وقفات مع قصة موسى عليه السلام مع فرعون

عبدالله اليابس
1439/01/09 - 2017/09/29 04:04AM

وقفات مع قصة موسى عليه السلام       الجمعة 9/1/1439هـ

الحمد لله الذي تفرد بعز كبريائه، وتوحد بدوام بقائه، ونَوَّر قلوب أوليائه، وأسبغ على الكافة جزيل عطائه، الحيِّ العليمِ الذي لا يعزُبُ عن علمه مثقالُ ذرة في أرضِهِ ولا سمائِهِ.

لنَا الفَخْرُ كلُّ الفَخْرِ بالله وَحدَهُ *** وَمَنْ لَـمْ تَـزَلْ أنْعَـامُـه تَتَـوالَـى

لنا الحَـظُّ كـلُّ الحَــظِّ أنَّ إلَـهَـنَـا *** هُـوَ اللهُ رَبُّ العَالَـمِـينَ تَعَـالَى

وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله, وصفيه من خلقه وخليله.

نبي أتانا بعــد يأس وفترة *** من الرُّسْلِ والأوثانُ في الأرض تعبدُ فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً *** يلـوح كما لاح الصقيل المهند وأَنذَرنا ناراً وبَشّــر جنةً *** وعَلَّمَـــنا الإسلامَ فالله نحمد

صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين.

أَمَّا بَعْدُ: {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. يومُ عاشوراء يوم عظيم .. فهو يوم نجاةِ موسى عليه السلام ومن آمن معه من فرعون وقومِه.. يومُ ظهورِ الحق.. وزهوقِ الباطل.. يومُ هلاكِ الظالمين .. ونُصرةِ المظلومين .. إنه يوم من أيام الله تبارك وتعالى.

لقد ذُكر اسم موسى عليه السلام في كتاب الله تعالى أكثرَ من مائة وثلاثين مرة .. بل قال السيوطي رحمه الله: "كاد القرآن أن يكون كله لموسى".

تكررت قصة موسى عليه السلام في القرآن كثيرًا ليستلهم منها المؤمنون العبر والعظات .. ويتدبروا في أحداثها ومواقفِها .. فهي قصة جمعت بين أحوال الظالمين والجبابرة .. وأحوال الطغاة والأكاسرة .. وبين أحوال المؤمنين الصادقين .. وفتنة المبتلَين المظلومين.

قصة تحدثت عن الإيمان والكفر, عن الشدة والفَرَج, عن العسر واليسر.

فيها من الفوائد الإيمانية والعقدية والفقهية والأخلاقية والسلوكية والمهارية ما لايكاد يحصى ..

ولعلنا في هذه الدقائق نتوقف بشكل مختصر مع بعض الفوائد والعبر من قصة موسى عليه السلام مع فرعون:

فمن فوائد هذه القصة أن آيات الله تعالى في القرآن .. وآياتِه في الكون .. وآياتِه في تدبير أحداث الحياة .. ينبغي أن يتدبر فيها الإنسان.. ويعتبر ويتعظ.. بسم الله الرحمن الرحيم {طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

إن ما قَصَّه الله تعالى علينا في كتابه إنما أنزله للتدبر والتأمل: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.

ومن فوائد هذه القصة أن الله تعالى إذا أراد شيئًا هيأ أسبابَه وأتى به ولو بعد حين .. بل ولو كانت المقدمات لا توحي بالنتائج ..

فهذا فرعون طغى وبغى وعثى في بني إسرائيل بالفساد .. بل وصل به الحال إلى أن يقتل أطفالهم منذ ولادتهم بغير جناية اقترفوها.. ووصل به الحال إلى أن ادعى الربوبية.. وقال لبني إسرائيل: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى}.. بل أجبر بني إسرائيل على عبادته.. وقال لهم: {يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}..

ومع ذلك.. فإن الله كان يهيئ لهذا الظالم أسباب سقوطه وهلاكه.. {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.

ربنا تبارك وتعالى يملي للظالم .. فإذا أخذه لم يفلته ..

