وقفات من حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع عتبة بن ربيعة
إبراهيم بن صالح العجلان
1436/04/02 - 2015/01/22 16:10PM
مَعَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ
7 / 3 / 1435 هـ
أمَّا المَكَانُ فَمَسْجِدُ بَيْتِ اللَّـهِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا الزَّمَانُ فَقُبَيْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ r بِسَنَوَاتٍ، وَأَمَّا الْحَدَثُ فَجَلْسَةُ حِوَارٍ بَيْنَ النَّبِيِّ r وَبَيْنَ مَنْ رَشَّحَتْهُ قُرَيْشٌ وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ أَحَدُ الْخُصُومِ المُعَارِضِينَ المُعَانِدِينَ.
رَأَى هَذَا الشَّيْخُ المُسِنُّ النَّبِيَّ r جَالِسًا فِي المَسْجِدِ وَحْدَهُ، فَذَهَبَ إِلَى سَادَاتِ مَكَّةَ فَنَادَاهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَلَا أَقُومُ إِلى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمُهُ، وَأَعْرِضُ عَلَيْهِ أُمُورًا، لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا، فَنُعْطِيهِ أَيُّهَا شَاءَ، وَيَكُفُّ عَنَّا؟ فَقَالُوا: بَلى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، قُمْ إِلَيْهِ فَكَلِّمْهُ.
فَقَامَ إِلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّـهِr فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّـهِ؟ -يَقْصِدُ أَبَاهُ- فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّـهِ r، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ r، قَالَ: فَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ فَقَدْ عَبَدُوا الْآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ.
وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ عُتْبَةَ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ الشَّرَفِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّك قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضُ عَلَيْكَ أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا، لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ» قَالَ: يَا ابْن أَخِي، إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ –أَي: الصَّاحِبُ مِنَ الجِنِّ- عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ.
وَرَسُولُ اللَّـهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ: «أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاسْمَعْ مِنِّي، قَالَ: أَفْعَلُ، فَقَالَ: بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾[فصلت: 1-5]، وَيَسْتَمِرُّ النَّبِيُّ r فِي تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعُتْبَةُ يَسْمَعُ وَيُصْغِي بِانْدِهَاشٍ حَتَّى إِذَا بَلَغَ قَوْلَهُ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13] قَامَ عُتْبَةُ، وَأَمْسَكَ عَلَى فَمِ الرَّسُولِ r وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ r: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ».
فَقَامَ عُتْبَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: نَحْلِفُ بِاللَّـهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ، فَلَمَّا جَلَسَ إِلَيْهِمْ قَالُوا مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي وَاللَّـهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ وَاللَّـهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا السِّحْرِ وَلَا الْكَهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ؛ فَوَاللَّـهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكِمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ.
قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللَّـهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ. قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
انْتَهَى المَوْقِفُ، وَلَمْ تَنْتَهِ وَقَفَاتُهُ ... وَلَنَا مَعَ هَذَا الْحَدَثِ أَحَادِيثُ وَتَأَمُّلَاتٌ:
أَوَّلاً: تَعَلُّمُ أَدَبِ الْحِوَارِ قَبْلَ الْحِوَارِ:
فَالْأَدَبُ الَّذِي كَانَ يَتَمَتَّعُ بِهِ النَّبِيُّ r فِي حِوَارِهِ مَعَ المُخَالِفِينَ، وَاللُّغَةُ الرَّاقِيَةُ فِي النِّقَاشِ جَعَلَتْ عُتْبَةَ يُغَيِّرُ مِنْ قَنَاعَاتِهِ المُسْبَقَةِ عَنِ النَّبِيِّ r، وَيُرَاجِعُ مَوْقِفَهُ وَمَوْقِفَ قَوْمِهِ تُجَاهَ مَنْ يُعَادِيهِ.
