وقفات مع فصل الصيف (1)

محمد بن إبراهيم النعيم
1439/11/13 - 2018/07/26 14:19PM

أيها الإخوة في الله: إن الدهور والأعوام، والليالي والأيام سنن الله تتعاقب في هذه الدنيا ولن تجد لسنة الله تبديلاً، وبتعاقبها وسيرها تتعاقب فصول السنة على الناس، فهذا فصل للصيف وذاك فصل للشتاء وذاك للخريف وذا للربيع، ومن حكمة الله تعالى ونعمته أن خص كل موسم بما يناسبه من الزروع والثمار واللباس فيه، ونوّع فيه الأعمال، لدفع السآمة عن الإنسان، والمؤمن الحق من وقف مع هذه النعم والحكم وتدبرها حق التدبر وشكر الله لأجلها قولاً وعملاً. ولأننا في فصل الصيف فإنني أقف معكم اليوم إخوة الإيمان بعض الوقفات الإيمانية لنعرف بعض الأحكام وبعض الآداب وبعض الأخطاء التي يرتكبها الناس في هذا الموسم.

 ففي الصيف يتخفف الناس من ثيابهم وتنكشف عن بعضهم عوراتهم ويُخِلُّوا بوضوئهم وصلواتهم ، وفي الصيف تعرض أفضل الصدقات وتهدر الأوقات وأمورا عديدة سنعرضها إن شاء الله تعالى في ثنايا هذه السلسلة من الخطب التي هي بعنوان وقفات مع فصل الصيف.

الوقفة الأولى: الصيف وتكشف العورات

 يتصف الصيف في دول الخليج بالحرارة الشديدة، وتحت وهج هذه الحرارة يتخفف بعض الناس من ملابسهم خصوصا في بيوتهم ويبقون بالسراويل القصيرة التي فوق الركبة أمام أولادهم وبناتهم الكبار بل وأمام خدمهم وخادماتهم. ولا شك أن هذا أمر منهي عنه لأن الفخذ عورة، حيث روى عبد الرحمن بن جرهد قال: كان جرهد-رضي الله عنه- من أصحاب الصفة قال: جلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندنا وفخذي منكشفةٌ فقال: "أما علمت أن الفخذ عورة؟" رواه الإمام أحمد وأبو داود.

 فينبغي ستر الفخذ حتى من الأبناء البالغين. كما يجب أن نعلم بأن الخادمة امرأة أجنبية عنّا وليست من أفراد العائلة، لا يحل لنا رؤيتها ولا أن ترانا متخففين من ملابسنا بصورة قد تؤثر على نفسيتها وتثير شهوتها.

والملاحظة الثانية في أمر تكشف العورات ما يحدث في برك السباحة، حيث يحلو في هذا الموسم السباحة في البحر وفي البرك العامة والعيون وإننا نسمع عن بعض مرتادي هذه الأماكن من يلبس ملابس سباحة غير ساترة تكشف معها الفخذ، ومنهم من يسبح بالسراويل البيضاء الطويلة وهي تكشف ليس الفخذ فحسب وإنما العورة المغلظة فالحذر الحذر من انكشاف العورات.

الوقفة الثانية: الصيف والإخلال بالوضوء

 ففي الصيف تشتد الحرارة ويكاد يخرج الماء من المواسير مغليا مبسترا ويتهاون بعض الناس في إسباغ الوضوء بسبب حرارة الماء الزائدة خصوصا عند غسل الوجه فترى بعضهم يضع الماء في كفيه ثم يرميه ثم يمسح وجهه مسحا حتى لا يحرق وجهه وهذا إخلال بالواجب لأن الواجب في الوضوء غسل الوجه وليس مسحه، فيجب التنبه إلى ذلك والحذر من عظيم إثمه حيث روى عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-أن رجلا توضأ فترك موضع أظفر على قدمه فأبصره النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ارجع فأحسن وضوئك" فرجع ثم صلى. رواه الإمام مسلم. وروى عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأى قوما وأعقابهم تلوحُ فقال "ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء" رواه الإمام مسلم وأبو داود.

فينبغي على كل مسلم أن يحرص كل الحرص على إسباغ وضوئه وأن يتحمل حرارة هذا الماء فهذا من إسباغ الوضوء على المكاره التي وُعد أصحابها بتكفير خطاياهم حيث قال -صلى الله عليه وسلم-: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟» قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» رواه الإمام مسلم. ومن لم يستطع تحمل هذا الماء فليخلطه بماء بارد لكي يسبغ وضوئه ولا يخل به.

