ولله الأسماء الحًسنى
عبدالعزيز أبو يوسف
الخطبة الأولى
الحمد لله المبدأ المعيد، الفعالُ لما يُريد، خلق فسوى، وقدر فهدى، أحمده وأشكره، وأُثني عليه الخير كله هو رب كل شيء ومليُكه، وأُصلي وأُسلم على رسوله ومصطفاه محمد ابن عبدالله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه تفوزوا وتفلحوا، ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً).
أيها المسلمون: العلم بأسماء الله وصفاته أشرف العلوم الشرعية وأزكى المقاصد؛ لتعلقه بأشرف معلوم وهو الله عز وجل، فمعرفته سبحانه والعلم بأسمائه وصفاته وأفعاله أجل علوم الدين كلها، والثناء عليه وتمجيده أشرف الأقوال، وقد جاء في الكتاب العزيز آيات كثيرة آمرةً بتعلم هذا العلم الشريف والعناية به، قال سبحانه: ( فأعلموا أن الله عزيز حكيم)، وقوله جل شأنه: ( وأعلموا أن الله بكل شيء عليم) وغيرهما من الآيات، والحاجة للعلم بالأسماء والصفات لله سبحانه عظيمة، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: " ليست حاجة الأرواح قط إلى شيء أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها ومحبته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبد بها أعلم كان بالله أعرف، وله أطلب وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر كان بالله أجهل وإليه أكره ومنه أبعد، والله ينزل العبد من نفسه حيث ينزله العبد من نفسه".
وأما ذكر الله تعالى لأسمائه وصفاته في القرآن الكريم فهو كثير جداً، وهي أعظم شيء تضمنه الكتاب المبين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " والقرآن فيه من ذكر أسماء الله وصفاته وأفعاله أكثر مما فيه من ذكر الأكل والشرب والنكاح في الجنة، والآيات المتضمنة لذكر أسماء الله وصفاته أعظم قدراً من آيات المعاد".
أيها المؤمنون: خالقنا وربنا سبحانه وتعالى يُحب أن يُعظم ويُحمد ويُشكر، وهو أهل لذلك سبحانه، ولا يكون ذلك إلا بمعرفته عز وجل حق المعرفة، فليس للقلوب راحة ولذة إلا بفقه أسمائه وصفاته جل وعلا، والشوق إلى لقاءه، والتقرب إليه بما يُحبه ويُرضيه، وإذا قويت هذه المعرفة عَظُم إقبال القلوب عليه تعالى، واستسلمت لشرعه، ولزمت أوامره، وبعُدت عن نواهيه، وقوي الحياء من قُربه ونظره وعلمه وإحاطته بالعباد.
وأعظم الطرق الموصلة إلى تقوى الله تعالى ومراقبته وخشيته: معرفة أسمائه تعالى الحسنى وصفاته العُلى ومعانيها العظيمة، فقد تفرد سبحانه بكل كمال وجلال ومجدٍ وحمدٍ ورحمةٍ، فالإيمان بالله تعالى أول أركان الإيمان الستة وهو أفضلها وأجلها، فلا بد للعبد من أن يسعى لمعرفة ربه وخالقه ويبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة المتقين الأبرار الموقنين، فبحسب معرفته بربه يكون إيمانه، فكلما ازداد معرفةً بالله تعالى وأسمائه وصفاته ازداد إيمانه ، وكلما نقص من هذه المعرفة نقص إيمانه.
وأعمال القلوب كالتوكل والتفويض والصبر واليقين والثقة بالله تعالى وصدق الاعتماد عليه لا يمكن أن تستقيم للعبد إلا إذا استقرت في قلبه معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته حق المعرفة، وعلم معانيها ولوازمها، عندها يقوى اعتماده على ربه عز وجل وتقوى ثقته به ورجائه إلى غير ذلك من أعمال القلوب، قال ابن القيم رحمه الله في حديثه عن أحد أعمال القلوب العظيمة وهو التوكل وأعظم ما يقوم عليه: " وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة التوكل إلا بها، فأول ذلك: معرفة الرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته، وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل"، وهذا الأمر ملازم للعبد في جميع أعمال القلوب، فمن لم يعرف ربه عز وجل حق المعرفة لن يصفو له توكل ولا رجاء ولا خشية ولا إنابة ولا غير ذلك من الأعمال القلبية، قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) أي: " إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى كلما كانت المعرفة به أتم والعلم به أكمل، وكانت الخشية له أعظم وأكثر"، وقال الإمام ابن رجب رحمه الله:" العلم النافع: ما عرّف العبد بربه، ودله عليه حتى عرفه، ووحدّه وأنِس به، واستحى من قُربه، وعبده كأنه يراه" .