تَأَمَّلْ بِوِجْدَانِكَ هَذَا المَشْهَدَ..... أَفْضَلُ مَخْلُوقٍ، وَفِي أَطْهَرِ مَكَانٍ، يُصْغِي لِمُشْرِكٍ مُعَانِدٍ ﴿وَإِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: 28]، وَيَتَكَلَّمُ بِأَلْفَاظٍ مُسْتَفِزَّةٍ ، وَيُسَاوِمُ النَّبِيَّ r فِي أَعْظَمِ أَمَانَةٍ حُمِلَتْ لَهُ، وَهِيَ تَبْلِيغُ الرِّسَالَةِ، وَمَعَ ذَلِكَ يَسْتَمِعُ النَّبِيُّ r لخِطَابِهِ، لَا يُقَاطِعُهُ، وَلَا يُعَارِضُهُ اسْتِمَاعًا تَامًّا، كَأَنَّمَا هُوَ مُعْجَبٌ بِمَا يَقُولُ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ الْوَلِيدُ خَاطَبَهُ بِأَدَبٍ وَكَنَاهُ: أَفَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ بِمَعْنَى: لَوْ بَقِيَ لَكَ بَاقِيَةٌ مِنْ حَدِيثٍ فَاسْتَمِرَّ.
لَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ هَذَا الْأَثَرَ النَّفْسِيَّ الَّذِي قَدِ انْطَبَعَ عَلَى نَفْسِ عُتْبَةَ وَهُوَ يَسْمَعُ وَيَرَى خَصْمَهُ يَتَعَامَلُ مَعَهُ بِهَذَا الْأَدَبِ الْعَالِي.
فَحَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ عُمُومًا، وَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالدَّعْوَةِ وَالْفِكْرِ خُصُوصًا، أَنْ يَتَخَلَّقُوا بِهَذَا الْخُلُقِ النَّبَوِيِّ فِي التَّأَدُّبِ مَعَ المُخَالِفِ، حَتَّى وَلَوْ خَالَفَنَا فِي الْعَقِيدَةِ وَالدِّينِ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا الخُلُقُ مَعَ المُخَالِفِينَ فِي أَصْلِ الدِّينِ، فَأَهْلُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ مِنَ الِاحْتِرَامِ وَالتَّقْدِيرِ.
الْوَقْفَةُ الثَّانِيَةُ: الْإِصْغَاءُ فَنٌّ:
فَفِي هَذَا المَشْهَدِ نَرَى رَوْعَةَ الْإِصْغَاءِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ، رَغْمَ مَا قِيلَ فِيهِ مِنَ الْبَاطِلِ.
وَالتَّأْثِيرُ فِي الْآخَرِينَ لَا يَكُونُ فَقَطْ فِي سَرْدِ الْحُجَجِ وَرَصْفِ الْكَلَامِ، بَلْ قَدْ يَأْتِي فِي قَالَبِ الْإِصْغَاءِ لِحَدِيثِ الْآخَرِينَ، وَإِظْهَارِ الِاهْتِمَامِ بِهِ، وَالمَرْءُ قَدْ يَكْسِبُ قُلُوبَ الْآخَرِينَ بِالِاسْتِمَاعِ لَهُمْ أَكْثَرَ مِنْ حَدِيثِهِ إِلَيْهِمْ.
وَالْإِنْسَانُ خَلَقَهُ رَبُّهُ بِلِسَانٍ وَأُذُنَيْنِ لِيَسْتَمِعَ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَكَلَّمُ.
فَيَا أَخَا الْإِسْلَامِ عَوِّدْ نَفْسَكَ عَلَى الِاسْتِمَاعِ، وَتَرَوَّضْ عَلَى لِيَاقَةِ الْإِصْغَاءِ، سَوَاءً أَكُنْتَ وَزِيرًا أَمْ أَمِيرًا، أَوْ تَاجِرًا، أَوْ مُدِيرًا، أَوْ مُخْتَصًّا أَوْ خَبِيرًا.
اسْتَمِعْ لِغَيْرِكَ، وَلَا تَحْتَكِرِ الْحَقِيقَةَ، وَلَا تَسْتَبِدَّ بِالرَّأْيِ، فَالِاسْتِمَاعُ إِلَى الْآخَرِينَ يُوصِلُكَ لِتَفَهُّمِ آرَائِهِمْ، وَيَجْعَلُ رَدَّةَ فِعْلِكَ وَقَوْلِكَ مُعْتَدِلَةً وَمُتَّزِنَةً.
