمَّا بَعدُ ، فَاتَّقُوا اللهَ – تَعَالى – وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ ” وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا “
أيها المسلمون، كلما ازداد شهر رمضانَ اقترابًا .. زاد قلب المؤمن له وَجَلاً واضطرابًا، فهو لا يدري أتدرك نفسه هذا الشهر فيهنّيها، أم تخرج روحه قبل دخول الشهر فيعزّيها، ثم هو إذا أدرك الشهر لا يدري بعد ذلك أيكون من الموفقين المسددين، أم من المخذولين المبعدين.
وإنه يجب علينا ـ أيها المسلمون ـ أن نقوم بواجب القَوامة والرعاية، وأن نولي نساءنا وأبناءنا أشد الاهتمام والعناية، وأن نغتنم هذا الشهرَ المبارك في تربيتهم على ما ينفعهم في أخراهم، وتأطيرهم على ما يقربهم من ربهم ومولاهم.
إننا نسائلكم بالله يا مسلمون ـ ولنكن مع أنفسنا صادقين: هل قام بواجب الأمانة من كان بيته يدوي في هذا الشهر المبارك بأصوات اللهو الحرام، وتصدع فيه الشاشات بمشاهد الفجور والآثام ، والاستهزاء بالدين والطعن في شريعة رب الأنام، بدلا من أن يُدوى فيه بذكر الله وتلاوة القرآن
هل قام بواجب الأمانة من يخرج للصلاة المكتوبة أو لصلاة التراويح وبناته يقضون جل أوقاتهن في الأسواق وأبناؤه يجوبون الشوارع ويؤذون المارة في الطرقات !
أو يترك أطفاله يعبثون في المساجد ويشوشون على المسلمين في الصلوات .. فإن لم نعتني برعاية أولادنا وحسن تربيتهم في موسمِ الرحمة والغفران فمتى؟
ألا فاتقوا الله يا مسلمون وَاسْتَقْبِلُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِتَوْبَةٍ صَادِقَةٍ، وَعَزِيمَةٍ جَادَّةٍ ونية صالحة بِاغْتِنَامِه بِالطَّاعَاتِ وَالْبُعْدِ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ ؛ فَلَيْسَ الصِّيَامُ مُجَرَّدَ الإِمْسَاكِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ والمفطرات، فَالصَّوْمُ صَوْمُ اللِّسَانِ عَنِ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وسائر الآفات، وَصَوْمُ الْجَوَارِحِ عَنِ الذُّنُوبِ والسيئات؛ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ» رواه البخاري.
وَاعْقِدُوا الْعَزْمَ من الآن عَلَى تَفْرِيغِ النَّفْسِ في شهر رمضان لِلطَّاعَات، وَتَرْكِ المعاصي والْخطيئات، وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنَ الضَّغِينَةِ والقطيعة والمشاحنات ، فَإِنَّ رَمَضَانَ أَيَّامٌ معدودة تَمُرُّ وَتَمْضِي ثم تنقضي، وَاعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا، ثُمَّ صَارُوا تَحْتَ أَطْبَاقِ الثَّرَى قَدْ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ؛ فَلْنَعْمَلْ لِذَلِكَ الْمَصِيرِ؛ فَإِنَّ الْعُمْرَ قَصِيرٌ، وَالنَّاقِدَ بَصِيرٌ ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