ولا تنسوا الفضل بينكم بقلم: محمد مهدي نذير قشلان
محمد مهدي بن نذير قشلان
1438/05/11 - 2017/02/08 23:33PM
الكتاب: ولا تنسوا الفضل بينكم - من سلسلة خطب الجمعة -
المؤلف: محمد مهدي نذير قشلان .
عناصر ومواضيع الخطبة:
• الاعترافَ بفضلِ الآخرين ومواقفهم الجميلة الكريمة لخلقٌ إسلاميٌّ نبيل عزيز.
• {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ختام مسك لقضية هي من أعقد القضايا الاجتماعية على الإطلاق ..قضية الطلاق
• المؤمن لا يحمل في قلبه غلاً ولا ضغناء ولا شحناء على مسلم.
• عَلَّمَنا دِينُنَا أن لا نَنْسى لأهلِ الفَضلِ فَضْلَهم، ولأهلِ المعروفِ مَعروفَهم، ولأهلِ السَّعي سَعيهم.
• مفاتيح القلوب في ثلاث.
• لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا أولُوا الفضل.
• علِّموا أولادكم بحالكم قبل قالكم الشكر للناس والاعتراف بالفضل لأهله.
• نكران الجميل وجحود الإحسان من صفات الفاسدين من المنافقين.
• قصة الثلاثة من بني اسرائيل -الأَبْرَص وَالأَقْرَع وَالأَعْمَى-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فهو المهتد، ومَن يُضلل فَلن تجدَ له وليَّاً مُرشداً...
وأشهد أن لا إله إلا الله: هو صاحب العزة القائمة، والمملكة الدائمة، يحب من عباده الشكور ويبغض منهم الكفور... اسمع إليه وهو يقول في الحديث القدسي الجليل: { أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ؛ لأطهِّرهم من المعايب..(1)}إلهي:
أنتَ الذي تهبُ الكثيرَ ... وتجبرُ القلبَ الكسيرَ وتغفرُ الزلات
وتقولُ هل من تائبٍ مستغفرٍ ..... أو سائل أقضي له الحاجات
اللهم اقض حوائجنا ومنك لا تقطع رجاءنا، اجبر كسرنا،وارحم ضعفنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا..
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله: كان خلقه الوفاء، بأبي وأمي هو صلوات الله عليه، اسمع إليه وهو يقول في حق أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- وفاء له، وقد قَدَّم لرسولِ اللهِ مالَه ومَدَّ يدَ العونِ له: ( مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ... مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ (2)) سيدي أبا القاسم يا رسول الله:
يا سيدَ الرسلِ الكرامِ ومن به * قد قام للدين الحنيف بناءُ
الحقُّ نورٌ أنت مظهرُ فجرهِ * والشركُ ليلٌ أنتَ فيه ضياء
والعدلُ أنت وضعتَ ثابتَ ركنه * فمضى على سنن لك الخلفاء
أما بعد فيا أحباب رسول الله: إنَّ الاعترافَ بفضلِ الآخرين ومواقفهم الجميلة الكريمة لخلقٌ إسلاميٌّ نبيل عزيز، كدنا نفقده في مجتمعاتنا المسلمة، كم أحزن -يا إخوتي- حزناً عميقاً بل إنني لأشعر بالأسى والأسف عندما أكون في مشكلة زوجية...كان الزوجان قبل النزاع يعيشان حياة كريمة..يأكلان من طعام واحد، وينامون على فراش واحد، يتقاسمون هموم الحياة بينهم، وما إن يقع الشقاق بينهما ويستولي الشيطان على منصة القلوب حتى يأخذ كل واحد من الزوجين طعناً ولعناً وافتراءً على الآخر..شيء عجيب! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ...
لماذا ذلك أيها الأحبة؟! اسمعوا بما ختم الله به آية الطلاق..لقد ختمها بقوله: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البَقَرَةِ: 237]أي: إن وقع الطلاق والفراق بينكم فإياكم أن تنسوا الفضل والودَّ والإِحسان الذي كان بينكم..، يا لَرَوعة هذه الآية! {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ختام مسك لقضية هي من أعقد القضايا الاجتماعية على الإطلاق؛ الطلاق والفراق، فإِذا كان الطلاق قد تمَّ لأسباب ضرورية قاهرة فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى، فلا بدَّ أن تبقى القلوب نقية خالصة صافية، فالمؤمن لا يحقد..، المؤمن لا يحمل في قلبه غلاً ولا ضغناء ولا شحناء على مسلم.
أيها الأحبة: لقد عَلَّمَنا دِينُنَا أن لا نَنْسى لأهلِ الفَضلِ فَضْلَهم، ولأهلِ
المعروفِ مَعروفَهم، ولأهلِ السَّعي سَعيهم، هكذا هيَ الأخلاقُ الإسلاميةُ المتكاملةُ الرَّاقيةُ..بذْلٌ وعطاءٌ مِنَ المحْسِن، ووفاءٌ وعِرفانٌ من المحْسَنِ إليه، وهكذا هيَ الحياةُ في تكافلِ أبنائِها، اسمع معي هذا الحديث النبوي الذي يغرس فينا قيماً كريمة وأخلاقاً سامية؛ يقول سيد الخلق وحبيب الحقِّ صلوات الله عليه: ( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ(3)) إذا لم تجد ما تكافؤ به من صنع معك معروفاً فلا أقل من أن تدعو له، وتشكره، هذا من حق المحسن على المحسَن إليه, أما بعض الناس اليوم فربما يأخذ منك عمرًا.. ولا يعوضك حتى بكلمة طيبة وردِّ جميل، قالت مرةً زوجةٌ لزوجها وكنت بينهما: "اشتهيت مرة أسمع منك كلمة شكر واعتراف بما أصنع لك ولأولادك" بينما إن أخطأت لم تفوت لي واحدة. إذا لم تستطع يا عبد الله أن تبذل كلمة فلا تبخل برسالة طيبة فإن فيها أثراً على النفوس والقلوب لا ينسى.
أيها الأحبة: قال لي مرةً أحد مشايخنا الكرام والله لا أنسى موقفاً حصل معي وأنا شاب صغير كان سبباً من أسباب تعلمي وحبي للعلم، دخلت على مجلس، وكان المجلس ممتلئاً فإذا بالشيخ الكبير ينادي علي أن تفضل يا بنيَّ.. فأوسع لي من مكانه وأجلسني. قال: والله كان سبباً في محبتي للعلم وأهله..نعم؛ ألم يقل النبيُّ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: {ثَلاَثٌ يُصْفِينَ لَكَ وُدَّ مِنْ أَخِيكَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَتُوسِعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ (4)} .
نعم إنها قيم كريمة يجب أن نربي أولادنا عليها، يا من تبحث عن مفاتيح قلوب العباد ومحبتهم لك...رسول الله يدلُّك..لا داعي أن تبحث عن كتاب"كيف يحبني الناس"لأنَّ رسول الله دلَّك على ثلاث مفاتيح: الأول: إذا لقيت أخاك فبادر أنت بالسلام عليه وأنت مبتسماً، المفتاح الثاني: نادي أخاك..نادي زوجتك..بأحب الأسماء إليهما.. الثالث: إذا دخل عليك أحد وأنت في مجلس فوسع له وادعُه لجوارك..، هذه الأشياء الثلاثة إذا فعلتها ملكت قلوب من صنعت إليهم ذلك..رضي الله عن الصديق أبي بكر فقد جاء علي كرم الله وجهه ذات يوم ودخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رضي الله عنه جالس عن يمين رسول الله..، فإذا بالصديق يتنحى عن مكانه ويُجلس عليَّاً بينه وبين النبي عليه السلام..، وإذا بالحبيب يتهلَّل وجه فرحاً وسروراً ويقول لأبي بكر: (لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا أولُوا الفضل(5)) وصايا غالية من واصايا النبوة.
أيها السادة الكرام: علِّموا أولادكم بحالكم قبل قالكم الشكر للناس والاعتراف بالفضل لأهله، فالاعتراف بالفضل من مكارم الأخلاق، بل هو من قمم مكارم الأخلاق، إذا جاءك والديك أو أحد أرحامك فقم لهم ووسع لهم وتبسم في وجههم..ففعلك هذا سيري لأولادك، فتكون أنت سبباً في برهم وحسن أخلاقهم، فالإسلام يرشدنا ويحثنا دائماً على الاعترافِ بالفضلِ وعدمِ نكرانِ الجميل؛ لأن نكرانَ الجميل وجحود الإحسان من صفات الفاسدين من المنافقين، وهو دليل واضح على ضعف الإيمان وسوء الأخلاق ولؤم الطباع، وهو من أسباب زوال النعمة بعد حصولها، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ(6) )
أيها الأحبة: إنَّ من الناس اليوم في مجتمعنا من لا يعرفون للشكر باباً إنما النكران له أوابا، فأول ما يعملون إذا مَنَّ الله عليهم بالمناصب والخيرات نسيان الماضي، ونكران من أسدى إليهم معروفاً سابقاً، يوم أن كانوا فقراء ويوم أن كانوا في حاجة ماسة، فبمجرد أن وضعوا أيديهم على ما يريدون انقلبوا على من أحسن إليهم ومدَّ يد العون لهم..، اسمعوا هذه القصة والحادثة التي يقصُّها لنا الحبيبُ صلوات الله عليه، ويرويها لنا ببلاغته وبأسلوبه البارع العبقري...
أخرج الإمام البخاري ومسلم –رحمهما الله تعالى- عَنْ أبي هُريْرَةَ رضي اللَّه عنه أَنَّهُ سمِع النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: ( إِنَّ ثَلاَثَةً مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ: -أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى- أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا:
- فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنّي الَّذِى قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ.. فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِىَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا.
ثم قَالَ الملك للأبرص: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الإِبِلُ. فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ -أي حاملاً-، ثم قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
- ثم أَتَى الملكُ الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا الَّذِى قَذِرَنِى النَّاسُ. فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِىَ شَعَرًا حَسَنًا. ثم قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الْبَقَرُ. فَأُعْطِىَ بَقَرَةً حَامِلاً، ثم قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
- ثم أَتَى الملك الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِي.. فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ. فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. ثم قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِىَ شَاةً وَالِدًا.
وبارك الله لهم فيما أعطاهم..فكان لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَر،ِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.