وَتَيَقَّنْ أَوَّلًا أَنَّكَ كُلَّمَا كُنْتَ مُصْغِيًا جَيِّدًا، فَهِمْتَ مَنْ حَوْلَكَ بِشَكْلٍ صَحِيحٍ، فَكَثِيرٌ مِنَ التَّنَافُرِ بَيْنَ النَّاسِ، وَرُبَّمَا الشِّقَاقُ سَبَبُهُ عَدَمُ تَفَهُّمِ آرَائِهِمْ، بِسَبَبِ عَدَمِ الْإِصْغَاءِ إِلَيْهِمْ.
وتَيَقَّنْ ثَانِيًا أَنَّ الْإِصْغَاءَ لَيْسَ بِضَعْفٍ، بَلْ هي جُرُعاتٌ فِي اكْتِسَابِ الثِّقَةِ بِالنَّفْسِ، وَفِي اكْتِسَابِ احْتِرَامِ الْآخَرِينَ، فَالنَّاسُ تَحْتَرِمُ وَتُقَدِّرُ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْهِمْ، وَيُظْهِرُ الِاهْتِمَامَ بِهِمْ.
- الْوَقْفَةُ الثَّالِثَةُ: رِسَالَةُ الحَقِّ تَحْتَاجُ إِلَى أَدَوَاتٍ:
فَالْحَقُّ حِينَمَا يُعْرَضُ بِهُدُوءٍ فِي الطَّرْحِ، وَثِقَةٍ فِي الْخِطَابِ، وَأَدَبٍ مَعَ المُخَالِفِ، سَيَكُونُ لَهُ مِنَ الْأَثَرِ مَا شَاءَ اللهُ لَهُ أَنْ يَكُونَ.
وَلَا يَضْعُفُ الْحَقُّ، وَلَا يَنْفَضُّ النَّاسُ عَنْهُ إِلَّا حِينَمَا يُقَدَّمُ بِلُغَةٍ فَجَّةٍ، وَأُسْلُوبٍ مُتَعَالٍ وَصَوْتٍ عَالٍ.
فَهَذِهِ رِسَالَةٌ لِدُعَاةِ الْإِصْلَاحِ وَالْخَيْرِ أَنْ يَحْكُمُوا مَشَاعِرَهُمْ فِي مُنَاقَشَةِ المُخَالِفِينَ، وَأَنْ يَضْبِطُوا انْفِعَالَاتِهِمْ مَعَ المُسْتَفِزِّينَ -وَمَا أَكْثَرَهُمْ فِي عَالَمِ الْيَوْمِ!- وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ.
- الْوَقْفَةُ الرَّابِعَةُ: لَا تَنَازُلَ عَنِ المَبَادِئِ:
إِنَّ سِيَاسَةَ إِغْرَاءِ النُّفُوسِ بِالدُّنْيَا مِنْ أَجْلِ تَوْقِيفِ عَجَلَةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِصْلَاحِ، أَوْ تَغْيِيرِهَا عَنْ مَسَارِهَا أُسْلُوبٌ قَدِيمٌ.
فَقُرَيْشٌ مَا لَجَأَتْ لِهَذَا الْأُسْلُوبِ، وَالَّذِي فِيهِ مَا فِيهِ مِنْ بَذْلِ المَالِ، وَالتَّنَازُلِ عَنِ المُلْكِ، وَإِعْطَائِهَا لِلْخُصُومِ، إِلَّا لِأَنَّهَا رَأَتْ أَثَرَ الدَّعْوَةِ المُحَمَّدِيَّةِ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَكَثْرَةِ الدَّاخِلِينَ فِي الدِّينِ وَالرَّاغِبِينَ فِيهِ.
لَكِنَّ النَّبِيَّ r وَقَفَ مِنْ هَذَا الْعَرْضِ مَوْقِفًا حَازِمًا وَهُوَ الرَّفْضُ التَّامُّ؛ تَبْلِيغًا لِلْأَمَانَةِ، وَحِرْصًا عَلَى سُمْعَةِ الدَّعْوَةِ.
فَهَذَا المَوْقِفُ رِسَالَةٌ لِكُلِّ صَاحِبِ عِلْمٍ وَدَعْوَةٍ أَنْ لَا يُقَدِّمَ التَّنَازُلَاتِ، وَلَا يَتَغَيَّرَ، وَلَا يَقْبَلَ المُسَاوَمَاتِ مِنْ أَجْلِ رِسَالَتِهِ السَّامِيَةِ، وَمَبَادِئِهِ الثَّابِتَةِ.
