وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون

من سنن الله تعالى في خلقه (6)
﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾
22/2/1437
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ خَالِقِ الْخَلْقِ، وَمَالِكِ المُلْكِ، وَمُدَبِّرِ الْأَمْرِ، لَهُ فِي الْأَنْفُسِ وَالْآفَاقِ بَرَاهِينُ وَآيَاتٌ، وَلَهُ فِي خَلْقِهِ سُنَنٌ وَعِبَرٌ وَعِظَاتٌ، وَلَهُ فِي عِبَادِهِ أَفْعَالٌ وَشُئُونٌ وَمُتَغَيِّرَاتٌ؛ فَيُؤْتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَنَدْعُوهُ فَإِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ؛ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ أَمْضَى قَضَاءَهُ فِي عِبَادِهِ، فَلَا خُرُوجَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِهِ، وَلَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْ قَدَرِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَخْلَى قَلْبَهُ مِنَ الْبَشَرِ مَهْمَا كَانَتْ قُوَّتُهُمْ، وَلَمْ يَرْهَبْ كَثْرَةَ جَمْعِهِمْ، وَعَلَّقَ قَلْبَهُ بِاللَّـهِ تَعَالَى رَغَبًا وَرَهَبًا، وَتَحَزَّبَتْ عَلَيْهِ أَحْزَابُ الشِّرْكِ وَالْيَهُودِ وَالنِّفَاقِ، فَمَا رَدُّوهُ عَنْ دَعْوَتِهِ، وَلَا أَلَانُوا شَكِيمَتَهُ، وَلَا أَوْهَنُوا عَزِيمَتَهُ، وَلَمْ يُضْعِفُوا فِي الْحَقِّ قُوَّتَهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَمْسِكُوا بِدِينِكُمْ وَلَوْ عَارَضَكُمْ فِيهِ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ؛ فَإِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الزُّخرف:43].
أَيُّهَا النَّاسُ: لِلَّـهِ تَعَالَى فِي خَلْقِهِ سُنَنٌ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ، بَلْ يَطَّرِدُ نِظَامُهَا، وَيَتَكَرَّرُ وُقُوعُهَا بِإِتْيَانِ أَسْبَابِهَا، فَنَتَائِجُهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتِهَا، وَوُقُوعُهَا مَشْرُوطٌ بِتَوَافُرِ أَسْبَابِهَا ﴿فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43].
وَمَعْرِفَةُ سُنَنِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ مِمَّا يَزِيدُ الْإِيمَانَ وَالْيَقِينَ كُلَّمَا تَجَدَّدَتْ سُنَّةٌ مِنْ تِلْكُمُ السُّنَنِ، كَمَا أَنَّهُ يُفِيدُ الْأَفْرَادَ وَالْأُمَّةَ جَمْعَاءَ فِي إِتْيَانِ أَسْبَابِ الْفَلَاحِ؛ لِتَقَعَ فِيهِمْ سُنَنُ التَّغْيِيرِ إِلَى الْأَحْسَنِ، وَاجْتِنَابِ أَسْبَابِ الْخُسْرَانِ؛ لِئَلَّا تُسْلَبَ نِعَمُهُمْ، أَوْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ.
وَمِنْ سُنَنِ اللَّـهِ تَعَالَى الْعَجِيبَةِ فِي عِبَادِهِ مَا ذَكَرَهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129].
وَلِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ فِي الظَّالِمينَ جَانِبَانِ:
فَالجَانِبُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الظَّلَمَةَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَوِ اخْتَلَفَتْ أَدْيَانُهُمْ وَمَنَاهِجُهُمْ وَمَذَاهِبُهُمْ وَثَقَافَاتُهُمْ وَاتِّجَاهَاتُهُمْ، فَيَجْمَعُهُمُ الظُّلْمُ وَلَوْ تَفَرَّقُوا، وَيُوَحِّدُهُمْ قَصْدُهُمْ لِلْمَظْلُومِ بِالظُّلْمِ وَلَوْ تَبَايَنَتْ غَايَاتُهُمْ مِنْ ظُلْمِهِ.
وَلمَّا كَانَ الشِّرْكُ أَعْظَمَ الظُّلْمِ كَانَ الْكُفْرُ مِلَّةً وَاحِدَةً، وَكَانَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَكَانَ المُنَافِقُونَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ بُغْضَهُمْ لِلْإِيمَانِ يَجْمَعُهُمْ وَلَوْ تَفَرَّقُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ؛ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَعْبُدُ الْحَجَرَ، وَبَعْضُهُمْ يَعْبُدُ الْبَشَرَ، وَلَوْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُ هَوَاهُ وَشَهْوَتَهُ كَالمَلَاحِدَةِ وَالْعَلْمَانِيِّينَ، أَوْ مَنْ يَعْبُدُ المَادَّةَ كَالشِّيُوعِيِّينَ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى ظُلْمِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَلَوْ فَرَّقَتْهُمْ أَدْيَانُهُمْ وَأَفْكَارُهُمْ.
