ولا تيأسوا من روح الله

      ولا تيأسوا من روح الله                                                12/11/1441ه                     

الخطبة الأولى:

أيُّها المؤمنون:

حين تطول مدة الوباء، ويمتد زمن البلاء يزداد في بعض النفوس القلق، وتكثر الشكاية، ويضعف التوكل، وتقل السكينة، ولربما في هذه الأجواء يملي الشيطان ويوسوس، فيدب للبعض داء اليأس، ذلكم الداء الذي يبعث على الحزن والأسى، ويورث القلق والهمّ والغمّ، اليأس الذي يسَـدّ أبواب التفاؤل والأمل، ويغيب معه الرجاء، وانتظار الفرج، اليأس الذي يقعد عن الحركة والعمل، ويفوّت مصالحَ الدين والدنيا، اليأس تلك البلية الكبرى، التي تبتلى بها بعض النفوس البشرية، حين ترد عليها المكاره والمصائب والشرور، كما أخبرنا بذلك ربنا في قوله: ﴿وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرّ كانَ يَؤُوسا﴾.

أيها الإخوة المؤمنون:

اليأس سيئة من مساوئ الأخلاق، ذمّه الله تعالى ونهى عنه، على لسان نبيه يعقوب حين قال لبنيه: ‏{ولَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّه}، أي لا تفقدوا أملكم في رحمة الله، وفرجه وتنفيسه، فإنه هو الذي يفرج عنكم الغمّ الذي أنتم فيه، ‏{ولَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّه}، قول كريم، من رب كريم، ووعد عظيم يبعث على انشراح الصدور، وقوة العزائم، وانتظار الفرج والأمل، ‏{ولَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّه}، فالله لا يزال موجوداً، ولا يزال له رحمة، بل رَحمته وَسِعَتْ كل شيء، وعمّت كل حي، وفضلُ الله عظيم، وكرَمُه جزيل، وعَطاؤه عَميم، ولا كرب علينا وهو ربنا وحسبنا ونعم الوكيل، ولئن عجزت الأسباب عن تفريج الكربة ودفع ما نزل من وباء فإن مسبب الأسباب ومعطيها لا يعجز، وهو يعطي ويفرج ويرزق من حيث لا يحتسب العباد.

ربي معي فمن الذي أخشى إذاً       ما دام ربي يحسن التدبيرا

وهو الذي قد قال في قرآنه          وكفى بربك هادياً ونصيراً

‏{ولَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّه}، بل افزعوا إليه وانتظروا فرجه، فروح الله يستجلب بالتضرع إليه، وحسن الظن به، فهو اللطيف الكريم المنان، وقد كان نبيكم صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى صلاته ومولاه، وقد قيل: إذا سجدت فأطل السجود، فإن البلاء لا يستقر على ظهر ساجد.

‏{ولَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّه}، مهما طال زمن الوباء، فالله هو الذي يستجيب الدعاء، ويكشف السوء والضراء.

﴿أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾.

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة المؤمنون: حذار حذار من اليأس من روح الله، فإن ذلك كبيرة عظيمة، وصفة ذميمة، بل هي صفة الكافرين، كما قال سبحانه: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، فالكافر جاهل بالله، مكذب بصفاته، الكافر يعتقد أن الله لا يعلم، وأن الله لا يرحم، وأن الله لا يقدر على تفريج الكربات، الكافر يقف عند الأسباب، وينكر مسبب الأسباب، أما المؤمن فيعتقد أن الله إذا شاء تفريج كربة هيأ لها أسبابها، فهو يأخذ بالسبب، ويعتمد على الله في تيسيره.

ولرُبّ نازلة يَضيق بها الفتى            ذرْعا وعند الله منها المَخرَجُ

ضاقتْ فلما استحكمَتْ حلقاتها     فُرِجَتْ وكان يظنها لا تفرَجُ

نعم أيها الإخوة: سبب اليأس الجهل بالله تعالى، وعدم معرفة صفاته وكماله، وإلا كيف ييأس مؤمن، عارف بالله، عالم بواسع رحمته، وكرَم عطائه وإحسانه، وعظيم حِلمه ولطفه بعباده، كيف ييأس مؤمن يُحسن الظن بربه، وهو يقول كما في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي".

وقد يكون سبب اليأس الإفراط في الخوف، الخوف من المرض، أو الخوف من الموت، وقد ذكر بعض السلف علاجاً سهلاً لمن يخاف من الموت، حين قال: "كل شيء تكره الموت من أجله فاتركه، لا يضرك بعد ذلك متى تموت"، نعم قد يكون سبب اليأس التعلق الشديد بالدنيا، فهو يحزن على ما فاته منها، ويتأسف، كما قال الله تعالى: ﴿لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِن مَسَّهُ الشَّرّ فَيَئُوسٌ قنُوطٌ﴾.

وقد يكون سبب اليأس كثرة متابعة الأخبار السيئة والمحزنة، وكثرة مصاحبة اليائسين والاستماع إليهم، مما يبعث على الأسى والحزن، والخوف والوسوسة في كل شيء، ألم يقرأ هؤلاء قول ربهم: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾.

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد

المرفقات

ولا-تيأسوا-من-روح-الله

ولا-تيأسوا-من-روح-الله

المشاهدات 4727 | التعليقات 0