ولتنظر نفس ما قدمت لغد

[وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ]
26/12/1433

الْحَمْدُ للهِ الْعَلِيمِ الْحَلِيمِ، التَّوَّابِ الرَّحِيمِ؛ {يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشُّورَى: 25، 26]، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الزَّمَانَ، وَكَوَّرَ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 2]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ عَلِمَ حَقِيقَةَ الدُّنْيَا، وَسُرْعَةَ زَوَالِهَا، فَتَبَلَّغَ فِيهَا بِأَبْسَطِ الْعَيْشِ، وَأَقَلِّ الْمَتَاعِ، وَزَهَّدَ أُمَّتَهُ فِيهَا، وَحَذَّرَهُمْ مِنَ الْغُرُورِ بِهَا، وَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا عَبْدًا رَسُولًا لَا مَلِكًا رَسُولًا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاعْتَبِرُوا بِمُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ؛ فَإِنَّهَا تُذْهِبُ شَبَابَكُمْ، وَتُضْعِفُ قُوَّتَكُمْ، وَتَأْخُذُ مِنْ صِحَّتِكُمْ، وَتَنْقُصُ أَعْمَارَكُمْ، وَتُقَرِّبُ آجَالَكُمْ، وَلَا بَقَاءَ لِمَخْلُوقٍ فِي الدُّنْيَا مَهْمَا عَلَتْ مَنْزِلَتُهُ، وَعَظُمَتْ قُوَّتُهُ، وَاتَّسَعَتْ مَمْلَكَتُهُ، فَلْيَعْتَبِرْ بَاقٍ بِرَاحِلٍ، وَلْيَتَّعِظْ مُمْهَلٌ بِهَالِكٍ؛ فَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ؛ {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 34، 35].
أَيُّهَا النَّاسُ، فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ مِنْ كُلِّ عَامٍ يَكْثُرُ الْحَدِيثُ فِي الْخُطَبِ وَالْمَوَاعِظِ وَالْإِذَاعَاتِ وَغَيْرِهَا عَنْ تَوْدِيعِ عَامٍ وَاسْتِقْبَالِ آخَرَ، وَهِيَ أَعْوَامٌ تَطْوِيهَا الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي، وَفِيهَا أَحْدَاثٌ وَأَعْمَالٌ قَدْ دُوِّنَتْ فِي الصَّحَائِفِ بِخَيْرِهَا وَشَرِّهَا، وَقَدْ نَسِيَ النَّاسُ حُلْوَهَا وَمُرَّهَا، فَيَفْرَحُ بِحَلَاوَتِهَا مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِمَرَارَةِ الْغَدِ، وَيَحْزَنُ لِمَرَارَتِهَا مَنْ طُوِيَتْ عَنْهُ حَلَاوَةُ الْغَدِ، وَهَذَا مِنْ ضَعْفِ الْإِنْسَانِ وَجَهْلِهِ، أَنْ يَفْرَحَ بِالْحَاضِرِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْقُرْآنَ وَجَدَ فِيهِ كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَحُثُّ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الْعَمَلِ، وَتَدْعُو لِتَحْصِيلِ لَذَّتِهِ بِالِامْتِنَاعِ عَنِ اللَّذَّةِ الْحَاضِرَةِ، وَتُخَوِّفُ مِنْ ضَيَاعِ الْمُسْتَقْبَلِ بِسَبَبِ التَّفْرِيطِ زَمَنَ الْإِمْهَالِ.
يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الْحَشْرِ: 18، 19]، فَالْآيَةُ الْأُولَى أَصْلٌ فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَمُلَاحَظَةِ الْغَدِ، وَبِنَاءِ الْآخِرَةِ بِالْعَمَلِ فِي الدُّنْيَا، وَذَمِّ مَنِ اشْتَغَلَ لِحَاضِرِهِ، وَأَهْمَلَ مُسْتَقْبَلَهُ، وَجَاءَتْ (نَفْسٌ) مُنَكَّرَةٌ؛ لِتَشْمَلَ كُلَّ نَفْسٍ بَشَرِيَّةٍ مُؤْمِنَةٍ وَكَافِرَةٍ، وَطَائِعَةٍ وَعَاصِيَةٍ، وَبَرَّةٍ وَفَاجِرَةٍ، وَهُوَ أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْعَدْلِ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- أَنْ يَأْمُرَ كُلَّ نَفْسٍ بَشَرِيَّةٍ بِالنَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ فِيمَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ مُرْتَهَنٌ بِالْحَاضِرِ، وَعَمَلُ الْيَوْمِ مُؤَثِّرٌ فِي نَتِيجَةِ الْغَدِ، وَهَذَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا، وَيَكُونُ فِي الْآخِرَةِ:
أَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَفِي حَالِ الْأَمْنِ وَالرَّخَاءِ وَالرَّاحَةِ، وَاكْتِمَالِ النِّعْمَةِ، يُؤَثِّرُ عَمَلُ النَّاسِ -شُكْرًا للهِ تَعَالَى، أَوْ كُفْرًا لِنِعَمِهِ- فِي مُسْتَقْبَلِهِمُ الدُّنْيَوِيِّ؛ فَبِالشُّكْرِ تَزِيدُ النِّعَمُ وَتَثْبُتُ، وَبِالْكُفْرِ تَزُولُ وَتَنْقَلِبُ، عَلَى وَفْقِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الْبَشَرِ؛ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إِبْرَاهِيمَ: 7].
فَالْعَمَلُ السَّيِّئُ لِلْعَبْدِ يُؤَثِّرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلَوْ بَدَا لِلنَّاسِ غَيْرُ ذَلِكَ؛ فَتُنْزَعُ الْبَرَكَةُ مِنَ الْوَقْتِ وَالرِّزْقِ وَالْوَلَدِ، فَلَا يَكَادُ يَنْتَفِعُ صَاحِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ إِلَّا عَادَ وَبَالًا عَلَيْهِ؛ {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشُّورَى: 30].