إِنَّ هَدَفَهُمْ مَحْوُ الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ مِنَ الْوُجُودِ، ثُمَّ يَخْتَلِفُونَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيمَا يَخْلُفُ الْإِيمَانَ بَعْدَ مَحْوِهِ، أَوْ يَخْتَلِفُونَ فِي اقْتِسَامِ تَرِكَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَبُلْدَانِهِمْ، فَهُمْ أَوْلِيَاءُ فِي الْهَدَفِ وَالْقَصْدِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا بَعْدَ تَحْقِيقِ غَايَتِهِمْ فِي بَلَدٍ مِنَ الْبُلْدَانِ، أَوْ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ [الأنفال: 73]، وَقَالَ تَعَالَى فِي كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: 51]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ فِي المُنَافِقِينَ: ﴿المُنَافِقُونَ وَالمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [التوبة: 67]، أَيْ: كَأَنَّهُمْ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَفِيهِ نَفْيُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ المُؤْمِنِينَ، وَتَكْذِيبُهُمْ فِي حَلِفِهِمْ أَنَّهُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ﴿وَيَحْلِفُونَ بِاللَّـهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ وَتَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ [التوبة: 56]، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ النِّفَاقَ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَنَّ أَصْحَابَهُ أَوْلِيَاءُ، سَوَاءً كَانَ نِفَاقًا سَلُولِيًّا شَهْوَانِيًّا، أَمْ كَانَ نِفَاقًا سَبَئِيًّا بَاطِنِيًّا؛ لِأَنَّ غَايَةَ النِّفَاقَيْنِ هَدْمُ الْإِسْلَامِ الصَّحِيحِ مِنْ دَاخِلِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا غَرَابَةَ أَنْ يُوَالِيَ الْعَلْمَانِيُّ وَاللِّيبْرَالِيُّ الصَّفَوِيَّ الْبَاطِنِيَّ.
وَالْجَامِعُ الَّذِي يَجْمَعُ هَذِهِ المَذَاهِبَ وَالمِلَلَ وَالْأَهْوَاءَ الضَّالَّةَ عَنِ الْحَقِّ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ بِسَبَبِ تَقْصِيرِهِمْ فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ، أَوْ بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنْ قَبُولِهِ، أَوْ بِسَبَبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ.
وَمِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ وَكُنُوزِهِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَصَفَ فِيهِ أَصْحَابَ كُلِّ المَذَاهِبِ الْبَاطِلَةِ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ: أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَجَعَلَ فِي مُقَابِلِهِمْ مَنْ يَعْلَمُونَ شَرِيعَةَ اللَّـهِ تَعَالَى، فَأَمَرَهُمْ بِالِاسْتِمْسَاكِ بِهَا، فَلَا يَغْتَرُّونَ بِكَثْرَةِ الضَّالِّينَ عَنْهَا، وَلَا يُخْدَعُونَ بِتَنَوُّعِ مَذَاهِبِهِمْ، وَاخْتِلَافِ مَنَاهِجِهِمْ، فَكُلُّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لمَّا ذَكَرَ الْأَدْيَانَ المُخْتَلِفَةَ، وَالمَذَاهِبَ المُتَبَايِنَةَ، وَالمَنَاهِجَ المُتَعَدِّدَةَ، وَوَصَفَ أَصْحَابَهَا بِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ؛ ذَكَرَ سُنَّتَهُ المَاضِيَةَ فِي الظَّالِمينَ بِتَوْلِيَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، فَاسْتَمِعُوا لِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَظِيمَةِ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّـهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ﴾ [الجاثية: 18- 19]. نَعَمْ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ، وَلَنْ يُغْنُوا عَنِ أَهْلِ الْإِيمَانِ شَيْئًا، بَلْ يَتَعَاوَنُونَ عَلَيْهِمْ وَيَتَعَاضَدُونَ، وَلَوِ اخْتَلَفُوا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ، فَلَا يَهُولَنَّ المُؤْمِنَ اجْتِمَاعُهُمْ وَتَوَلِّي بَعْضِهِمْ بَعْضًا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ وَلِيُّ المُتَّقِينَ.
