ولله الأسماء الحسنى

﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾([1])

 

الخطبة الأولى

الحمدُ للهِ كما حَمِدَ نفسَه، وكما هو أهلُهُ ومُستَحِقُّه، وكما حَمِدَهُ الحامدونَ من جميعِ خَلْقِه، وأستعينُهُ استعانةَ مَن فَوَّضَ إليه أمْرَه، وأقَرَّ أنه لا مَنْجى ولا مَلْجأَ إلا إليه، وأستغفِرُه استغفارَ مُقِرٍّ بذنبِه، مُعْتَرِفٍ بخطيئتِه، وأشكُرُهُ على سابِغِ نِعمَتِهِ وعظيمِ مِنَّتِه، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له؛ إقرارًا برُبوبيتِه، وإخلاصًا له في وَحدانيتِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسُولُه، خِيرَتُهُ من بَرِيَّتِه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى صَحابَتِهِ والتابعين، ومَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرا.

أما بعد:

فإن أحسَنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ محمدٍ ﷺ، وشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بدعة، وكُلَّ بدعةٍ ضَلالة، وعليكم بالجماعةِ فإن يَدَ اللهِ مع الجماعة، والزَمُوا التقوى في سِرِّكُم وعلانيتكُم، وعَظِّموا ربَّكم واتقُوه.

أيُّها المسلمون:

للهِ سُبحانه وتعالى أسماءٌ قد بَلَغَت الغايةَ في الحُسْن، فليسَ في الأسماءِ أحسنُ منها ولا أكمَل، ولا يقومُ غيرُها مَقامَها؛ لأنها مُتضمِّنةٌ لصفاتٍ كاملةٍ لا نَقصَ فيها بوَجهٍ من الوُجوه.

ومن أسمائِه: الرحمن، والرحيم، والسميع، والبصير، والعليم، والعزيز، والقدير؛ فالرحمنُ الرحيمُ يَدُلَّانِ على كمالِ الرحمة، والسميعُ يَدُلُّ على كمالِ السَّمْع، والبصيرُ يَدُلُّ على كمالِ البَصَر، وقد أَمَرَ اللهُ سُبحانه عبادَهُ بأن يَدْعُوُه فقال: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾([2])، فَهُم فُقَراءُ مُحتاجون إليه، وهو غَنِيٌّ كريمٌ مُجيبٌ قدير، لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ في الأرضِ ولا في السماء، خَزائِنُهُ لا تَنْفَدُ ولا تَنْقُصُ بالعطاء، فعلينا أن نَدْعُوَهُ سُبحانه بِخَيْرَيِ الدنيا والآخرة، ونَتَحَرَّى أوقاتِ الإجابة، ونَبتعِدَ عن مَوانِعِها، من أكلِ الحرامِ وغيرِه.

ويُشْرَعُ التوسُّلُ بأسماءِ اللهِ وصِفاتِهِ والعملِ الصالِحِ عندَ الدعاء، بل إن ذلك من أسبابِ الإجابة، ودليلُ التوسُّلِ بالأسماء: ما وَرَدَ في الحديثِ عنه ﷺ: «اللهُمَّ إني ‌أسألُكَ يا أللهُ بأنَّكَ الواحدُ الأحدُ الصَّمَد، الذي لم يَلِد ولم يُولَد، ولم يَكُن له كُفُوًا أَحَد» رواه النسائي([3]).

ودليلُ التوسُّلِ بالصِّفاتِ أنه ﷺ إذا أصابهُ هَمٌّ أو غَمٌّ قال: «يا حَيُّ يا قَيُّومُ برَحمتِكَ أستغيث» رواه الحاكم([4]).

ودليلُ التوسُّلِ بالعملِ الصالِحِ قصةُ الثلاثةِ الذين انطَبَقَتْ عليهم الصَّخرةُ في الغار، فتَوَسَّلَ كُلُّ واحدٍ بصالحِ عَمَلِه؛ فَفَرَّجَ اللهُ عنهم.

وقد بَيَّنَ ﷺ أن للهِ «تِسْعَةً وتسعينَ اسْما، مئةً إلا واحدا، مَن أحصاها دخلَ الجنة»([5])، ومعنى «أحصاها»: أحاطَ بها لَفْظا، وفَهِمَها معنى، وعَمِلَ بمُقتضاها؛ ولذلك وجهان:

الأول: أن تَدْعُوَ اللهَ بها؛ لقولِه: ﴿فَادْعُوهُ بِهَا﴾ وذلك بأن تَجْعَلَها وسيلةً إلى مَطلُوبِك، فتختارَ الاسمَ المناسِبَ لمَطلُوبِك، فعندَ سُؤالِ المغفرةِ والرحمةِ تقول: «يا غَفُورُ يا رحيمُ: اغْفِر لي وارحَمْني»، وكقول: «رَبِّ اغْفِر لي وارحَمْني؛ إنك أنت الغفورُ الرحيم»، وعند سؤالِ الشِّفاء: «يا شافي اشْفِنِي» وهكذا.

الثاني: أن تَتَعرَّضَ في عِبادتِك لِما تقتضيهِ هذهِ الأسماء، فأسماءُ اللهِ السميعُ والعليمُ والرَّقيبُ تَملأُ القلبَ مُراقَبةً للهِ في الحَرَكاتِ والسَّكَنَات، فلا يقولُ المَرْءُ أو يَفْعَلُ إلا ما يُرْضِي الله؛ فإذا كان كذلك كان جديرًا بأن يكونَ ثمنًا لدُخولِ الجنة.

