ولا يغتب بعضكم بعضا
صالح العوفي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71]
عباد الله: خصلة ذميمة, وفعل شنيع، وقول قبيح، وإشارة بذيئة، ذمها الله -تعالى- في كتابه, ونهى عنها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله وفعاله، فاكهة الناس في المجالس، تلكم -عباد الله- هي الغيبة.
فقد حذر منها ربنا –سبحانه- فقال: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ)[الحجرات:12].
وبينها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: " أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟" قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ"، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: "إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ". (رواه مسلم: 2589).
وقال الله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)[الهمزة:1]؛ قال ابن كثير -رحمه الله-: "الهماز بالقول, واللماز بالفعل, يعني يزدري الناس وينتقص بهم".
وقال مقاتل بن سليمان: "يعني الطعَّان المغتاب الذي إذا غاب عنه الرجل اغتابه من خلفه".
وعَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-، قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، -تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ" (رواه أبو داود: 4875، وصححه الألباني). وهذا من أبلغ الزواجر عن الغيبة".
أيها المؤمنون: وللغيبة آثار، وأضرار كثيرة في الدنيا والآخرة:
فمنها: أن الغيبة تزيد في رصيد السيئات، وتنقص من رصيد الحسنات، كما في حديث عائشة: "لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ".
ومنها: أن الغيبة من أربى الربا؛ كما في حديث سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ" (رواه أبو داود: 4876، وصححه الألباني).
أي: أكثر الربا وبالاً، وأشده تحريماً، إطالة اللسان في عرض المسلم باحتقاره والوقيعة فيه؛ لأن العرض أعزُّ على النفس من المال.
وصاحب الغيبة مفلس يوم القيامة؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"(رواه مسلم: 2581).
والغيبة تسبب هجر صاحبها؛ قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-: "الواجب عليك، عدم مجالسة من يغتاب من المسلمين مع نصيحته والإنكار عليه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَان" (رواه مسلم: 49). فإن لم يمتثل فاترك مجالسته؛ لأن ذلك من تمام الإنكار عليه.ا.هـ
ومن يقع في غيبة الناس، فإن الله يتتبع عورته ويفضحه في جوف بيته؛ كما في حديث أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ" (رواه أبو داود: 4880، وقال الألباني: حسن صحيح).
ومن أضرارها: أن عقوبة المغتاب النار؛ ولا يُغفر لصاحب الغيبة حتى يعفو عنه من وقعت عليه الغيبة؛ وتؤدي إلى نشر الحقد، والحسد، والكراهية، والبغضاء بين أفراد المجتمع؛ وتؤدي إلى إفساد المودات، وقطع أواصر الأخوة الإيمانية، وملء القلوب بالضغائن والعداوات.
أيها المسلمون: وحدُّ الغيبة: أن تذكر أخاك بما يكرهه . سواء في بدنه، او نسبه، أوخُلُقه، أو أفعاله، أو دينه، أو دنياه، أو يحاكي طريقته قولا أو فعلاً.
وقوله " ذكرك أخاك بما يكره" يشمل المسلم الطائع والعاصي.
وتذكر-أيها المغتاب- قول النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث معاذ -رضي الله عنه-: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: "كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا", فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ:" ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).
مرَّ ابن سيرين بقوم، فقام إليه رجل منهم فقال: يا أبا بكر، إنا قد نِلْنا منك فحَلِّلنا. فقال: "إنِّي لا أُحِلُّ لك ما حَرَّم الله عليك. فأما ما كان إليَّ فهو لكم".
وقال بعض الحكماء: عاب رجلٌ رجلاً عند بعض أهل العلم فقال له: "قد استدللت على كثرة عيوبك بما تُكثر من عيب الناس؛ لأن الطالب للعيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12]
قلته...
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين..
واعلموا -عباد الله- أن من الأسباب التي توقع المسلم في الغيبة: كراهيته الباطنة لمن يغتاب؛ والمنافسة والحسداً؛ وتشفِّي الغيظ، وموافقة الأقران ومجاملة الرفقاء، فإنه يُخشى إن أنكر عليهم أن يستثقلوه؛ وكثرة الفراغ، فيشتغل بالناس وأعراضهم وعيوبهم؛ وحضور واغادر مجالس الغيبة والنميمة والبهتان.
ولا شك -عباد الله- أن الوقيعة في المؤمنين حرام و من كبائر الذنوب، وأن أشد أنواعها غيبة العلماء والدعاة والمصلحين، لأنه يؤدي إلى عدم الثقة بأهل العلم، وهذا شر عظيم.
و الغيبة محرمة في الأصل لكن هناك ستة مواضع ذكر العلماء أنه يجوز فيها الغيبة بضوابطها الشرعية الصحيحة، وقد جمعها الناظم في قوله:
القدح ليس بغيبة في ستة**** متظلم ومعرف ومحذر
ولمظهر فسقا ومستفت ومن**** طلب الإعانة في إزالة منكر
وسماع الغيبة -عباد الله- والاستماع إليها أمر محرم، فقائل الغيبة وسامعها في الإثم سواء، لأنه إقرار للمنكر، فإما أن ينهاه عن الغيبة، فإن انتهى وإلا قام من المجلس، قال الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام:68].
ومن اغتيب عنده مؤمن فنصره ودافع عن عرضه، جزاه الله بها خيرا في الدنيا والآخرة، كما في حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-, قَالَ: "مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعْتِقَهُ مِنَ النَّارِ"(رواه أحمد، وصححه الألباني في غاية المرام).
وتذكر أن هذه الكلمة التي تقولها بغيبة قد تزل بها في النار والعياذ بالله، كما في الحديث: "وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ" (رواه البخاري: 6478).
واعلموا أن عقوبة المغتابين يوم القيامة عظيمة، كما في الحديث: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ" (رواه أبو داود: 4878، وصححه الألباني).
ويجب التوبة من الغيبة، وتكون بالاستغفار والندم، والاستحلال من الذي اغتيب، هذا إذا لم يترتب على الاستحلال نفسه مفسدة أخرى، وإلا فالواجب حينئذٍ الاكتفاء بالدعاء له، والاستغفار، وذكر محاسنه في المواطن التي اغتابه فيها.
قال الناظم:
احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تهاب لقاءه الشجعان
وكان أبو بكر -رضي الله عنه- يأخذ بلسانه ويقول: "هذا الذي أوردني المهالك".
وقال عمر -رضي الله عنه-: "من كثر كلامه؛ كثر سقطه، ومن كثر سقطه؛ كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه؛ كانت النار أولى به".
فلنتق الله -عباد الله-، ولنراقب الله –عز وجل- الذي يقول: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق:18]، ولننشغل بالنظر في عيوبنا وإصلاحها، ولنكفّ عن عيوب الآخرين، ولنجالس الصالحين، ولنتقرب إلى الله -تعالى- بكثرة الأعمال الصالحة، وتقديم رضاه على رضا المخلوقين.
وصلوا وسلموا على الهادي البشير...
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.