وَرَأَيْنَا هَذِهِ السُّنَّةَ الرَّبَّانِيَّةَ فِي كُلِّ قَضَايَا المُسْلِمِينَ المُعَاصِرَةِ بَدْءًا بِقَضِيَّةِ فِلَسْطِينَ الَّتِي احْتَلَّهَا الْيَهُودُ بِمَعُونَةِ الْبُرُوتِسْتَانْتِ، ثُمَّ آزَرَهُمُ الْكَاثُولِيكُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَخَضَعَ لَهُمُ الْأَرْثُوذُكْسُ، كَمَا أَيَّدَهُمُ الْعَلْمَانِيُّونَ مِنْ رَأْسِمَالِيِّينَ وَشُيُوعِيِّينَ، عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ خِلَافَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَحُرُوبٍ مُسْتَعِرَةٍ. وَآخِرُهَا قَضِيَّةُ سُورِيَا الَّتِي اقْتَسَمُوا الْأَدْوَارَ فِيهَا حَتَّى آلَتِ الشَّامُ إِلَى مَا آلَتْ إِلَيْهِ مِنْ تَدْمِيرٍ وَخَرَابٍ، وَقَتْلٍ بِمِئَاتِ الْآلَافِ، وَتَهْجِيرٍ بِالمَلَايِينِ، فِي زَمَنِ رَفْعِ لَافِتَاتِ حُقُوقِ الْإِنْسَانِ، وَحُقُوقِ المَرْأَةِ، وَحُقُوقِ الطِّفْلِ.
وَمَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ الصَّلِيبَ الْأَرْثُوذُكْسِيَّ المُطَعَّمَ بِالشِّيُوعِيَّةِ المَادِّيَّةِ سَيَقِفُ مَعَ الْعِمَامَةِ الصَّفَوِيَّةِ المُتَعَصِّبَةِ الَّتِي وَقَفَتْ مِنْ قَبْلُ مَعَ النُّصَيْرِيِّ الْعَلْمَانِيِّ، مَعَ أَنَّ المَذْهَبَ الْإِمَامِيَّ يُكَفِّرُ النُّصَيْرِيَّةَ وَيَسْتَحِلُّ دِمَاءَهُمْ؟! وَبَقِيَّةُ اللَّاعِبِينَ مِنْ بُرُوتِسْتَانْتَ وَكَاثُولِيكَ وَمَلَاحِدَةٍ يُمْسِكُونَ بِالضَّحِيَّةِ لِلذَّابِحِ بِمُبَادَرَاتٍ وَمُقْتَرَحَاتٍ؛ لِيَسْتَمِرَّ الْعَذَابُ بِالمُعَذَّبِ، وَلِيَقْتُلَ المُجْرِمُ أَكْبَرَ قَدْرٍ مُمْكِنٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ. وَبَيْنَ الْقَضِيَّتَيْنِ الْفِلَسْطِينِيَّةِ وَالسُّورِيَّةِ عَشَرَاتُ الْقَضَايَا لِلْمُسْلِمِينَ الَّتِي وَالَى فِيهَا الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِسَحْقِ المُؤْمِنِينَ، وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِمْ، وَاقْتِسَامِ الْأَدْوَارِ بَيْنَهُمْ. فَهَذَا الْجَانِبُ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ وَاضِحٌ وُضُوحَ الشَّمْسِ، وَرَآهُ مَنْ عَاشُوا عَصْرَنَا رَأْيَ الْعَيْنِ.
وَأَمَّا الْجَانِبُ الْآخَرُ مِنْ هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ الَّتِي تُخْبِرُ عَنْهَا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129] فَهُوَ تَسْلِيطُ الظَّالِمينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَالظَّالِمُ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ ظَالِمٌ مِثْلُهُ أَوْ أَشَدُّ ظُلْمًا مِنْهُ، وَكَمَا قِيلَ: مَنْ أَعَانَ ظَالِمًا عَلَى ظُلْمِهِ سُلِّطَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ أَيْضًا: وَمَا ظَالِمٌ إِلَّا سَيُبْلَى بِظَالِمٍ. وَقَرَأْنَا فِي التَّارِيخِ عِبَرًا كَثِيرَةً فِي ذَلِكَ. وَكَمْ مِنْ ظَالِمٍ تَسَلَّقَ عَلَى جُثَثِ ضَحَايَاهُ بِأَعْوَانٍ أَعَانُوهُ عَلَى ظُلْمِهِ، ثُمَّ سَحَقُوهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَا يَزَالُ الظَّالِمُونَ يَسْحَقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَفِي حَادِثَةِ التَّتَارِ سَهَّلَ ابْنُ الْعَلْقَمِيِّ احْتِلَالَهُمْ بَغْدَادَ لِذَبْحِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، فَسُلِّطُوا عَلَيْهِ فَأَذَلُّوهُ حَتَّى مَاتَ كَمَدًا بَعْدَ أَشْهُرٍ قَلِيلَةٍ مِنْ خِيَانَتِهِ الشَّنِيعَةِ. وَفِي عِرَاقِ الْيَوْمِ لَا زَالَ الصَّفَوِيُّونَ يُذِلُّونَ مَنْ شَارَكُوهُمُ الْخِيَانَةَ، وَأَعَانُوهُمْ عَلَى الظُّلْمِ، وَسَيُسَلَّطُ عَلَى الصَّفَوِيِّينَ مَنْ يَقْتَصُّ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ أَوْ مَنْ يُبَالِغُ فِي ظُلْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَاطِلِ؛ فَإِنَّ سُنَّةَ اللَّـهِ فِي تَسْلِيطِ الظَّالِمينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَتَخَلَّفُ وَلَا تَتَبَدَّلُ ﴿سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ [الأحزاب: 38].