{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ}.
عاصم بن محمد الغامدي
الحمدلله الذي يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ* يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾، والصلاة والسلام على خير خلقه، وخاتم رسله، الذي أرسله ربه ﴿بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى -أيها الناس-؛ فالتقوى خيرُ زادٍ وخيرُ لِباسٍ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
إنَّ الدنيا تفنَى، وإنَّ الآخرةَ تبقَى، فلا تُلهِيَّنَّكم الفانية، ولا تُشغِلنَّكم عن الباقِية، الدنيا مُنقطِعة، والمصيرُ إلى الله.
عباد الله:
اعلموا أن اللهَ لم يخلقكم عبثًا، ولم يرسِلْكُمْ هملاً، عَلِم مبلغَ نعَمِهِ عليكُم، وأحصَى إحسانَهُ إليكُم، ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾، في كلِّ حينٍ وأوانٍ، ومعَ كلِّ إنسانٍ وجانٍ، لا يَلْويهِ شخصٌ عن شخصٍ، ولا يُلهيهِ صوتٌ عنْ صوتٍ، كلُّ شيءٍ خاضعٌ له، وكلُّ شيء قائمٌ به، غِنى كلِّ فقيرٍ، وعزُّ كلِّ ذليلٍ، وقوةُ كلِّ ضعيفٍ، ومفْزَعُ كلِّ ملهوفٍ، من تكلَّم سمِعَ نطقَه، ومن سكتَ علِمَ سرَّه، ومن عاشَ فعليه رزقُه، ومن ماتَ فإليه مُنقَلبُهُ.
سبحانكَ ربَّنا ما أعظمَ شأنَكَ، وما أعزَّ سلطانَك، ما أعظمَ ما نرى منْ خَلْقِكَ، وما أصغرَ عظيمَهُ في جنبِ قُدْرَتِكَ، وما أهولَ ما نرى من ملكوتِكَ، وما أحقرَ ذلكَ فيما غابَ عنَّا من سلطانِك.
أَنْتَ الأوَّلُ فليسَ قَبْلَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الآخِرُ فليسَ بَعْدَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فليسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ البَاطِنُ فليسَ دُونَكَ شَيءٌ، ﴿قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.
أخبرنا عن نفسِهِ أنَّه لا يُخلَفُ وعدُه، وأكَّد ذلكَ في أربعِ مناسباتٍ مختلفاتٍ، إحداها: وعده بيومِ القيامَةِ، ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
والثانية: وعده بثوابِ المؤمنين ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ﴾.
والثالثة: وعده المؤمنين بالنصر، والكافرين بالعقاب، ﴿وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾.
والرابعة: وعده بوقوع أمورٍ في مستقبلِ هذه الدنيا، كَما أخبر أنَّ الرومَ سيغْلبون بعد غَلَبِهم، وكان ذلك في وقتٍ لم يُظنَّ لهم فيه نصرٌ، ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، وقد كان في هذا الوعدِ كرامةً للمسلمينَ الذين كانوا يحبون أن تغلب الروم؛ لأنهم أهل كتاب، وتحديًا للمشركينَ الذين كانوا يحبون أن تغلب الفرس؛ لأنهم أصحاب أوثان.
