{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} 23 / 6 /1445هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} 23/6/1445هـ
الحمد لله على فضله وإنعامه، وله الشكر على جزيل كرمه وامنتنانه، يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ، إنه بعباده خبير بصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رب غيره ولا إله سواه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته إلى يوم الدينِ أما بعد ..
فاتقو الله الذي ما من نعمة إلا منه سبحانه {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا}
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ)
لله تعالى في عباده أسرار، لا تدركها الأفكار، وأحكامُ لا تنالها الأوهام.
ولما ساءت بتثبط الغيث الظّنون، وأمسكت السماء دَرّها؛ واكتست الأرضُ غُبْرةً بعد خُضْرة، ولبست شحوبا بعد نَضْرة؛ وكادت برودُ الرياضِ تُطوى، ومُدودُ نعمِ اللهِ تُزوى؛ نشرَ اللهُ تعالى رحمتَه، وبسطَ نعمتَه، وأتاحَ منّتَه، وأزاحَ محنتَه. فبعث الرياح لواقح، وأرسل الغمام سوافح؛ بماء يتدفّق، ورِواءً غدق، من سماء طبق. استهلّ جفنُها فدمع، وسمح دمعُها فهمع، واصابَ وبلُها فنقع. فاستوفت الأرض رِيّا، واستكملت من نباتها أَثَاثًا وَرِئْيًا؛
فالغيمُ كالثوب في الآفاق منتشرٌ ** من فوقه طَبَقٌ من تحته طبــــقُ
تظنّه مصمـتاً لا فَتْــقَ فيه فـــإنْ ** سالت عزاليه قلتَ الثوبُ منفتقُ
إنْ مَعْمَعَ الرعدُ فيه قلتَ ينخرقُ ** أو لألأ البرقُ فيه قلتَ يحترقُ
فالرعــدُ مرتجــسٌ والبرقُ مُخْتلـــــسٌ ** والغيث منبجسٌ والسيلُ مندفقُ
سقى ديارَ الذي لو متُّ من ظمأ ** ما كنتُ بالريّ من أحواضه أّثِقُ
{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ}.
يرسل الله تعالى الرياح بشرا بين يدي رحمته فيسوق بها السحاب ، ويجعلها لقاحا للثمرات وروحا للعباد {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}
فالحمد لله على ذلك ما انسكب قطر، وانصدع فجر.. فربُنا كريمٌ معطاء ، عظيمٌ مفضال ، يجودٌ بالعطاءِ قبل السؤال، ويمن بالخيرِ على الإنسِ والجان . كلَ يومٍ هو في شأن ..
{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إلا في كتاب مبين}
ومن شكر الله على خيره وجوده كثرة ذكره وحمده، والاعتراف بجميل فضله وانعامه، فهو الحمود بكل حال. المعبود في الحال والمآل ..
فسبحانَ من تعنو الوجوه لوجهِهِ ** ومــن كــلِ ذي عـزٍ له يتذلــــــلُ
تكفـلَ فضـلاً لا وجوبـًا برزقــــــــــهِ ** على الخلقِ فهو الرازقُ المتكفلُ
ونعم الله تحفظ وتصان، وارضه يمشى في مناكبها ويستمتع بخيراتها من غير إفساد أو ايذاء {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}..
العبث بخراج الأرض وخيراتها ونباتها وأشجارها وطبيعتها ومحمياتها إفساد لها :{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}.
رمي النفايات وبقايا الأطعمة بطرق الناس واماكن تنزههم إفساد في الأرض. في صحيح مسلم: «اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ» قَالُوا: وَمَا اللَّعَّانَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ»
إيذاء الناس بأماكن ترويحهم وتنزههم ومضايقة محارمهم واسماعهم مايكرهون. إفساد في الارض..{وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}: قال قتادة: فإياكم وأذى المؤمن، فإن الله يحوطه، ويغضب له.
الانفلات عن شرع الله في البراري والمتنزهات بنزع الحجاب وانعدام الحياء عند ثلة من النساء والمجاهرة بالفسق تعد لحدود الله {وَمن يَتَعَدَّ حُدُود الله فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ}.
إصلاح الارض أن تعلن على ظهرها شعائر الله برفع الأذان وإقامة الصلاة بوقتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واعطاء كل ذي حق حقه .{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ}.
وكم نرى مايثلج الصدر ويفرح النفس، حينما نرى أثر التربية على الدين والمحافظة على شريعة رب العالمين ظاهرا على فئام من رجالنا ونساءنا، فما أن يحين وقت الصلاة إلا تسمع دوي الاذان يتردد فوق كثبان الرمال، او على حافة الاودية والشعاب."لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إلا شهد له يوم القيامة".
وكم يبهج الخاطر منظر العفيفات من المؤمنات، ممن لم يكسر التنزه حيائهن، ولم ينزع الانبساط والترويح حجابهن ..
يظهر أثر التربية عندما ينزل الانسان منزلا فيرفع صوته بهذا الذكر " أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ" فتسمعه اسرته فتقتدي به ، نتيجته "لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ، حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ "
تتأكد القدوة الحسنة عندما يرى أهل البيت والدهم واخوانهم الكبار يحافظون على الاماكن العامة والخاصة، وعدم التعدي عليها اثناء بقائهم وبعد ارتحالهم .. «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» متفق عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبو بكرة وأصيلا )
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم وللمسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إن ربنا لغفور شكور
الخطبة الثانية.. الحمدُ لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده المصطَفى، وعلى آله وصحبه ومَن اجتبى... أما بعد:
في صحيح مسلمٍ قال عليه الصلاة والسلام «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» وفي البخاري" مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لَأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ ".
وهذا الفضل شامل لمن يزيل كل ما يؤذي المسلمين بأجسادهم حسيا.. وكذا من يزيلُ الأشواكَ التي تجرحُ أخلاقَ المسلمين أو أعراضَهم أو دينَهم ، ولذا قرن رسول الله إزالة الشوك الحسي بغصن شجرة، بإزالة الشوك المعنوي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام:« خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِمِائَةِ مَفْصِلٍ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ، وَحَمِدَ اللهَ، وَهَلَّلَ اللهَ، وَسَبَّحَ اللهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ، فَإِنَّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ»
كم في أجهزتنا من نفاياتٍ وأشواك تدمي العين وتخل بالأخلاق ينبغي الحذر منها..
كم في طريق الأبناء من أشواك في العاب أجهزتهم، وعلاقات أصحابهم يجب إزالتها..
تكثرُ أغصانُ أشواكِ الأخلاقِ والأعراضِ التي تؤذي المسلمين في المتنزهات والكافيهات تتأكد ازالتُها .. وفي صحيح مسلم قَالَ أَبُو بَرْزَةَ رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ، قَالَ: «اعْزِلِ الْأَذَى، عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ».
حريُ بالمرأة التي تريد أن تتقلب في الجنة أن تزيل الأشواك التي تجرح القلب وتوقظ الفتنة من عبايتها ولباسها ..
هذا من تمام شكر الله على نعمه عافيته {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}.
اللهم زدنا من خيرك وبرك وأحسانك وجعلنا لنعمك شاكرين ولأواموامرك ونواهيك ممتثلين .. اللهم امنا في دورنا واصلح ولاة امورنا وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة .. اللهم انصر المرابطين على حدود بلادنا ..
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ..
المرفقات
1704283953_{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}.docx
1704284018_{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا}.pdf