وجاءت لحظة الاختبار الحقيقية...., فقد تعترف بالفضل وأنت
ضعيف، قد تعترف بالفضل وأنت فقير، أما حينما تكون قوياً غنياً فهنا الامتحان حيث يكرم فيه المرء أو يهان..، وإنَّ امتحان النعمة أعظم من امتحان الفقر والقلة..؛ لذا جاء في الأثر القدسي:عبدي "إِن لَم تَرضَ بِمَا قَسَمتُهُ لَكَ فَوَعِزَّتِي وَجَلالِي لأُسَلِّطَنَّ عَلَيكَ الدُنيَا " دققوا لأسلِّطنَّ عليك الدنيا..لا لأضيق عليك الدنيا إنما لأسلطها عليك! وربما كان القياس أن يقول: "إن لم ترض بما قسمته لك لأفقرنك" لا.. فامتحان النعمة أعظم من امتحان الفقر..، جاءت لحظة الاختبار بعد أن دار الزمان دورته، ومشت عجلة الزمان سريعاً، وقد طوت وراءها لحظات هؤلاء الأليمة، والزمان كفيل بإظهار خبايا وخفايا القلوب والنفوس وما انجبلت عليه.
- يأتي الملَك بعد ذلك إلى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: أنا رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِى فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيرًا،
أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، قال الأَبْرَصَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ.
قَالَ لَهُ " الملَك": كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟! فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. قَالَ الملَك: إِنْ
كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
- ثم أَتَى "الملَك" الأَقْرَعَ فِى صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ للأَبْرَصَ.
رَدَّ عَلَيْهِ "الأَقْرَعَ" مِثْلَ مَا رَدَّ عليه "الأبرص". فَقَالَ له الملَك: أَلَمْ تَكُنْ أَقْرَعَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟!
فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. فَقَالَ له الملَك: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
-ثم أَتَى "الملَك" الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: أنا رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ ليَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِى رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي.
فقَالَ "الأعمى": قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَ اللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ.-أي: لَا أَشُقّ عَلَيْك بِرَدِّ شَيْء تَأْخُذهُ أَوْ تَطْلُبهُ مِنْ مَالِي-
قال الملَك:أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِي عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ(7))) قال الإمام النووي(8): وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَا يَطْلُبُونَ مِمَّا يُمْكِن، وَالْحَذَر مِنْ كَسْر قُلُوبهمْ وَاحْتِقَارهمْ. وَفِيهِ التَّحَدُّث بِنِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَمّ جَحْدهَا
ونسيانها.
قال التابعي الجليل سَعيد بن جُبَير-رحمه الله- التلميذ النجيب لسيدنا عبد الله ابن عباس-رضي الله عنهما.عند تفسير قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}[القَلَمِ: 17]
قال: كان أصحابها من قرية يقال لها: "ضَرَوان" على ستة أميال من صنعاء، وَكَانَ أَبُوهُمْ قَدْ خَلَّفَ لَهُم هَذِهِ الْجَنَّةَ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وقد كان أبوهم يسيرُ فيها سِيرةً حسنة، فكان ما يُستغلُّ منها يُردُّ فيها ما تحتاج إليه ويدخر لعياله قوتَ سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات وورثه بنوه فقالوا: لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك.. عُوقبوا بنقيضِ قصدهم..فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأسَ المال، والربح، والصدقة، فلم يبق لهم شيء..وقد عقب الله على عذابهم وعقوبتهم في الدنيا بقوله: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أَيْ هَكَذَا عَذَابُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ حَقَّ المسكين والفقير وَذَوِي الْحَاجَاتِ، وَبَدَّلَ نِعْمَةَ اللِه كُفْرًا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(9).
وانظروا-معاشر الأحبة- إلى وفاء رسول الله واعترافه بالجميل لزوجته... فأيُّ عيب إذا اعترف المرء بجميل من أحسن إليه ولو كان المحسن امرأة.! فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا..، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ-تغمز عن كبرها وسقوط أسنانها-قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: -معترفاً بفضلِ خديجة ومنزلتِها ومكانتِها- مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ..(10))
وهكذا يكون الاعتراف بالفضل لأهله وإلا فلا، ولو أن كلَّ إنسانٍ اعترف بالفضل لأهله وقام بواجبه خير قيام إلى من أحسن إليه؛ لاستقامت العلاقات في المجتمع، ولو قام الزوج وأغدق على زوجته كلماتِ التقدير والعطفِ والحنان والحب؛ لَجَنَى من وراء ذلك خيراً كثيراً له ولزوجه وأولاده، ومن المؤسفِ أن كثيراً من الأزواجَ لا يعرفون لغة مع أهلهم إلا لغة السباب والشتام والكلمات البذيئة والشدة التي تجعل البيت مضطرباً، والحياة الزوجية جحيماً وسعيراً، فأين هؤلاء من سلوك رسول الله وهم يدَّعون محبته والانتماء إليه! إنه درس في الوفاء لا يُنسى!؟
ولقد اِسْتَقْرَضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ َحِينَ غَزَا حُنَيْنًا ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَضَاهَا إِيَّاهُ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ له معترفاً بجميله: "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ(11)" لقد دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم له بالبركة في الأهل والمال..، هي كلماتٌ قليلة لكنها عظيمة في نفس المحسن وفاعل الخير..، فكلمات الوفاء والشكر ترسخ رسوخاً عميقاً في ذاكرة من قيلت له.