وعند اشتداد الحر يعمد بعض الناس إلى كفت أكمامهم وتشميرها أثناء الصلاة أو قبل الدخول في الصلاة، وهذا أمر مكروه كراهة تنزيه حيث روى ابن عباس –رضي الله عنهما-عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ، وَلَا أَكُفَّ ثَوْبًا وَلَا شَعْرًا» رواه مسلم.

قال النووي –رحمه الله-(اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى النَّهْيِ عَنِ الصَّلَاةِ وَثَوْبُهُ مُشَمَّرٌ أَوْ كُمُّهُ أَوْ نَحْوُهُ) شرح النووي على مسلم (4/209).

الوقفة الثالثة: الحر والإخلال بالصلاة

ففي إجازة الصيف يشد معظم الناس الرحال إلى مكة المكرمة ولله الحمد لأداء العمرة والمكث في الرحاب الطاهرة، ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض المحرمين بسبب الحر أنهم يرمون الرداء أثناء الصلاة للتبرد ويصلون ليس على عواتقهم شيء، وهذا فيه مخالفة شرعية حيث أمر رسول الله r بتغطية الكتف أثناء الصلاة فقد روى أبو هريرة t أن رسول الله r قال: " لَا يُصَلِّي الرَّجُلُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ " متفق عليه.

 كما يحدث مثل هذا الأمر في البيوت. فعند اشتداد الحر وامتلاء الجسم بالعرق ينزع البعض ملابسه ويُبقي السراويل الطويلة ويصلي وليس على عاتقه شيء. فينبغي التنبه لذلك وأن يتزين العبد أمام ربه عند أداء الصلاة ولو كان في بيته.

الوقفة الرابعة: التقاعس عن صلاة الفجر

 إذا دخل الصيف طال النهار وقصر الليل واستصعب القيام على الكثير لصلاة الفجر بسبب تعودهم على النوم متأخرين. فالذي لا ينام إلا عند الساعة الثانية عشر ليلا فلا يبقى على أذان الفجر إلا ساعات قليلة لا تكفي لأخذ قسط وافٍ من النوم، فترى هؤلاء لا يستيقظون إلا بعد طلوع الشمس، وهذا منزلق خطير وكبيرة من كبائر الذنوب يقع فيها كثير من الناس خصوصا في فصل الصيف فيجب الحذر من التهاون في صلاة الفجر.

الوقفة الخامسة: تكثر إفرازات العرق من الجسم في فصل الصيف وتنبعث أحيانا منه روائح كريهة، ومن الناس من لا يكترث بنظافته الشخصية فيؤذي جليسه أو من جاوره في الصلاة برائحة العرق، فعليك أخي المسلم بالنظافة والإكثار من الاغتسال عند الحر والعناية بنتف الإبط وتطيبه واستخدام مزيل العرق إن أمكن لكي لا يتأذى من يجالسك أو من يصلي بجوارك.

 وقد وقَّت لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتف الإبط كل أربعين يوما لا نزيد على ذلك، حيث روى أنس بن مالك t قال: «وَقَّتَ لَنَا رسول الله r أَرْبَعِينَ يَوْمًا فِي حَلْقِ الْعَانَةِ، وَنَتْفِ الإِبْطِ، وَقَصِّ الأَظَافِرِ، وَقَصِّ الشَّارِبِ».

 أما المدخنون فما أنتن رائحتهم في الصيف خاصة مع خروج عرقهم. وكم من مصلٍ هرب من مكانه طلبا للخشوع حين جاوره مدخن قد تصبب العرق من جسمه.

فليتق هؤلاء المدخنون ربهم ولا يؤذوا ملائكة الله، ولا عباد الله فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم.

 

الوقفة السادسة: سنة غائبة

 روى أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَأَرَادَ الْمُؤَذِّنُ أَنْ يُؤَذِّنَ الظُّهْرَ فَقَالَ: «أَبْرِدْ». ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ فَقَالَ: «أَبْرِدْ» - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - حَتَّى رَأَيْنَا فَيْءَ التُّلُولِ، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، فَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ» رواه أبو داود.

 وروى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إِذَا كَانَ الْحَرُّ، أَبْرَدَ بِالصَّلَاةِ، وَإِذَا كَانَ الْبَرْدُ عَجَّلَ». رواه ابن النسائي.