هَذَا عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ.
وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ وَالدَّوْلَةُ وَالْأُمَّةُ، فَالْآيَاتُ فِي بَيَانِ تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي عَلَى مُسْتَقْبَلِهَا الدُّنْيَوِيِّ كَثِيرَةٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [الرُّومِ: 36]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الرُّومِ: 41].
وَكَانَ حَالُ الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، فَإِذَا أَصَابَهُمْ بَعْضُ وَبَالِ كُفْرِهِمْ؛ رَاحُوا يَعْتَذِرُونَ بِمَا كَانُوا بِهِ يُكَذِّبُونَ؛ {وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الْقَصَصِ: 47]، وَهُوَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا؛ فَإِنَّهُمْ يَعْتَذِرُونَ عَنْ سُوءِ عَمَلِهِمْ بِأَنَّ قَصْدَهُمْ كَانَ حَسَنًا؛ {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} [النِّسَاءِ: 62].
أَمَّا فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ النَّاسَ يَجِدُونَ آثَارَ أَعْمَالِهِمْ -حَسَنِهَا وَسَيِّئِهَا- فِي الْقَبْرِ، وَيَوْمَ النَّشْرِ؛ فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي كَانَتْ فِي الدُّنْيَا، وَكَانَتِ الْأَيَّامُ وَاللَّيَالِي مُسْتَوْدَعَهَا، وَهِيَ تَمُرُّ بِنَا سَرِيعًا كَأَنَّنَا لَا نَشْعُرُ بِهَا؛ {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزَّلْزَلَةِ: 6 - 8].
فَمُسْتَقْبَلُ الْآخِرَةِ -وَهِيَ الدَّارُ الْأَبَدِيَّةُ- نَعِيمًا وَعَذَابًا مُرْتَهَنٌ بِعَمَلِ الدُّنْيَا، وَهِيَ الدَّارُ الْفَانِيَةُ؛ {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [الْمُدَّثِّرِ: 38]، {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آلِ عِمْرَانَ: 30].
وَمَا يَزِيدُ الْأَلَمَ وَالْحَسْرَةَ عَلَى الْخَاسِرِينَ الْمُعْذَّبِينَ: إِخْبَارُهُمْ بِأَنَّهُمْ أَضَاعُوا مُسْتَقْبَلَهُمُ الْأَبَدِيَّ بِلَذَّةٍ حَاضِرَةٍ عَابِرَةٍ، وَاسْتَبْدَلُوا حَيَاتَهُمُ السَّرْمَدِيَّةَ بِدُنْيَاهُمُ الْفَانِيَةِ، يُخْبَرُونَ بِأَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ بِسَبَبِ أَعْمَالِ الدُّنْيَا الَّتِي طَوَتْهَا اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ؛ {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آلِ عِمْرَانَ: 181، 182]، {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الْحَجِّ:8-9]، {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [الْمَائِدَةِ: 80]، إِذَنْ فَهُوَ كَسْبُ أَنْفُسِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَعَمَلُ أَيْدِيهِمْ فِيهَا، وَلَمْ يَظْلِمْهُمُ اللهُ تَعَالَى مِثْقَالَ ذَرَّةٍ.
وَفِرَارُ هَذَا الصِّنْفِ مِنَ الْمَوْتِ هُوَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَهْمَلُوا دَارَ الْغَدِ، وَعَمِلُوا سُوءًا فِي دَارِ الْيَوْمِ؛ {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [الْجُمُعَةِ: 6، 7]، فَلَمْ وَلَنْ يَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ؛ بِسَبَبِ أَنَّهُ لَا مُسْتَقْبَلَ لَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، بَلْ مُسْتَقْبَلٌ سَيِّئٌ مُظْلِمٌ؛ بِسَبَبِ مَا عَمِلُوا.
وَالرَّبُّ -جَلَّ جَلَالُهُ- يُذَكِّرُنَا بِأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ هُمْ أَظْلَمُ النَّاسِ؛ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الْكَهْفِ: 57] .
وَتَحْذِيرَاتُ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ مِنْ نِسْيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُ مِنْهَا تَنْبِيهُهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِأَنَّهُمْ سَيُجْزَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ لِيَعْمَلُوا صَالِحًا، وَإِنْذَارُهُمْ بِذَلِكَ لِيَكُونَ حَاضِرًا فِي أَفْهَامِهِمْ؛ {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النَّبَأِ: 40]، {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [الْبَقَرَةِ: 281]، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} [آلِ عِمْرَانَ: 25]، {وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [النَّحْلِ: 111]، {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70].