ألم تسمعوا عن الصحابي الجليل: كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، يذكر قصته حين كبر سنه، وكف بصره، فيذكر أحداث تخلفهم،وقصة توبة الله عليهم،فلا يُغْفِل ذكر معروف أُسدي إليه، قد رسخ في ذاكرته، فلا يزال يترواه ويتملاه، ويصرح بأنه لا ينساه، فيا ترى ما هذا المعروف الذي فُعل بكعب-رضي الله عنه- هل هو إنقاذ من هلاك، أو هو إطعام في يوم ذي مسغبة، أو هو قضاء حاجة مستعصية ؟! كلا لم يكن شيئاً من ذلك
كله!
لقد حكى هذا المعروف كعبٌ نفسُه، فذكر أن الناس جاءوا يبشرونه وصاحبيه بتوبة الله عليهم، فانطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ والناس يلقونه فوجاً فوجاً يهنئونه بالتوبة، حتى دخل المسجد. قال كعب: (فإذا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، وإني والله لا أنساها لطلحة(12))) انظروا مجرد مبادرة يسيرة لم تكلف طلحة شيء..مصافحة وتهنأة..! لكنها نزلت على قلب كعب نزول قطرات الندى على الزهرة الظمأ..لقد فعلت في قلب كعب ما فعلت.!
وهكذا يا عبد الله: فمن لم يشكر الناس، لم يشكر الله، والكلمة الطيبة صدقة، فلا تبخل برد جميل، وتهنئة تبذلها لأخيك، جراء أمر ناله. إياك أن تنسى من أحسن إليك؛ في وقت كنت فيه بأمس الحاجة إليه.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تخريج الخطبة: (وَلاَ تَنسَوُا الفَضلَ بَينَكُم)
(1) مجموع الفتاوى 10/86 . قال: ولقد قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ،وفي بعض النسخ: جاء في بعض الآثار.
(2) الجامع الصحيح سنن الترمذي برقم: (3661) قال أبو عيسى: حديث حسن. الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر-الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م. تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون.
(3) سنن أبي داود 2/128 .برقم (1672) وهو حديث صحيح مشهور. تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد . الناشر: المكتبة العصرية، صيدا – بيروت-
(4) شعب الإيمان للبيهقي 11/196.برقم:( 8397)
(5) روح البيان 6/133 للعلامة إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي أبو الفداء (المتوفى: 1127هـ) الناشر: دار الفكر – بيروت-
(6) مسند الإمام أحمد بن حنبل 30/392. برقم (18450) المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد ، وآخرون.
(7) صحيح البخاري 3/1276.برقم (3277). صحيح مسلم 4/2275. برقم (2964).
(8) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 18/100.
(9) تفسير القرآن العظيم (ابن كثير) 8/215
(10) مسند الإمام أحمد بن حنبل 41/356. برقم (24864) وهو حديث صحيح كما قال الشيخ شعيب –رحمه الله-
(11) سنن ابن ماجه 2/809 .برقم (2424).
(12) الأدب المفرد – البخاري ص:325 .برقم (944)
(13) ألقيت هذه الخطبة في بعض مسجد عمان ..
المؤلف: محمد مهدي نذير قشلان .
عناصر ومواضيع الخطبة:
• الاعترافَ بفضلِ الآخرين ومواقفهم الجميلة الكريمة لخلقٌ إسلاميٌّ نبيل عزيز.
• {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ختام مسك لقضية هي من أعقد القضايا الاجتماعية على الإطلاق ..قضية الطلاق
• المؤمن لا يحمل في قلبه غلاً ولا ضغناء ولا شحناء على مسلم.
• عَلَّمَنا دِينُنَا أن لا نَنْسى لأهلِ الفَضلِ فَضْلَهم، ولأهلِ المعروفِ مَعروفَهم، ولأهلِ السَّعي سَعيهم.
• مفاتيح القلوب في ثلاث.
• لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا أولُوا الفضل.
• علِّموا أولادكم بحالكم قبل قالكم الشكر للناس والاعتراف بالفضل لأهله.
• نكران الجميل وجحود الإحسان من صفات الفاسدين من المنافقين.
• قصة الثلاثة من بني اسرائيل -الأَبْرَص وَالأَقْرَع وَالأَعْمَى-
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إنَّ الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده اللهُ فهو المهتد، ومَن يُضلل فَلن تجدَ له وليَّاً مُرشداً...
وأشهد أن لا إله إلا الله: هو صاحب العزة القائمة، والمملكة الدائمة، يحب من عباده الشكور ويبغض منهم الكفور... اسمع إليه وهو يقول في الحديث القدسي الجليل: { أَهْلُ ذِكْرِي أَهْلُ مُجَالَسَتِي، وَأَهْلُ شُكْرِي أَهْلُ زِيَادَتِي، وَأَهْلُ طَاعَتِي أَهْلُ كَرَامَتِي، وَأَهْلُ مَعْصِيَتِي لَا أُؤَيِّسُهُمْ مِنْ رَحْمَتِي، إنْ تَابُوا فَأَنَا حَبِيبُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَتُوبُوا فَأَنَا طَبِيبُهُمْ، أَبْتَلِيهِمْ بِالْمَصَائِبِ؛ لأطهِّرهم من المعايب..(1)}إلهي:
أنتَ الذي تهبُ الكثيرَ ... وتجبرُ القلبَ الكسيرَ وتغفرُ الزلات
وتقولُ هل من تائبٍ مستغفرٍ ..... أو سائل أقضي له الحاجات
اللهم اقض حوائجنا ومنك لا تقطع رجاءنا، اجبر كسرنا،وارحم ضعفنا، واغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وفرج كروبنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا..
وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً رسول الله: كان خلقه الوفاء، بأبي وأمي هو صلوات الله عليه، اسمع إليه وهو يقول في حق أبي بكر الصديق-رضي الله عنه- وفاء له، وقد قَدَّم لرسولِ اللهِ مالَه ومَدَّ يدَ العونِ له: ( مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ... مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ (2)) سيدي أبا القاسم يا رسول الله:
يا سيدَ الرسلِ الكرامِ ومن به * قد قام للدين الحنيف بناءُ
الحقُّ نورٌ أنت مظهرُ فجرهِ * والشركُ ليلٌ أنتَ فيه ضياء
والعدلُ أنت وضعتَ ثابتَ ركنه * فمضى على سنن لك الخلفاء
أما بعد فيا أحباب رسول الله: إنَّ الاعترافَ بفضلِ الآخرين ومواقفهم الجميلة الكريمة لخلقٌ إسلاميٌّ نبيل عزيز، كدنا نفقده في مجتمعاتنا المسلمة، كم أحزن -يا إخوتي- حزناً عميقاً بل إنني لأشعر بالأسى والأسف عندما أكون في مشكلة زوجية...كان الزوجان قبل النزاع يعيشان حياة كريمة..يأكلان من طعام واحد، وينامون على فراش واحد، يتقاسمون هموم الحياة بينهم، وما إن يقع الشقاق بينهما ويستولي الشيطان على منصة القلوب حتى يأخذ كل واحد من الزوجين طعناً ولعناً وافتراءً على الآخر..شيء عجيب! إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ...
لماذا ذلك أيها الأحبة؟! اسمعوا بما ختم الله به آية الطلاق..لقد ختمها بقوله: {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البَقَرَةِ: 237]أي: إن وقع الطلاق والفراق بينكم فإياكم أن تنسوا الفضل والودَّ والإِحسان الذي كان بينكم..، يا لَرَوعة هذه الآية! {وَلاَ تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} ختام مسك لقضية هي من أعقد القضايا الاجتماعية على الإطلاق؛ الطلاق والفراق، فإِذا كان الطلاق قد تمَّ لأسباب ضرورية قاهرة فلا ينبغي أن يكون هذا قاطعاً لروابط المصاهرة ووشائج القربى، فلا بدَّ أن تبقى القلوب نقية خالصة صافية، فالمؤمن لا يحقد..، المؤمن لا يحمل في قلبه غلاً ولا ضغناء ولا شحناء على مسلم.
أيها الأحبة: لقد عَلَّمَنا دِينُنَا أن لا نَنْسى لأهلِ الفَضلِ فَضْلَهم، ولأهلِ
المعروفِ مَعروفَهم، ولأهلِ السَّعي سَعيهم، هكذا هيَ الأخلاقُ الإسلاميةُ المتكاملةُ الرَّاقيةُ..بذْلٌ وعطاءٌ مِنَ المحْسِن، ووفاءٌ وعِرفانٌ من المحْسَنِ إليه، وهكذا هيَ الحياةُ في تكافلِ أبنائِها، اسمع معي هذا الحديث النبوي الذي يغرس فينا قيماً كريمة وأخلاقاً سامية؛ يقول سيد الخلق وحبيب الحقِّ صلوات الله عليه: ( مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ(3)) إذا لم تجد ما تكافؤ به من صنع معك معروفاً فلا أقل من أن تدعو له، وتشكره، هذا من حق المحسن على المحسَن إليه, أما بعض الناس اليوم فربما يأخذ منك عمرًا.. ولا يعوضك حتى بكلمة طيبة وردِّ جميل، قالت مرةً زوجةٌ لزوجها وكنت بينهما: "اشتهيت مرة أسمع منك كلمة شكر واعتراف بما أصنع لك ولأولادك" بينما إن أخطأت لم تفوت لي واحدة. إذا لم تستطع يا عبد الله أن تبذل كلمة فلا تبخل برسالة طيبة فإن فيها أثراً على النفوس والقلوب لا ينسى.
أيها الأحبة: قال لي مرةً أحد مشايخنا الكرام والله لا أنسى موقفاً حصل معي وأنا شاب صغير كان سبباً من أسباب تعلمي وحبي للعلم، دخلت على مجلس، وكان المجلس ممتلئاً فإذا بالشيخ الكبير ينادي علي أن تفضل يا بنيَّ.. فأوسع لي من مكانه وأجلسني. قال: والله كان سبباً في محبتي للعلم وأهله..نعم؛ ألم يقل النبيُّ صَلى الله عَلَيه وَسَلم: {ثَلاَثٌ يُصْفِينَ لَكَ وُدَّ مِنْ أَخِيكَ: تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ، وَتُوسِعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ، وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ (4)} .