فالسنة تأخير صلاة الظهر في الصيف حتى يظهر ظل يمشي فيه الناس وتعجيلها في الشتاء.

الوقفة السابعة: نعمة الماء البارد

 لقد جعل الله تعالى من الماء كل شيء حي، وتعظم منفعة الماء والحاجة إليه عند اشتداد الحرارة، وإن من أفضل ما تقدمه لإنسان عند اشتداد هذا الحر ماء بارد يطفئ لهب ظمأه. فالماء البارد من أعظم النعم التي سيُسأل عنها ابن آدم يوم القيامة وهو غافل عن ذلك، فهل استشعرنا هذه النعمة وأدينا شكرها وحمدنا الله عليها كلما شربنا؟ روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: " إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من النعيم أن يقال له: " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ - يَعْنِي العَبْدَ مِنَ النَّعِيمِ - أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنَ المَاءِ البَارِدِ؟ " رواه الترمذي والحاكم.

 وثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج يوما من منزله بسبب الجوع فلقي أبا بكر الصديق t في الطريق فسأله ما أخرجه فقال الجوع ثم لقيا عمرt فسألاه عما أخرجه فقال الجوع فمضوا حتى أتوا نخلا لأحد الأنصار ففرح بهم فضيفهم وذبح لهم شاة وقدم لهم عذقا من النخل  فيه بسر ورطب وماء باردا، فلما أكلوا وشربوا من الماء البارد قال -صلى الله عليه وسلم- "هذا من النعيم  الذي ستسألون عنه يوم القيامة".

 إن بعض الناس من حاله مثل الأنعام يأكل ويشرب ويرفل في نعم الله تعالى، لا يعرف حمدا ولا شكرا.

 فهل استشعرت عظيم نعمة الله عليك حين يسر لك من وسائل التبريد والتكييف ما تطمئن به نفسك وتتقي به حر الشمس وسمومها وتعيش في جو هادئ في بيتك وفي مسجدك أو في مكان عملك؟ بينما غيرك قد صهرته الشمس بلهيبها لقلة ذات اليد ونقص ما لديه من وسائل تبريد.

فاشكروا نعمة الله عليكم يرضى عنكم. وقد روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- «إِنَّ اللهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» رواه الإمام مسلم.

 فاعرفوا نعم الله عليكم يجددها لكم.

 بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الهدى والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا خسارة إلا على المتقاعسين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 أما بعد: لا يزال الحديث موصولا مع وقفات في فصل الصيف.

أما الوقفة الثامنة: فمع أفضل الصدقات. روى سعد بن عبادة -رضي الله عنه- قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمَّ سَعْدٍ مَاتَتْ، فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟، قَالَ: «الْمَاءُ»، قَالَ: فَحَفَرَ بِئْرًا، وَقَالَ: هَذِهِ لِأُمِّ سَعْدٍ. رواه أبوداود. وفي رواية «أَنَّ سَعْدًا أَتَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أُمِّي تُوُفِّيَتْ وَلَمْ تُوصِ أَفَيَنْفَعُهَا أَنْ أَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَعَلَيْكَ بِالْمَاءِ» رواه الطبراني. وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس صدقةٌ أعظمَ أجراً من ماءٍ" رواه البيهقي.

 فهذه دعوة في هذا الموسم بسقي الماء البارد وإصلاح برادات المساجد والمدارس والأماكن العامة وكذلك برادات وثلاجات الأسر الفقيرة فإن ذلك من أعظم الأجور في موسم الصيف.

ومن المعلوم أنه كلما كانت الصدقة أعظم نفعا للفقير كلما عظم أجرها وثوابها عند الله -عز وجل-ولا أنفع للفقير في هذا الموسم الحار من إصلاح ثلاجته أو مكيفه.

فتحسسوا حاجة فقرائكم في هذا الجو الحار وقدموا لأنفسكم أعظم الأجور في فصل الصيف. وخذوا مثالا من أنفسكم في هذا المسجد فلولا وجود هذه المكيفات لما استطاع أحد الجلوس في هذا المكان دقيقة واحدة، فكم هو أجر من وضع هذه المكيفات أو ساهم في إصلاحها.

أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعيننا على فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.                                     

                                          20/4/1424هـ

المشاهدات 916 | التعليقات 0