وَالدَّعْوَةُ لَا تَضْعُفُ، وَلَا يَنْفَضُّ النَّاسُ عَنْ أَهْلِهَا إِلَّا حِينَمَا تَتَغَلَّبُ هَذِهِ الْأَطْمَاعُ عَلَى المَبَادِئِ.
- الْوَقْفَةُ الخَامِسَةُ: لَا مَصْلَحَةَ فِي مُصَادَمَةِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ:
وَهِيَ حَقِيقَةٌ أَدْرَكَهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَنَصَحَ قَوْمَهُ وَصَدَقَ، وَهِيَ أَنْ يَتْرُكُوا دَعْوَةَ الرُّسُلِ تَسِيرُ فِي طَرِيقِهَا، لَا تُصَادَمُ، وَلَا تُشَوَّهُ، وَلَا تُحْبَسُ، وَلَا تُعَادَى.
لِمَاذَا؟....... لِلْمَصْلَحَةِ الذَّاتِيَّةِ لَهُمْ؛ فَإِنْ ظَهَرَتْ دَعْوَةُ مُحَمَّدٍ فَالشَّرَفُ لِقُرَيْشٍ وَلِأَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ.
لَقَدْ أَدْرَكَ الرَّجُلُ الْجَاهِلِيُّ بِفِطْرَتِهِ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ الَّتِي تَحْمِلُ هَذَا الْقرْآنَ الْعَظِيمَ لَنْ تَقِفَ فِي وَجْهِهَا أَيُّ قُوَّةٍ، وَمِنْ ثَمَّ فَإِنَّ مُصَادَمَتَهَا تُعَدُّ صَفْحَةً سَوْدَاءَ فِي تَارِيخِ أَهْلِهَا، وَذِكْرًا سَيِّئًا لَا تَمْحُوهُ الْأَيَّامُ.
- الْوَقْفَةُ السَّادِسَةُ: بَعْضُ الْبَاطِلِ حَقُّهُ الْإِعْرَاضُ وَعَدَمُ المُنَاقَشَةِ:
فَعُتْبَةُ فِي حِوَارِهِ أَثَارَ قَضِيَّةً جَانِبِيَّةً لَمْ يُنَاقِشْهُ النَّبِيُّ r فِيهَا، مَعَ يَقِينِهِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، فَحِينَ سَأَلَ عُتْبَةُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّـهِ؟ سَكَتَ عَنْ إِجَابَتِهِ النَّبِيُّ r وَلَمْ يُجِبْهُ، وَحِينَ سَأَلَ: أَأَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ؟ أَعْرَضَ المُصْطَفَى عَنْ إِجَابَتِهِ.
مَعَ أَنَّهُ r قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَّ وَالِدَهُ وَجَدَّهُ مَاتُوا عَلَى الْإِشْرَاكِ، فَأَعْرَضَ النَّبِيُّ r عَنْ هَذِهِ المَسْأَلَةِ الْجَانِبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ صُلْبِ المَوْضُوعِ، وَلَوْ فَعَلَ لَطَالَ الْحَدِيثُ، وَضَاعَ أَصْلُ الْحِوَارِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْجَوَابُ مِنْ فَمِ النَّبِيِّ مُرَكَّزًا بِسَرْدِ آيَاتٍ تُثْبِتُ رَبَّانِيَّةِ الْقُرْآنِ، وَنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ، وَعَظَمَةِ الْخَالِقِ الَّذِي أَرْسَلَهُ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْعُقُوبَةِ حَالَ الْإِعْرَاضِ.
فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَةٍ يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ أَنْ نَتَرَبَّى عَلَى هَذَا الْخُلُقِ النَّبَوِيِّ، خُلُقِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْبَاطِلِ، فَالْوَقَائِعُ تَنْطِقُ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْبَاطِلِ يَنْتَشِرُ وَيُذَاعُ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ، وَرُبَّمَا بِكَثْرَةِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ اللهُ عَنِ الْفَارُوقِ المُلْهَمِ حِينَ قَالَ: أَمِيتُوا الْبَاطِلَ بِعَدَمِ ذِكْرِهِ، وَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 106]، ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199].
نَفَعَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ كِتَابِهِ، وَجَعَلَنَا مِنْ خَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأسْتَغْفِرُهُ، إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
عَظَمَةُ هَذَا الْقُرْآنِ وَأَثَرُهُ فِي النُّفُوسِ، وَتِلْكَ مُعْجِزَةٌ أَبْقَاهَا اللهُ لِكَلَامِهِ مَا بَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
فَكَمْ لَانَتْ قُلُوبٌ قَاسِيَةٌ بِالْقُرْآنِ، وَكَمْ رَجَعَتْ نُفُوسٌ تَائِهَةٌ وَمُعْرِضَةٌ مَعَ الْفُرْقَانِ ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9].
لَوْ أَسْلَمَ حِمَارُ الْخَطَّابِ مَا أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ! عِبَارَةٌ قِيلَتْ قَبْلَ إِسْلَامِ عُمَرَ. لَكِنَّ أَثَرَ هَذَا الْكِتَابِ غَلَبَ جَمِيعَ الظُّنوناتِ والتَّوقُّعات.
فَكَانَ مَاذَا؟... كَانَ هَذَا الْخَصْمُ الْجَبَّارُ الْعَنِيدُ، وَالْعَدُوُّ اللَّدُودُ الشَّدِيدُ، يَتَغَيَّرُ مِنَ النَّقِيضِ إِلَى النَّقِيضِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْقُرْآنُ، حِينَمَا سَمِعَهُ عُمَرُ فَتَأَثَّرَ لَهُ، وَرَقَّ قَلْبُهُ وَلَانَ، حَتَّى عُرِفَ تَأْثِيرُ الْقُرْآنِ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ أَعْلَنَ بَعْدَهَا إِسْلَامَهُ.
هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي هَزَّ وِجْدَانَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ الَّذِي طَالَما سَجَدَ لِصَنَمٍ، حَرِيٌّ أَنْ يَهُزَّ وِجْدَانَ نُفُوسٍ مُوَحِّدَةٍ تُصَلِّي وَتَصُومُ وَتَسْجُدُ لِبَارِيهَا تَوْحِيدًا، وَطَلَبًا لِمَا عِنْدَ اللَّـهِ ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّـهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الشورى: 36].
فَالْقُرْآنُ هُوَ سِلَاحُ المُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ وَالِاهْتِدَاءِ، وَفِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَفِي الْجِهَادِ بِهِ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ فِي مَكَّةَ أَنْ يُجَاهِدَ الْكُفَّارَ بِهَذَا الْقُرْآنِ ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52].
فَيَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، دُونَكُمْ رِسَالَةَ اللَّـهِ لِلْعَالَمِينَ، لَيْسَ بَعْدَهُ خِطَابٌ إِلَهِيٌّ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أَنْ تَعْمَلَ فِي إِيصَالِ حُجَّةِ الْقُرْآنِ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، مِنْ خِلَالِ تَرْجَمَتِهِ، وَتَفْسِيرِ مَعَانِيهِ لِجَمِيعِ اللُّغَاتِ؛ لِتَصِلَ رِسَالَةُ اللَّـهِ لِلْعَالَمِينَ.
وَتِلْكَ -وَايْمُ اللَّـهِ- أَمَانَةٌ مُلْقَاةٌ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدَّعْوَةِ، وَعَلى أَهْلِ الْبَذْلِ وَالْخَيْرِ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَخَيْرُ النَّاسِ فِي دُنْيَا النَّاسِ مَنْ تعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَحَمَلَتِهِ وَالدَّاعِينَ إِلَيْهِ، وَاجْعَلْهُ حُجَّةً لَنَا لَا عَلَيْنَا. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ..
المرفقات
وقفات من حوار النبي مع عتبة بن ربيعة.doc
وقفات من حوار النبي مع عتبة بن ربيعة.doc
المشاهدات 15512 | التعليقات 3
تصويب :
ورد في الخطبة الآية من التوبة هكذا : ﴿وَإِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ بواو في أولها، والصواب بدون واو .
بسم الله الرحمن الرحيم
لله درك شيخنا الكريم رائعة بكل ما تعنيه الكلمة..,,
أحمد السويلم
يسرني أن أكون أول من يسجل إعجابه بالخطبة ..
نفع الله بكم فضيلة الشيخ وسدد أقوالكم ..
تعديل التعليق