نعم إنها قيم كريمة يجب أن نربي أولادنا عليها، يا من تبحث عن مفاتيح قلوب العباد ومحبتهم لك...رسول الله يدلُّك..لا داعي أن تبحث عن كتاب"كيف يحبني الناس"لأنَّ رسول الله دلَّك على ثلاث مفاتيح: الأول: إذا لقيت أخاك فبادر أنت بالسلام عليه وأنت مبتسماً، المفتاح الثاني: نادي أخاك..نادي زوجتك..بأحب الأسماء إليهما.. الثالث: إذا دخل عليك أحد وأنت في مجلس فوسع له وادعُه لجوارك..، هذه الأشياء الثلاثة إذا فعلتها ملكت قلوب من صنعت إليهم ذلك..رضي الله عن الصديق أبي بكر فقد جاء علي كرم الله وجهه ذات يوم ودخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر رضي الله عنه جالس عن يمين رسول الله..، فإذا بالصديق يتنحى عن مكانه ويُجلس عليَّاً بينه وبين النبي عليه السلام..، وإذا بالحبيب يتهلَّل وجه فرحاً وسروراً ويقول لأبي بكر: (لا يعرفُ الفضلَ لأهلِ الفضلِ إلا أولُوا الفضل(5)) وصايا غالية من واصايا النبوة.
أيها السادة الكرام: علِّموا أولادكم بحالكم قبل قالكم الشكر للناس والاعتراف بالفضل لأهله، فالاعتراف بالفضل من مكارم الأخلاق، بل هو من قمم مكارم الأخلاق، إذا جاءك والديك أو أحد أرحامك فقم لهم ووسع لهم وتبسم في وجههم..ففعلك هذا سيري لأولادك، فتكون أنت سبباً في برهم وحسن أخلاقهم، فالإسلام يرشدنا ويحثنا دائماً على الاعترافِ بالفضلِ وعدمِ نكرانِ الجميل؛ لأن نكرانَ الجميل وجحود الإحسان من صفات الفاسدين من المنافقين، وهو دليل واضح على ضعف الإيمان وسوء الأخلاق ولؤم الطباع، وهو من أسباب زوال النعمة بعد حصولها، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهَا كُفْرٌ(6) )
أيها الأحبة: إنَّ من الناس اليوم في مجتمعنا من لا يعرفون للشكر باباً إنما النكران له أوابا، فأول ما يعملون إذا مَنَّ الله عليهم بالمناصب والخيرات نسيان الماضي، ونكران من أسدى إليهم معروفاً سابقاً، يوم أن كانوا فقراء ويوم أن كانوا في حاجة ماسة، فبمجرد أن وضعوا أيديهم على ما يريدون انقلبوا على من أحسن إليهم ومدَّ يد العون لهم..، اسمعوا هذه القصة والحادثة التي يقصُّها لنا الحبيبُ صلوات الله عليه، ويرويها لنا ببلاغته وبأسلوبه البارع العبقري...
أخرج الإمام البخاري ومسلم –رحمهما الله تعالى- عَنْ أبي هُريْرَةَ رضي اللَّه عنه أَنَّهُ سمِع النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ: ( إِنَّ ثَلاَثَةً مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ: -أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى- أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا:
- فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنّي الَّذِى قَدْ قَذِرَنِى النَّاسُ.. فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ قَذَرُهُ وَأُعْطِىَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا.
ثم قَالَ الملك للأبرص: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الإِبِلُ. فَأُعْطِىَ نَاقَةً عُشَرَاءَ -أي حاملاً-، ثم قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
- ثم أَتَى الملكُ الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ عَنِّى هَذَا الَّذِى قَذِرَنِى النَّاسُ. فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ وَأُعْطِىَ شَعَرًا حَسَنًا. ثم قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ الْبَقَرُ. فَأُعْطِىَ بَقَرَةً حَامِلاً، ثم قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهَا.
- ثم أَتَى الملك الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ أَنْ يَرُدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِي.. فَأُبْصِرَ بِهِ النَّاسَ. فَمَسَحَهُ فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. ثم قَالَ: فَأَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأُعْطِىَ شَاةً وَالِدًا.
وبارك الله لهم فيما أعطاهم..فكان لِهَذَا وَادٍ مِنَ الإِبِلِ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْبَقَر،ِ وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ.
وجاءت لحظة الاختبار الحقيقية...., فقد تعترف بالفضل وأنت
ضعيف، قد تعترف بالفضل وأنت فقير، أما حينما تكون قوياً غنياً فهنا الامتحان حيث يكرم فيه المرء أو يهان..، وإنَّ امتحان النعمة أعظم من امتحان الفقر والقلة..؛ لذا جاء في الأثر القدسي:عبدي "إِن لَم تَرضَ بِمَا قَسَمتُهُ لَكَ فَوَعِزَّتِي وَجَلالِي لأُسَلِّطَنَّ عَلَيكَ الدُنيَا " دققوا لأسلِّطنَّ عليك الدنيا..لا لأضيق عليك الدنيا إنما لأسلطها عليك! وربما كان القياس أن يقول: "إن لم ترض بما قسمته لك لأفقرنك" لا.. فامتحان النعمة أعظم من امتحان الفقر..، جاءت لحظة الاختبار بعد أن دار الزمان دورته، ومشت عجلة الزمان سريعاً، وقد طوت وراءها لحظات هؤلاء الأليمة، والزمان كفيل بإظهار خبايا وخفايا القلوب والنفوس وما انجبلت عليه.