وَحِينَهَا يَجْنِي الْعَامِلُ ثَمَرَةَ عَمَلِهِ، وَيَجِدُ جَزَاءَ سَعْيِهِ وَكَسْبِهِ، وَيَعْلَمُ مَا قَدَّمَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التَّكْوِيرِ: 14]، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الِانْفِطَارِ: 5].
وَحِينَهَا يُوَاجِهُ الْإِنْسَانُ الْحَقِيقَةَ، وَيَعْلَمُ قِيمَةَ الْعَمَلِ، وَيَتَذَكَّرُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي كَانَ لَا يَأْبَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَرْفَعُ بِهَا رَأْسًا، وَلَا يُرْخِي لَهَا سَمْعًا؛ {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} [النَّازِعَاتِ: 35]، {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الْفَجْرِ: 23، 24]، تَأَمَّلُوا تَمَنِّيَهُ أَنَّهُ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا لِحَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ، تَأَمَّلُوا ذَلِكَ؛ {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الْفَجْرِ: 24]، وَضُمُّوا إِلَيْهِ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الْحَشْرِ: 18]، فَمَا زِلْتُمْ فِي مَرْحَلَةِ الْعَمَلِ لِلْغَدِ، فَاعْمَلُوا بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى؛ لِئَلَّا يَقُولَ قَائِلٌ: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الْفَجْرِ: 24].
جَعَلَنَا اللهُ تَعَالَى مِمَّنْ إِذَا ذُكِّرَ تَذَكَّرَ، وَإِذَا وُعِظَ اتَّعَظَ، وَإِذَا أَذْنَبَ تَابَ وَاسْتَغْفَرَ، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الْبَقَرَةِ: 281].
أَيُّهَا النَّاسُ: لِنَتَذَكَّرْ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ أَنْ نَتَذَكَّرَ فِي الْآخِرَةِ، وَلْنَعْمَلْ فِي دَارِ الْفَنَاءِ مَا يَكُونُ لَنَا ذُخْرًا فِي دَارِ الْبَقَاءِ، وَلْنَأْخُذْ عِبْرَةً مِنْ مُرُورِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ، وَانْصِرَامِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَلْنَعْتَبِرْ بِتَقَلُّبَاتِ الزَّمَانِ، وَتَحَوُّلَاتِ الْأَيَّامِ؛ فَلَقَدْ رَأَيْنَا مَوْتَ عُظَمَاءَ جَبَّارِينَ، وَعَاصَرْنَا نَزْعَ مُلُوكٍ وَسَلَاطِينَ، وَشَاهَدْنَا افْتِقَارَ أَغْنِيَاءٍ، وَضَعْفَ مَنْ كَانُوا أَقْوِيَاءَ؛ فَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَهُوَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ.
إِنَّ النَّفْسَ الْبَشَرِيَّةَ قَدْ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَزُخْرُفِهَا، وَتَضْعُفُ أَمَامَ زِينَتِهَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَلَا صَبْرَ لِكَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا، فَكَانَ خِطَابُ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ آمِرًا لَهُمْ بِتَفَقُّدِ أَنْفُسِهِمْ؛ {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الْحَشْرِ: 18]؛ فَإِنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ قَدْ تَأْمُرُهُ بِالسُّوءِ، وَتُزَيِّنُ لَهُ الشَّرَّ، وَتُقَبِّحُ لَهُ الْخَيْرَ، فَيَكُونُ مِمَّنْ {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فَاطِرٍ: 8].
وَسَائِرُ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنْ جَانِبِ النَّفْسِ؛ فَالْمَوَادُّ الْفَاسِدَةُ كُلُّهَا إِلَيْهَا تَنْصَبُّ، ثُمَّ تَنْبَعِثُ مِنْهَا إِلَى الْأَعْضَاءِ، وَأَوَّلُ مَا تَنَالُ الْقَلْبَ.
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَعِيذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِ النَّفْسِ، وَيَقُولُ فِي خُطْبَةِ الْحَاجَةِ:"وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا"، وَأَرْشَدَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: "اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَقِنِي شَرَّ نَفْسِي".
فَحَرِيٌّ بِنَا فِي خِتَامِ عَامٍ وَافْتِتَاحِ آخَرَ أَنْ نَتَفَقَّدَ أَنْفُسَنَا، وَنَسْتَعِيذَ بِاللهِ تَعَالَى مِنْ شُرُورِهَا، وَنَجْتَهِدَ فِي بِنَاءِ مُسْتَقْبَلِهَا، وَنَحْذَرَ مِمَّا يُرْدِيهَا وَيُهْلِكُهَا؛ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَاللهِ مَا نَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ؛ مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِحَدِيثِ نَفْسِي؟ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَمْضِي قُدُمًا مَا يُعَاتِبُ نَفْسَهُ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