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: 48].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَدْ يَبْدُو لِلنَّاظِرِ لِأَوَّلِ وَهْلَةٍ أَنَّهُ لَا قِبَلَ لِأَهْلِ الْعَدْلِ وَالْإِيمَانِ بِمُوَاجَهَةِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ بِشَتَّى مِلَلِهِمُ الْكُفْرِيَّةِ وَمَذَاهِبِهِمُ النِّفَاقِيَّةِ، وَلَا سِيِّمَا أَنَّ الْأَحْدَاثَ تِلْوَ الْأَحْدَاثِ تَكْشِفُ عَنْ تَحَالُفَاتٍ خَبِيثَةٍ، وَمُخَطَّطَاتٍ رَهِيبَةٍ ضِدَّ أَهْلِ الْإِيمَانِ، تَعْمِدُ إِلَى فَنَائِهِمْ، وَاقْتِسَامِ بُلْدَانِهِمْ، وَقَهْرِهِمْ بِالْعَمَائِمِ الصَّفَوِيَّةِ، وَلَكِنَّ سُنَّةَ اللَّـهِ تَعَالَى المَذْكُورَةَ فِي الْقُرْآنِ تُفِيدُ عَكْسَ ذَلِكَ؛ فَفِي شَأْنِ المُنَافِقِينَ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّـهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 61- 62].
وَفِي شَأْنِ الْكُفَّارِ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّـهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّـهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 22- 23]
فَإِنَّهُمْ وَإِنْ وَالَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَتَعَاضَدُوا وَتَنَاصَرُوا عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَاقْتَسَمُوا الْأَدْوَارَ فِيمَا بَيْنَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَصْمُدُوا أَمَامَ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَلَنْ يُحَقِّقُوا غَايَتَهُمْ فِي مَحْوِهِمْ مِنَ الْوُجُودِ.
وَمَعْرِفَةُ المُؤْمِنِينَ لِهَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ لَنْ تَزِيدَهُمْ إِلَّا تَمَسُّكًا بِإِيمَانِهِمْ، وَذَوْدًا عَنْ حَقِّهِمْ، وَدَفْعًا لِلظُّلْمِ عَنْهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ مَنْصُورُونَ، وَلَنْ يَنْفَعَ الظَّالِمُونَ تَوَلِّي بَعْضِهِمْ بَعْضًا، بَلْ سَيُخْذَلُونَ سَاعَةَ الْحَسْمِ.
وَيَسْتَفِيدُ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِمَعْرِفَةِ هَذِهِ السُّنَّةِ: مُجَانَبَةَ الظُّلْمِ بِشَتَّى أَنْوَاعِهِ، وَعَدَمَ اسْتِقْلَالِ الْقَلِيلِ مِنْهُ؛ لِئَلَّا تَجْرِيَ عَلَيْهِ سُنَّةُ اللَّـهِ تَعَالَى فِي الظَّالِمينَ.
كَمَا أَنَّ مَعْرِفَةَ هَذِهِ السُّنَّةِ سَبَبٌ لِلْحَذَرِ مِنَ الْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يُوَالِي بَعْضًا، وَلَوْ صَاحَ إِعْلَامُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ؛ فَالْجَعْجَعَةُ شَيْءٌ، وَالْفِعْلُ شَيْءٌ آخَرُ، وَقَدْ رَأَيْنَا الْعَمَائِمَ الصَّفَوِيَّةَ تَرْتَمِي فِي أَحْضَانِ الشَّيْطَانِ الْأَكْبَرِ، وَرَأَيْنَا أَبْوَاقَ الصُّمُودِ وَالمُمَانَعَةِ انْقَلَبَتْ رَأْسًا عَلَى عَقِبٍ، وَكَمْ مِنْ أَحْدَاثٍ مُبَارَكَةٍ كَشَفَتْ خَبَايَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْهَا غَافِلِينَ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات

من سنن الله تعالى في خلقه 6-مشكولة.doc

من سنن الله تعالى في خلقه 6-مشكولة.doc

من سنن الله تعالى في خلقه 6.doc

من سنن الله تعالى في خلقه 6.doc

المشاهدات 2543 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا