وَقَفَاتٌ مَعَ قَولِهِ تَعَالَى: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ }

مبارك العشوان 1
1444/11/12 - 2023/06/01 00:39AM

الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

عِبَادَ اللهِ: آيَةٌ جَامِعَةٌ، قَالَ عَنْهَا ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ( أَجْمَعُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ: آيَةٌ فِي سُورَةِ النَّحْلِ، وَتَلَا هَذِهِ الآيةَ ) وَقَالَ قَتَادَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ( لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَعْمَلُونَ بِهِ وَيَسْتَحْسِنُونَهُ إلَّا أَمَرَ اللهُ بِهِ فِي هَذِهِ الآيَةِ، وَلَيْسَ مِنْ خُلُقٍ كَانُوا يَتَعَايَرُونَهُ بَيْنَهُمْ إلَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ وَقَدَحَ فِيهِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ سَفْاسِفِ الأخْلَاقِ وَمَذَامِّهَا ).

وَكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ رَحِمَهُ اللهُ إلَى الخُطَبَاءِ يَأمُرُهُمْ بِتِلَاوَةِ هَذِهِ الآيَةِ فِي خُطْبَةِ الجُمُعَةِ: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }النحل 90

هَذِهِ الآيَةُ - عِبَادَ اللهِ - جَمَعَتْ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ فِي ثَلَاثَةِ أَوَامِرَ، وَثَلَاثَةِ نَوَاهِي، فَأمَّا الأَوَامِرُ: فَالعَدْلُ، وَالإِحْسَانُ وَإِيْتَاءُ ذِي القُرْبَى.

وَأمَّا النَّوَاهِي: فَالفَحْشَاءُ، وَالمُنْكَرُ وَالبَغَيُ.

وَحَدِيثُنَا اليَومِ عَنِ العَدْلِ - جَعَلَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ أهْلِهِ -

العَدْلُ - وَفَّقَكُمُ اللهُ - كَلِمَةٌ قَلِيلَةُ المَبْنَى، عَظِيمَةُ المَعْنَى قَالَ الشَّيخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: ( فَالعَدْلُ الذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ يَشْمَلُ العَدْلَ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ عِبَادِهِ، فَالعَدْلُ فِي ذَلِكَ أدَاءُ الحُقُوقِ كَامِلَةً مُوَفَّرَةً بِأَنْ يُؤَدِيَ العَبْدُ مَا أوْجَبَ اللهُ عَلَيهِ مِنْ الحُقُوقِ المَالِيَّةِ وَالبَدَنِيَّةِ وَالمُرَكَّبَةِ مِنْهُمَا، فِي حَقِّهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ، وَيُعَامِلَ الخَلْقَ بِالعَدْلِ التَّامِّ؛ فَيُؤَدِّي كُلُّ وَالٍ مَا عَلَيهِ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، سَوَاءً فِي ذَلِكَ وِلَايَةَ الإِمَامَةِ الكًبْرَى، وَوِلَايَةَ القَضَاءِ وَنُوَّابَ الخَلِيفَةِ، وَنُوَّابَ القَاضِي ... ) الخ

عِبَادَ اللهِ: اعْلَمُوا أنَّ أعْظَمَ صُوَرِ العَدْلِ: تَوحِيدُ اللهِ تَعَالَى وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، يَقُولُ العِزُّ بنُ عَبدِ السَّـــلَامِ رَحِمَهُ اللهُ: ( العَدْلُ ): شَهَادَةُ التَّوحِيدِ.

مِنْ صُوَرِ العَدْلِ الحَذَرُ مِنَ الإِشْرَاكِ بِاللهِ، فَالشِّرْكُ نَقِيضُ العَدْلِ، بَلْ هُوَ أظْلَمُ الظُّلْمِ؛ قَالَ تَعَالَى: { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }لقمان13 وَفِي البُخَارِيِّ: ( أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ أَنْ تَجْعَلَ لِلهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ) وَقَالَ تَعَالَى: { وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ } يونس 106

وَمِنْ صُوَرِ العَدْلِ: العَدْلُ فِي الحُكْمِ، وَمِنَ السَّبْعَةِ الذِينَ  يُظِلُّهُمْ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ.

الإِمَامُ العَادِلُ يُقِيمُ العَدْلَ فِي الأَرْضِ، فَيَهْنَأُ العَيْشُ، وَتَصْفُو الحَيَاةُ، وَيَسْتَوفِي كُلُّ إنْسَانٍ حُقُوقَهُ، الإِمَامُ العَاِدلُ يَسْعَدُ بِرَعِيَّتِهِ وَيَسْعَدُونَ بِهِ، يُحِبُّهُمْ وَيُشْفِقُ عَلَيهِمْ، وَيَسْعَى جُهْدَهُ فِيمَا يُصْلِحُ رَعِيَّتَهُ، وَمَا يَحْتَاجُونَ إلَيهِ؛ الإمَامُ العَادِلُ تَقُومُ لَهُ دَولَتُهُ وَتُحْفَظُ بِإِذْنِ اللهِ، وَيُمَكِّنُ اللهُ لَهُ.