والأسماءُ الحُسْنى –عبادَ اللهِ– ليست مُنحَصِرةً في تِسعةٍ وتِسعِين؛ لحديث: «‌أسألُك ‌بكُلِّ ‌اسمٍ ‌هُو ‌لك، ‌سَمَّيْتَ به نَفْسَك، أو أنزلْتَهُ في كِتابِك، أو عَلَّمْتَهُ أحَدًا من خَلْقِك، أو استأثَرْتَ به في عِلمِ الغَيبِ عندَك»([6])، والحديثُ جُملةٌ واحدة، كذا قال بعضُ أهلِ العِلم، والعِلمُ عندَ الله.

وقد حَذَّرَ سُبحانه من الإلحادِ في أسمائِه، فقال تعالى: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾([7])، ومعنى الإلحادِ في أسماءِ اللهِ هو: المَيلُ بها عَمَّا يَجبُ فيها، وهو أنواع، منها:

 أوَّلًا: تَسميةُ الأصنامِ بأسماءِ اللهِ كما يفعلُ المشركون، حيثُ سَمَّوا اللاتَ من الإله، والعُزَّى من العزيز.

ثانيًا: تَسميةُ اللهِ سُبحانه وتعالى بما لا يَليقُ بجَلالِه، كتَسميةِ النصارى له أبَا، تعالى اللهُ عن ذلك عُلُوًّا كبيرا.

ثالثًا: وَصْفُ اللهِ تعالى بما يَتَعالى عنه ويتقَدَّسُ من النَّقائص، كقولِ اليهود: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾([8])، وقولِهم: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾([9]).

رابعًا: إنكارُ شيءٍ من الأسماء، أو مِمَّا دَلَّت عليه من الصِّفاتِ أو الأحكام، وقد أمَرَ اللهُ سُبحانه بالإعراضِ عن مُجادَلةِ الذين يَميلون بهذه الأسماءِ الجليلةِ إلى غيرِ الوِجهةِ السليمة، وأخبر سُبحانه أنهم سيَلْقَونَ جَزاءَهُم الرادِع ﴿سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

والواجبُ على العبدِ المُسلِمِ أن يَتَعَرَّفَ على اللهِ بأسمائهِ الحُسْنى وصِفاتِهِ العُلى، ويَدعُوَهُ ويَتَوسَّلَ إليهِ بها، وأن يَحْذَرَ من سُلُوكِ طريقِ أهلِ الإلحادِ والضلالِ في أسماءِ اللهِ وصِفاتِه؛ كما قال سُبحانه: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ الكريم، وفي سنةِ سيدِ المرسَلين، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين، فاستغفِرُوهُ إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ حَمْدًا كثيرًا طيِّبًا مُبارَكًا فيه كما يُحِبُّ رَبُّنا ويَرضى، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُهُ ورسُولُه، صلى اللهُ عليه وسلَّمَ وعلى آلِه وصَحبِه أجمعين.

أما بعد:

فاتَّقوا اللهَ حَقَّ تَقواه؛ فإن اللهَ خَلَقَكُم لِمَعرفتِهِ وعبادتِه، فطُوبى لمن قام بِحَقِّ مَولاه، فحَقُّهُ عليكم أن تَعْبُدُوه ولا تُشْرِكُوا به شِرْكًا خَفِيًّا ولا جَلِيّا، وأن تُحَقِّقُوا المتابعةَ والإخلاص، ويكونَ اللهُ وحْدَهُ لكم ناصِرًا وولِيَّا، وتَقَرَّبُوا إليه بالأعمالِ الصالحة، وتَحَبَّبُوا إليه بإجابةِ أوامِرِه، والابتعادِ عن نَواهيه، وادعُوهُ وتوَسَّلُوا إليه بأسمائهِ الحُسْنى وصِفاتِهِ العُلى.

ثم أكثِرُوا مِن الصلاةِ والسلامِ على مَن أُمِرْتُم بالصلاةِ والسلامِ عليه، وقُولُوا كما عَلَّمَكُم: (اللهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وعلى آلِ محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيد)([10]).



([1]) أُلقيت في 13/5/1443ه.
([2]) الأعراف: 180.
([3]) (1225) من حديث مِحجن بن الأدرع رضي اللهُ عنه، وصححه الألبانيُّ في تحقيقه لـ "مشكاة المصابيح" (2289).
([4]) (1875) وقال: (حديث صحيح الإسناد ولم يُخرجاه).
([5]) أخرجه البخاري (2736) ومسلم (2677) من حديث أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه.
([6]) أخرجه الإمامُ أحمدُ في مسنده (3712) وابنُ حِبان (972) والحاكم (1877) وقال: (صحيح على شرط مسلم).
([7]) الأعراف: 180.
([8]) آل عمران: 181.
([9]) المائدة: 64.
([10]) هذه هي الصلاة الإبراهيمية، وهي أفضل صيغ الصلاة على النبي محمد ﷺ، وقد علَّمها ﷺ أصحابَه حين سألوه أن يُعلمِّهم الصلاةَ عليه، وقد أخرجها البخاري (3370) من حديث كعب بن عُجرةَ رضي اللهُ عنه، قال ابنُ حجر رحمه الله: (واستُدلَّ بتعليمه ﷺ لأصحابه الكيفيةَ بعد سؤالهم عنها بأنها أفضلُ كيفيات الصلاة عليه؛ لأنه لا يختار لنفسه إلا الأشرفَ الأفضل). "فتح الباري" (11/166).

المشاهدات 185 | التعليقات 0