فرعون طغى وبغى وتجبر .. وظن أنه بملكه رقاب العباد .. مَلَك كل شيء .. {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ}.. فأملى الله له حتى أجرى الأنهار من فوقه .. {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}.

فيا كل ظالم .. تذكر وقوفك غدًا بين يدي ملك الملوك .. عارياً من كل شيء إلى من عملك .. اذهب اليوم وأصلح ما أفسدته وتحلل ممن ظَلَمْتَهُ .. قبل أن تكون لمن بعدك آية.

ومن فوائد هذه القصة أن الباطل قد ينتفشُ وينتشر .. حتى ييأس كثير من الناس من صلاح الحال .. لكن إن كان الباطل ساعة فالحق باق إلى قيام الساعة ..

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكنت أظنها لا تفرجُ

إذا اشتد ظلام الليل قرب طلوع الفجر ..

{حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.

مهما علا صوت الباطل.. فالحق قديم .. والله ناصره ولو بعد حين.. {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}.

ومن فوائد قصة موسى عليه السلام مع فرعون أن الاستهزاء بالصالحين عادة قديمة للمفسدين .. وحيلة لتشويه صورتهم ليَرُدُّ الناس ما معهم من الحق, فهذا موسى عليه السلام كان لديه لثغة في لسانه منذ الصغر, فعيرَّه بها فرعون بقوله: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ}, بل تجاوز ذلك فرعون إلى زعمه أن دعوة التوحيد التي جاء بها موسى عليه السلام هي دعوة للفساد في الأرض .. وحاول إقناع الناس بذلك: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ}.

نعم.. هكذا دأب الصالحين مع المفسدين .. تشويه الصورة .. وافتراء الأكاذيب .. والإيذاء والتجريح ..

لما جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ذهب إلى خديجة رضي الله عنها خائفًا .. فأمَّنت روعه, ثم ذهبت به إلى ابن عمها ورقةِ بن نوفل, وكان نصرانياً يكتب الإنجيل, فلما حَدَّثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى, قال له ورقة ــ وكان شيخًا كبيرًا قد عمي ــ: " هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ"، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟) قَالَ وَرَقَةُ: "نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ".

أيها الإخوة .. هذا طرف يسير من فوائد قصة موسى عليه السلام مع فرعون .. ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَقَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.

أَمَّا بَعْدُ :  {ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. يستحب صيام اليوم العاشر من شهر محرم وهو يوم غد السبت .. روى البخاري من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: (ما هذا)، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال صلى الله عليه وسلم: (فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه).

ويستحب أيضًا أن يصوم المسلم اليوم التاسع من محرم, جاء عند مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: حين صام رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا يا رسول الله: إنه يوم تعظمه ‏اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا كان العام المقبل إن شاء ‏الله، صمنا اليوم التاسع). قال: فلم يأت العام المقبل، حتى توفي رسول الله صلى الله عليه ‏وسلم.

وجاء عند الإمام أحمد في ‏المسند، والبيهقي في السنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صوموا يوم ‏عاشوراء وخالفوا فيه اليهود: صوموا قبله يوماً، وبعده يوماً).

وعند الإمام أحمد أيضاً وابن خزيمة: (صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده).

والحديثين الأخيرين فيهما ضعف.

قال الإمام ابن القيم واتفق معه ابن حجر رحمهما الله: "فمراتب صومه ‏ثلاثة: أكملها: أن يصام قبله يومٌ وبعده يوم، ويلي ذلك أن يصام التاسع والعاشر، وعليه ‏أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفرادُ العاشر وحده بالصوم".

فصوموا يوم عاشوراء, واعلموا أن له فضلاً عظيمًا, جاء عند مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله).

أيها الإخوة .. هذه فرصة عظيمة من فرص الخير, فأحسنوا استغلالها, فاليوم الذي يمضي لا يعود, وما تعمله اليوم تلقاه غدًا, {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله .. إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

المشاهدات 2869 | التعليقات 0