يَقُولُ شَيْخُ الإسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: ( إنَّ اللهَ يُقِيمُ الدَّولَةَ العَادِلَةَ وَإنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يُقِيمُ الدَّولَةَ الظَّالِمِةَ وِإنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً ).

وَقَالَ الإمَامُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قِيلَ: كُلُّ بَلْدَةٍ يَكُونُ فِيهَا أرْبَعَةٌ؛ فَأَهْلُهَا مَعْصُومُونَ مِنَ البَلَاءِ: إمَامٌ عَادِلٌ لَا يَظْلِمُ، وَعَالِمٌ عَلَى سَبِيلِ الهُدَى، وَمَشَايِخُ يَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحَرِّضُونَ عَلَى طَلَبِ العِلْمِ وَالقُرْآنِ، وَنِسَاؤُهُمْ مَسْتُورَاتٌ لَا يَتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى )

وَكَذَلِكَ - عِبَادَ اللهِ -: كُلُّ مَنْ تَوَلَّى أمْرًا، أوْ مَنْصِبًا، أوْ إدَارَةً، أوْ أيَّ عَمَلٍ دُونَ ذَلِكَ؛ فَيَجِبُ عَلَيهِ إقَامَةُ العَدْلِ فِيهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

عَلَى كُلِّ رَئِيسٍ أنْ يَعْدِلَ بَينَ مُوَظَّفِيهِ، عَلَى كُلِّ مُعَلِّمٍ أنْ يَعْدِلَ بَينَ طُلَّابِهِ، وَعَلَى كُلِّ قَاضٍ أنْ يَعْدِلَ بَينَ الخُصُومِ عِنْدَهُ، لَا يُحَابِي قَرِيبًا لِقَرَابَتِهِ، وَلَا وَجِيهًا لِوَجَاهَتِهِ، وَلَا ضَعِيفًا لِضَعْفِهِ، وَلَا يَظْلِمُ أحَدًا لِكَرَاهَتِــهِ وَعَدَاوَتِهِ، قَالَ تَعَالَـــى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } المائدة 8

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذَّكَرِ الْحَكِيمِ وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلُّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحَمْدُ لِلهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.

أمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنْ صُوَرِ العَدْلِ:عَدْلُ الوَالِدَينِ بَينَ أوْلَادِهِمَا عَدلٌ فِي المُعَامَلَةِ، وَعَدْلٌ فِي العَطِيَّةِ؛ وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ( اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا فِي أَوْلَادِكُمْ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَيَجِبُ العَدْلُ بَينَ الأولَادِ، وَيَحْرُمُ ظُلْمُهُمْ بَأيِّ صُوْرَةٍ مِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ، أوْ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ. 

وَمِنْ صُوَرِ العَدْلِ: العَدْلُ بَينَ الزَّوْجَاتِ، فَمَنَ كَانَ لَهُ أكْثَرَ مِنْ زَوْجَةٍ وَجَبَ عَلَيهِ العَدْلُ بَيْنَهُنَّ فِي الأُمُورِ الظَّاهِرَةِ  مِنَ النَّفَقَةِ وَالكِسْوَةِ، وَنَحْوِهَا وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ: ( إِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ ) أخرجه الترمذي وقال الألباني صحيح.

ألَا فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَالْزَمُوا العَدْلَ وَأقِيمُوهُ فِي حَيَاتِكُمْ  وَاحْرِصُوا غَايَةَ الحِرْصِ عَلَى تَحْقِيقِ العَدْلِ بِإِخْلَاصِ تَوْحِيدِكُمْ وَتَنْقِيَتِهِ مِنْ صَغِيرِ الشِّرْكِ وَكَبِيرِهِ وَبِالعِدْلِ بَينَ أوَلَادِكُمْ، وَبَينَ زَوجَاتِكُمْ، وَفِي كُلِّ أَمْرٍ تَوَلَّيْتُمُوهُ.

وَإيَّاكُمْ - عِبَادَ اللهِ - وَالظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَومَ القِيَامَةِ. اجْتَهِدُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أنْ تَلْقَوا رَبَّكُم وَلَيسَ لِأَحَدٍ مِنَ العِبَادِ فِي رِقَابِكُمْ مَظْلَمَةٌ.  

ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.

اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.

عِبَادَ اللهِ: { إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.

المرفقات

1685569159_إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.pdf

1685569175_إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ.docx

المشاهدات 695 | التعليقات 0