- يأتي الملَك بعد ذلك إلى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: أنا رَجُلٌ مِسْكِينٌ قَدِ انْقَطَعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِى فَلَا بَلَاغَ لِي الْيَوْمَ إِلَّا بِاللهِ، ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ، وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ، وَالْمَالَ بَعِيرًا،
أَتَبَلَّغُ عَلَيْهِ فِي سَفَرِي، قال الأَبْرَصَ: الْحُقُوقُ كَثِيرَةٌ.
قَالَ لَهُ " الملَك": كَأَنِّي أَعْرِفُكَ أَلَمْ تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟! فَقَالَ: إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. قَالَ الملَك: إِنْ
كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
- ثم أَتَى "الملَك" الأَقْرَعَ فِى صُورَتِهِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ للأَبْرَصَ.
رَدَّ عَلَيْهِ "الأَقْرَعَ" مِثْلَ مَا رَدَّ عليه "الأبرص". فَقَالَ له الملَك: أَلَمْ تَكُنْ أَقْرَعَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا، فَأَعْطَاكَ اللَّهُ؟!
فَقَالَ إِنَّمَا وَرِثْتُ هَذَا الْمَالَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ. فَقَالَ له الملَك: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ.
-ثم أَتَى "الملَك" الأَعْمَى فِى صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ: أنا رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ انْقَطَعَتْ بِىَ الْحِبَالُ فِى سَفَرِي، فَلاَ بَلاَغَ ليَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِى رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ شَاةً أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي.
فقَالَ "الأعمى": قَدْ كُنْتُ أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، وَدَعْ مَا شِئْتَ، فَوَ اللَّهِ لاَ أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ شَيْئًا أَخَذْتَهُ لِلَّهِ.-أي: لَا أَشُقّ عَلَيْك بِرَدِّ شَيْء تَأْخُذهُ أَوْ تَطْلُبهُ مِنْ مَالِي-
قال الملَك:أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ، فَقَدْ رُضِي عَنْكَ، وَسُخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ(7))) قال الإمام النووي(8): وَفِي هَذَا الْحَدِيث الْحَثّ عَلَى الرِّفْق بِالضُّعَفَاءِ وَإِكْرَامهمْ وَتَبْلِيغهمْ مَا يَطْلُبُونَ مِمَّا يُمْكِن، وَالْحَذَر مِنْ كَسْر قُلُوبهمْ وَاحْتِقَارهمْ. وَفِيهِ التَّحَدُّث بِنِعْمَةِ اللَّه تَعَالَى، وَذَمّ جَحْدهَا
ونسيانها.
قال التابعي الجليل سَعيد بن جُبَير-رحمه الله- التلميذ النجيب لسيدنا عبد الله ابن عباس-رضي الله عنهما.عند تفسير قوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}[القَلَمِ: 17]
قال: كان أصحابها من قرية يقال لها: "ضَرَوان" على ستة أميال من صنعاء، وَكَانَ أَبُوهُمْ قَدْ خَلَّفَ لَهُم هَذِهِ الْجَنَّةَ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وقد كان أبوهم يسيرُ فيها سِيرةً حسنة، فكان ما يُستغلُّ منها يُردُّ فيها ما تحتاج إليه ويدخر لعياله قوتَ سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات وورثه بنوه فقالوا: لقد كان أبونا أحمق إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء، ولو أنَّا منعناهم لتوفر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك.. عُوقبوا بنقيضِ قصدهم..فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأسَ المال، والربح، والصدقة، فلم يبق لهم شيء..وقد عقب الله على عذابهم وعقوبتهم في الدنيا بقوله: (كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أَيْ هَكَذَا عَذَابُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَبَخِلَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَأَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَمَنَعَ حَقَّ المسكين والفقير وَذَوِي الْحَاجَاتِ، وَبَدَّلَ نِعْمَةَ اللِه كُفْرًا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ(9).
وانظروا-معاشر الأحبة- إلى وفاء رسول الله واعترافه بالجميل لزوجته... فأيُّ عيب إذا اعترف المرء بجميل من أحسن إليه ولو كان المحسن امرأة.! فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ، قَالَتْ: فَغِرْتُ يَوْمًا..، فَقُلْتُ: مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ-تغمز عن كبرها وسقوط أسنانها-قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا، فقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: -معترفاً بفضلِ خديجة ومنزلتِها ومكانتِها- مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ..(10))
وهكذا يكون الاعتراف بالفضل لأهله وإلا فلا، ولو أن كلَّ إنسانٍ اعترف بالفضل لأهله وقام بواجبه خير قيام إلى من أحسن إليه؛ لاستقامت العلاقات في المجتمع، ولو قام الزوج وأغدق على زوجته كلماتِ التقدير والعطفِ والحنان والحب؛ لَجَنَى من وراء ذلك خيراً كثيراً له ولزوجه وأولاده، ومن المؤسفِ أن كثيراً من الأزواجَ لا يعرفون لغة مع أهلهم إلا لغة السباب والشتام والكلمات البذيئة والشدة التي تجعل البيت مضطرباً، والحياة الزوجية جحيماً وسعيراً، فأين هؤلاء من سلوك رسول الله وهم يدَّعون محبته والانتماء إليه! إنه درس في الوفاء لا يُنسى!؟
ولقد اِسْتَقْرَضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم من عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ َحِينَ غَزَا حُنَيْنًا ثَلاَثِينَ أَوْ أَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَضَاهَا إِيَّاهُ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ له معترفاً بجميله: "بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، إِنَّمَا جَزَاءُ السَّلَفِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ(11)" لقد دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم له بالبركة في الأهل والمال..، هي كلماتٌ قليلة لكنها عظيمة في نفس المحسن وفاعل الخير..، فكلمات الوفاء والشكر ترسخ رسوخاً عميقاً في ذاكرة من قيلت له.