أيها المباركون: إن منهج أهل السنة والجماعة في أسماء الله تعالى وصفاته: هو الإيمان بها على الوجه الذي يليق به سبحانه من غير تحريف: وهو تغيير معنى الصفة إلى معنى آخر لم يرده الله تعالى، ولا تعطيل: وهو نفي الصفات الواردة في الكتاب والسنة كلها أو بعضها عن الله تعالى، ولا تكييف: وهو الإخبار عن كيفية الصفة إذ لا يعلم كيفيتها إلا الله عز وجل، ولا تمثيل: وهو إثبات مثل لصفة من صفات الله تعالى، كأن يقول: سمع الله تعالى كسمع البشر ونحو ذلك.
وأسماء الله تعالى وصفاته توقيفية فلا مجال للعقل فيها، فيجب الوقوف فيها على ما جاء في الكتاب والسنة فلا يُزاد فيها ولا يُنقص، ولا تُكيّف؛ لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه الله تعالى من الأسماء والصفات، وأسماء الله تعالى كلها حُسنى كما قال سبحانه: ( ولله الأسماء الحسنى)، فهي متضمنةً لصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
والفرق بين الأسماء والصفات ذكره العلماء وبيّنوه، وممن بيّن ذلك وأوضحه الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله فقال:" فالاسم: ما سُمي الله سبحانه به، والصفة: ما وُصِف الله سبحانه به، وبينهما فرق ظاهر، فالاسم يُعتبر علمًا على الله عز وجل متضمنًا للصفة، ويلزم من إثبات الاسم إثبات الصفة؛ مثاله:(إن الله غفور رحيم) "غفور" اسم يلزم منه المغفرة، و"رحيم" يلزم منه إثبات الرحمة، ولا يلزم من إثبات الصفة إثبات الاسم، مثل صفة: "الكلام" لا يلزم أن نثبت لله اسم: "المتكلم"، وبناءً على ذلك فالصفات أوسع؛ لأن كل اسم متضمن لصفة، وليست كل صفة متضمنةً لاسم".
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة ، أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
إخوة الإيمان: لا حياة للقلوب ولا نعيم لها ولا سرور ولا طُمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها عز وجل بما سمى به نفسه ووصفها به، ثم تسعى فيما يُقربها إليه ويُدنيها من مرضاته، فمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته أصل الدين، وأساس الهداية، فالعلم بأسماء الله وصفاته فوائده جليلة وعُقباه حميدة، وثماره يانعة، فمن ثمار العلم والإيمان بها:
أولاً/ أن الله سبحانه يُحب أسمائه وصفاته، ويحب ظهور آثارها على خلقه، وهذا من لوازم كماله، فهو وتر يحب الوتر، جميل يُحب الجمال، عليم يُحب العلماء، جواد يحب الأجواد، قوي فالمؤمن القوي أحب إليه من المؤمن الضعيف، حيي يُحب أهل الحياء، تواب يحب التوابين، شكور يحب الشاكرين، صادق يحب الصادقين، مُحسن يحب المحسنين، رحيم يُحب الرحماء، ستّير يحب من يستر على عباده، عفو يحب من يعفو عنهم، بَر يحب البِر وأهله، عدل يحب العدل، ويجازي عباده بحسب وجود هذه الصفات لديهم وجوداً وعدماً، وقوةً وضعفاً، وهذا باب واسع يدل على شرف هذا العلم وفضله.
ثانياً/ إن معرفة الله بأسمائه وصفاته تجارة رابحة، من أرباحها سكون النفس وطمأنينة القلب وانشراح الصدر، فالقلب إذا أطمأن بأن الله وحده ربه وإلهه ومعبوده ومليكه، وأن مرجعه إليه حسُن إقباله عليه وجد واجتهد في نيل محابه ومراضيه واتيانها.
ثالثاً/ إن العلم بأسماء الله تعالى وصفاته هو الواقي من الزلل، والمقيل من العثرات، والفاتح لباب الأمل، والمعين على الصبر، والمُبعِد عن الخمول والكسل، والمرغب في الطاعات والقرب، والمرهب من المعاصي والزلل، والسلوان في المصائب والآلام، والحرز الحامي من الشيطان، والدافع للسخاء والبذل والإحسان إلى غير ذلك من الأعمال الطيبة الصالحة التي يُحبها الله ويرضاها لتعلق أسماء الله تعالى وصفاته بذلك كله.
رابعاً/ أن العبد كلما ازداد معرفةً بأسماء الله وصفاته وتبصر بها ازداد خشيةً وتقوى ومراقبةً وعبادةً لله عز وجل، فمن كان بالله أعرف كان له أخشى وأتقى.