فلما سمع المشركون قوله تعالى بعد هزيمة الروم: ﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾، قالوا لأبي بكرt: ألا ترى إلى ما يقول صاحبك؟ يزعمُ أنَّ الرومَ تغلبُ فارسَ. فقال: صَدَقَ صاحبي. قالوا: هل لك أن نخاطرَك -أي: نراهنَك-؟ فجعل بينه وبينهم أجلاً على عددٍ من الإبل، فحلَّ الأجلُ قبلَ أن تغلبَ الرومُ فارسَ، فبلغَ ذلك النبيَّ r فساءَه وكرهه، وقال لأبي بكر: "ما دعاك إلى هذا؟" قال: تصديقًا لله ولرسوله. فقال: "تعرَّض لهم، وأعظم الخطْر، واجعله إلى بضعِ سنين"، فأتاهم أبو بكر فقال لهم: هل لكم في العودِ، فإن العودَ أحمدُ؟ قالوا: نعم، فلم تمض تلك السنون حتى غَلَبَتِ الرومُ فارسَ، ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
فالمؤمنُ يتأسى بأبي بكرٍ، وتملؤه الثقةُ بوعْدِ الله، واليقينُ بحصوله، وفاقدُ الإيمانِ كمركبٍ بلا دَفَّةٍ، تُقلِّبهُ الريحُ من كل جهةٍ، ويذهبُ به الموجُ في كلِّ مكانٍ، حتى يغرق في ظلمات التيه بما صدَّ عن سبيل الله، والعياذ بالله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم على خير خلقه أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فإن من أعظم الفتن في زماننا، ما حصل لأهلِ الكفرِ من تمكنٍ في أعمالِ الحياةِ الدنيا، مع عجزِ المسلمين عنها، فظنَّ بعضُ ضعافِ العقولِ أنَّ التمكنَ علامةٌ على الحقِّ، وأن العجزَ تخلفٌ عنه، وقد أوضح الله جلَّ جلالُه في كتابه هذه الفتنة، وخفَّف من شأنها، قبل وقوعها بأزمان كثيرة، وذلك عند إخبارِه بتحقق وعده بنصر الروم، ونفيهِ عن أكثر الناس العلمَ به وبقدرته، وبما يكون لهم من جزاء أبديٍ على أعمالهم، إذْ أثبتَ لهم في الوقت نفسه علمًا آخر ﴿وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ والعلمُ المقصورُ على ظاهرِ الحياةِ الدنيا في غايةِ الحقارةِ، وضيقِ المجالِ، بالنسبةِ إلى العلمِ بخالقِ السماواتِ والأرضِ، وبأوامرِهِ ونواهيهِ، وبما يُقَرِّبُ العبدَ منهُ، وما يُبعِدُهُ عنهُ، وما يُخلِّد في النعيمِ الأبديِّ والعذابِ الأبديِّ، من أعمالِ الخيرِ والشرِّ، فسبحانَ الله ما أعلمَهُ، وما أعْظَمَهُ، وما أحسنَ تعليمَهُ.
ولا يُفهم من هذا منعُ تعلمِ العلومِ الدنيويةِ، بل الواجب تعلُّم النافعِ منها واستعمالُه؛ للاستعانةِ بهِ على إعلاءِ كلمةِ اللهِ ومرضاتِهِ، وإصلاحِ الدنيا والآخرةِ، فقدِ انتفعَ النبيُّ r بدلالة أحد المشركين في هجرته، وبخطةٍ من خطط الفرس الكافرين في غزوة الخندق.
والعاقل يحذر من تلبيس أهل الباطل واستخفافهم، فهم لا يؤمنون بالآيات التي تحققت أمام أعينهم، فضلاً عن غيرها مما في علم الغيب كالثواب والعقاب في الآخرة، قال الله سبحانه في آخر سورة الروم: ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ﴾، هكذا يقولون مع أنهم رأوا تحققَ وعد الله بغلبة الروم في بضع سنين، ولما كانت هذه حالهم أمَر الله تعالى نبيه r قائلاً له: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾، فالخفيف يتأثر بأدنى تحريك، فيجزعُ ويضطربُ ويظهرُ عليه الغضب، وعكسُه الموقنُ الراسخُ الثقيلُ، الذي لا يستبطئ وعد الله، ولا تزعزعه شبهات المبطلين، ولا تضعف يقينه تشويشات المغرضين، ممن يتكلمون في دين الله بغير علم.
ونهيُ النبيِّ r عن الاستخفاف، يتضمن نهيَ أمتِهِ عنه من باب أولى، ولا يحصل الانتهاء إلا بالبعد عن المستخفين، وترك متابعة نتاجهم وأفكارهم، فإن من أدمن متابعة المشككين في ثوابت الدين، جاءَه شكٌ، أو خوفٌ، أو ضيقٌ، أو حَزَن، وخِيفَتْ عليه الفتنةُ، وخُشيَ عليهِ الضلالُ.
ألا فاتقوا الله يا عباد الله وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واستشعروا مراقبة السميع البصير، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة، فإن الشقي من حرم رحمة الله عياذًا بالله، وتقربوا إلى ربكم بعبادته، وأكثروا في سائر أيامكم من طاعته، وصلوا وسلموا على خير الورى طرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا.
المرفقات
1667481356_{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ}.docx
1667481357_{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ}.pdf
1667481357_{وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ} للجوال.pdf