ألم تسمعوا عن الصحابي الجليل: كعب بن مالك رضي الله عنه، وهو أحد الثلاثة الذين تخلفوا في غزوة تبوك، يذكر قصته حين كبر سنه، وكف بصره، فيذكر أحداث تخلفهم،وقصة توبة الله عليهم،فلا يُغْفِل ذكر معروف أُسدي إليه، قد رسخ في ذاكرته، فلا يزال يترواه ويتملاه، ويصرح بأنه لا ينساه، فيا ترى ما هذا المعروف الذي فُعل بكعب-رضي الله عنه- هل هو إنقاذ من هلاك، أو هو إطعام في يوم ذي مسغبة، أو هو قضاء حاجة مستعصية ؟! كلا لم يكن شيئاً من ذلك
كله!
لقد حكى هذا المعروف كعبٌ نفسُه، فذكر أن الناس جاءوا يبشرونه وصاحبيه بتوبة الله عليهم، فانطلق إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم ـ والناس يلقونه فوجاً فوجاً يهنئونه بالتوبة، حتى دخل المسجد. قال كعب: (فإذا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، وإني والله لا أنساها لطلحة(12))) انظروا مجرد مبادرة يسيرة لم تكلف طلحة شيء..مصافحة وتهنأة..! لكنها نزلت على قلب كعب نزول قطرات الندى على الزهرة الظمأ..لقد فعلت في قلب كعب ما فعلت.!
وهكذا يا عبد الله: فمن لم يشكر الناس، لم يشكر الله، والكلمة الطيبة صدقة، فلا تبخل برد جميل، وتهنئة تبذلها لأخيك، جراء أمر ناله. إياك أن تنسى من أحسن إليك؛ في وقت كنت فيه بأمس الحاجة إليه.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تخريج الخطبة: (وَلاَ تَنسَوُا الفَضلَ بَينَكُم)
(1) مجموع الفتاوى 10/86 . قال: ولقد قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ ،وفي بعض النسخ: جاء في بعض الآثار.
(2) الجامع الصحيح سنن الترمذي برقم: (3661) قال أبو عيسى: حديث حسن. الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي – مصر-الطبعة: الثانية، 1395 هـ - 1975 م. تحقيق : أحمد محمد شاكر وآخرون.
(3) سنن أبي داود 2/128 .برقم (1672) وهو حديث صحيح مشهور. تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد . الناشر: المكتبة العصرية، صيدا – بيروت-
(4) شعب الإيمان للبيهقي 11/196.برقم:( 8397)
(5) روح البيان 6/133 للعلامة إسماعيل حقي بن مصطفى الإستانبولي الحنفي أبو الفداء (المتوفى: 1127هـ) الناشر: دار الفكر – بيروت-
(6) مسند الإمام أحمد بن حنبل 30/392. برقم (18450) المحقق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد ، وآخرون.
(7) صحيح البخاري 3/1276.برقم (3277). صحيح مسلم 4/2275. برقم (2964).
(8) المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 18/100.
(9) تفسير القرآن العظيم (ابن كثير) 8/215
(10) مسند الإمام أحمد بن حنبل 41/356. برقم (24864) وهو حديث صحيح كما قال الشيخ شعيب –رحمه الله-
(11) سنن ابن ماجه 2/809 .برقم (2424).
(12) الأدب المفرد – البخاري ص:325 .برقم (944)
(13) ألقيت هذه الخطبة في بعض مسجد عمان ..
المرفقات
نبذة عن خطبة ولا تنسوا الفضل بينكم .docx
نبذة عن خطبة ولا تنسوا الفضل بينكم .docx
ولا تنسوا الفضل بينكم.docx
ولا تنسوا الفضل بينكم.docx
ولا تنسوا الفضل بينكم.pdf
ولا تنسوا الفضل بينكم.pdf
المشاهدات 1997 | التعليقات 2
مرحبا بالشيخ الفاضل محمد مهدي بن نذير قشلان وحياك ربي في هذا الملتقى العامر بأمثالكم .. كتب الله أكرك وسلمت يمينك بما خطت وكتبت ..
ويا حبذا لو تنشر الخطبة جميعها أيضا في الصفحة لتكون سهلة للاطلاع والمشاهدة؛ لأن بقاءها مرفقات فقط يصرف البعض ويصعب على البعض فتحها خصوصا للمستعجل أو لمن النت عنده ضعيف أو من لديه مشكلة في جهازه..
محمد مهدي بن نذير قشلان
أرجو تثبيت هذه الخطبة_جزاكم الله خيراً_ وهي مرفقة بثلاث ملفات
تعديل التعليق