ولتنظر نفس ما قدمت لغد.doc

ولتنظر نفس ما قدمت لغد.doc

المشاهدات 6694 | التعليقات 8

جزاكم الله خير الجزاء


نفع الله بكم شيخنا وجزاكم خير الجزاء..


جزاك الله خير الجزاء وجعل ما تقدم ذخرا لك في ( يوم لاينفع مال ولا بنون )


أسأل الله أن يحرم وجهك على النار ويوفقك لكل خير


بارك الله فيك وفي علمك وجعله ذخرا لك


نفع الله بك يا شيخ إبراهيم، من أكثر ما يشدني في خطبك: دقة الاستنباط للآيات القرآنية، واستحضارها في الموضوع، مع قوة في العبارة، وتأثير في النفوس..لا أأشعر به إلا في أثناء الخطبة

أعلى الله درجتك، ورزقك الإخلاص في القول والعمل.


شكر الله تعالى لكم أيها المشايخ الفضلاء مروركم وتعليقكم على الخطبة وأسأل الله تعالى أن يجزيكم عني خيرا وأن يرفع قدركم ويعلي ذكركم وينفع بكم.. آمين.


السلام عليكم
شكر الله لك ياشيخ ابراهيم ونفع بعلمك وزادك من فضله
...............هنا طلب أجد احيانا من يساعدني لضبط خطبتي بالشكل
كما في خطبك ..وفقك الله ... فهل ممكن تدلني على ذلك ..أواحد الفضلاء الاعضاء
انتظر فزعتكم لعلها تكتما ثم نفيد ببعضه للمنتدي