خامساً/ ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله شيئاً من ثمار العلم بأسماء الله وصفاته فقال: " أطيب ما في الدنيا معرفته سبحانه ومحبته، وألذ ما في الجنة رؤيته ومشاهدته...، فالسير إلى الله من طريق الأسماء والصفات شأنه عجب وفتحه عجب، صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تَعِبٍ ولا مكدود..، وسبيل هذه المعرفة يكون باستحضار معاني الأسماء الحسنى وتحصيلها في القلوب حتى تتأثر القلوب بآثارها ومقتضياتها وتمتلئ بأجلّ المعارف، فمثلاً: أسماء العظمة والكبرياء والمجد والجلال والهيبة تملأ القلب تعظيماً لله وإجلالاً له، وأسماء الجمال والبر والإحسان والرحمة والجود تملأ القلب محبة لله وشوقاً له وحمداً له وشكراً، وأسماء العز والحكمة والعلم والقدرة تملأ القلب خضوعاً لله وخشوعاً وانكساراً بين يديه، وأسماء العلم والخبرة والإحاطة والمراقبة والمشاهدة تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات، وحراسةً للخواطر عن الأفكار الرديئة والإرادات الفاسدة، وأسماء الغنى واللطف تملأ القلب افتقاراً واضطراراً إليه والتفاتاً إليه كل وقت وحال، فهذه المعارف التي تحصل للقلوب بسبب معرفة العبد بأسمائه وصفاته وتعبده بها لله لا يحصل العبد في الدنيا أجلّ ولا أفضل ولا أكمل منها، وهي أفضل العطايا من الله لعبده، وهي روح التوحيد، ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخالص والإيمان الكامل".
سادساً/ إذا علم العبد وآمن بأن من صفات الله عز وجل: ( الرحمة، والإحسان، والرأفة، واللطف، والكرم، والرزق) امتلئ قلبه رغبةً فيما عند ربه سبحانه من هذه الصفات الجليلة والعطايا الكريمة، فكانت له ملجأً عند كل شدة ونائبه تنزل به، فلسان حاله ومقاله: يا رحيم ارحمني، ويا لطيف أُلطف بي، ويا كريم أكرمني، ويا رزاق أرزقني، ولن يُعدم خيراً من الرب الرحمان الرحيم اللطيف الكريم الرزاق.
سابعاً/ إذا علم العبد وآمن بأن الله تعالى من صفاته: ( العلم، والسمع، والبصر، والرقيب) امتلأ قلبه حياءً من الله تعالى وخوفاً ومراقبةً له في الحركات والسكنات، فأتى ما يُرضيه وتجنب ما يُسخطه.
ثامناً/ إذا علم العبد وآمن بأن من صفات الله تعالى وصفاته: ( الحكيم و الخبير) في قضائه وقدره سبحانه، اطمأنت نفسه وهدأ قلبه وسكن فؤاده لعلمه اليقيني بأن الله تعالى لن يُُقدر له إلا ما ينفعه وما هو خير له في العاجل والآجل.
عاشراً/ إذا علم العبد وآمن بأن الله تعالى من صفات الله تعالى: ( الشافي) تعلق قلبه عند مرضه ووجعه بمولاه سبحانه طمعاً في فضله ورحمته وشفائه وكشف الضر الذي أصابه.
الحادي عشر/ إذا علم العبد وآمن بأن الله تعالى من صفاته أنه قريب، مجُيب، سميع للدعاء أنزل حوائجه به عز وجل، ولاذ بجنابه وانكسر بين يديه ليعطيه سؤله ويُجيب دعاءه.
الثاني عشر/ إذا علم العبد وآمن بأن الله تعالى من صفاته: ( التواب، والغفور، والعفو) أقبل عليه سبحانه ، فكلما وقع منه ذنب بادر للتوبة والاستغفار ليقينه بأن ربه سبحانه سيغفر له ويعفوا عنه ويتوب.
إلى غير ذلك من الثمار العظيمة والكثيرة المترتبة على العلم والإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته وفق هدي الكتاب والسنة.
اللهم ارزقنا الفقه في أسمائك وصفاتك وأنفعنا بها وأرفعنا.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل عليماً: ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر وأرضى اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحب والآل ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التناد، وعنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدائك أعداء الدين ، وانصر عبادك الموحدين ، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاء ، اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال ، ومُدهما بنصرك وإعانتك وتوفيقك وتسديدك ، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا على القوم الظالمين، وأحفظهم واشف مريضهم وداوي جريحهم وتقبل ميتهم في الشهداء، وأدم على هذه البلاد أمنها وإيمانها وقيادتها ورخائها ، ومن أراد بها سوءً فأشغله في نفسه وأجعل كيده في نحره، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا ، وحرم على النار أجسادنا ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون ، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.